المطالعة في أدبيات الربيع العربي قراءة مثقلة بالشجون، لأنها تناولٌ لحدث سياسي فريد في العصر الحديث لم يتم استثماره لمصالح الشعوب المعنية. فقد بقي الحدث فريدا في الزمان والمكان، خارقا لتقاليد الثورات العربية، ومثنيا عن المتوقع السياسي في المنطقة. ومع ذلك، ما طفقت مآثره تتلاشى عن الأنباء، بل انبرت ذكراه مدهوسة في حضيض الكلام، حتى غدت منعوتة بـ"ثورة الشؤم"، "ثورة تقتل باسم الأديان،" والخريف العربي وغيرها. صحيح القول: إن بعض شعوب المنطقة لا تزال تكتوي بلهيب الحدث في سوريا، وليبيا واليمن، لكن هذه المنعطفات المؤلمة لا تبرر التشاؤم الانهزامي، فليست الثورات كلها وبالا في تاريخ الشعوب.
فقد كان زهوو زوأنلي، حكيم الدبلوماسية الصينية في عهد الزعيم ماو تسي تونج، متحفظا على الحكم على الثورة الفرنسية، بعد مضي أكثر من مئة سنة عليها، مشيرا إلى صعوبة الحكم على الثورات ومآلها، لأن التغيير قلما يكون مباشرا أو ملموسا للجميع، أو حتى لمعاصريه. فالأعمال التي جمعت في مؤلف "الفيدراليون"، وأدت إلى بروز الولايات المتحدة الأمريكية كنظام فيدرالي ذي دستور موحد لثلاث عشرة مستعمرة، بدأت كدراسات تحليلية للثورة الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني عام 1775.
كما جادل المؤرخ السنغالي شيخ أنتا ديوب، وبعد نشر كتابه الشعوب السوداء والثقافة (Nations Nègres Et Culture)، لتطوير مدخل جديد لفهم مراحل الهبوط والصعود لدى الأمم، ومن ضمن أطروحاته أن الشعوب بثوراتها. فبتواليها، تتقدم. وبانعدامها، وقلتها، تتأخر، وضرب مثلا بالشعوب الإفريقية والعربية. ولا تبعد هذه الفكرة من حيث المنطق عن موقف عالم الاقتصاد التركي تيمور كران. غير أن الأخير أثار سخط البعض في سياق كتابه الذي نشره جامعة برينستون الأمريكية في عام 2012، حين سماه ـ ""التباين المبين: دور القوانين الإسلامية في تخلف الشرق الأوسط."
أطروحة كران تستند إلى أرقام ومقارنات لتثبت أن غياب تغيير جدري ثوري في العرف الاجتماعي الإسلامي أثر سلبا فى اقتصادات المجتمعات الإسلامية، وعراها منذ القرن العاشر الميلادي من قدرتها على مواكبة وسائل الإنتاج الجديدة، وبالأخص الغربية منها. فالشعوب تنهض ليس فقط بالاحتفال بماضيها، بل أيضا بمراجعة هذا الماضي، والتشكك في بعض مسلماته. ولعل الروائي البريطاني الراحل جورج أرويل يذكر في هذا السياق أن "الثورة قد تكتمل فقط حين يتم فرز لغتها،" فلسان الربيع العربي لم يتم بعد التأكد من لغاته، أو التبين من لكناته.
موجات التغيير
فمن حيث الخصوصية المكانية، فسبق أن دوّنّا في بحث سابق أن العالم العربي هبّت عليه أربع موجات من التغيير منذ باكورة القرن الماضي. فالأولى عرفت بالثورات الوطنية ضد الحكم العثماني في منطقة الخليج واليمن، متمثلة في حركات الشريف حسين بن علي. والثانية امتدت تنصرف إلى الثورات الوطنية ضد الهيمنة الغربية الاستعمارية، ومن أمثلتها الثورة المهدية في السودان، وثورة العراقيين بقيادة رشيد علي الكيلاني، وثورة عرابي في مصر.
ومن تجليات هذه الحركة الثورية، أيضا، ثورة الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي في ستينيات القرن الماضي. وقد يرى بعض الكتاب، مثل المناضل خالد الحسن، الانتفاضات الفلسطينية في قلب هذه الحركات الثورية. أما الموجة الثالثة من مراحل التغيير، فتتعلق بحركات الجهاديين، بدءا من تسعينيات القرن الماضي بقيادة أسامة بن لادن، وكانت بدايتها موجهة ضد الأمريكان، ومن والاهم في الغرب من الأوربيين، أو في الشرق من الإسرائيليين، والتي سماها بن لادن ـ"التحالف الصليبي- الصهيوني". ومعروف لدى المحللين أن فشل هذه الحركة الجهادية، وما آلت إليه من انشطار أو اندثار، كان نتيجة عدم واقعية مطالبها، وتناقض أهدافها.
أما الموجة الرابعة والأخيرة من مراحل التغيير، فهي الثورات العربية ضد الحكم القومي الاستبدادي. والسودان من أكثر الدول العربية عرضة لهذا النوع من الثورات، بما فيها ثورة أكتوبر 1964 ضد الجنرال إبراهيم عبود، وثورة الشعب ضد الرئيس النميري في مارس 1985، وكذلك ثورات الأكراد في العراق، والإخوان المسلمين في سوريا ضد نظام الأسد الأب. وتعد ثورات الربيع العربي امتدادا نوعيا لهذه الأخيرة، ومختلفة عنها من حيث نهجها السلمي في مصر وتونس.
الربيع العربي وتفسيرات مختلفة
هذا الإطار التاريخي السردي ما فتئ غائبا في تعرض الدارسين لظاهرة الربيع العربي، فاختلاف تسمياتهم لهذا الحدث ينم عن تباين تفسيراتهم لها. فيستخدم جيمس غلوين مصطلح الانتفاضة العربية في كتابه "الانتفاضة العربية.. ما يجب أن يعرفه الجميع"، وكذلك يتبنى الباحث الأمريكي مارك لينج المصطلح نفسه في كتابه "الانتفاضة العربية: الثورة المبتورة". ولا يخالفه العالم جيري بووين في تبني المصطلح في كتابه " الانتفاضة العربية" . ويبدو للمتأمل في هذه الأسفار وشبيهاتها، وهي كثيرة، أن المؤلفين يستنكفون من استخدام الثورة افتراضا لعدم توافر مواصفاتها في هذه التغييرات غير الجذرية.
يشاركهم في هذا المنحى الكثيرون من الإسلاميين ومناصريهم من الأكاديميين في الغرب. فمثلا، يرفض الدكتور طارق رمضان استخدام كلمتي الثورة أو الانتفاضة، ويصف الحدث بـ" اليقظة" wakening استنقاصا من شأنها وقدرتها على تغيير الواقع العربي المرير. وفي هذا الإطار، يقص علينا رمضان في كتابه "الإسلام والنهضة العربية" أن الجمهور "سوقوا إلى هذه الثورات"، ولم يكن بوعي تلقائي منهم.
هذا التحليل يبدو صحيحا للمحلل الذي يرنو إلى الأحداث من منظور وسائل الإعلام الاجتماعي، لكنه غير دقيق للمتابع لحركة تداول التاريخ بين حضارات الشعوب. وعلى غرار رمضان، يُظهر المفكر التشيكي Salvoj Zizek في تحليله لأحداث المنطقة منحى مؤامراتيا يصبو إلى لوم الآخر وتبرئة الشعوب عن المسئولية المباشرة، بل والوعي النضجي في حركاتها وقراراتها.
ويبدو غير وارد عند هؤلاء أنه بقدر ما يجردون الشعوب المعنية من القدرة على المبادرة الذكية، ويقللون من قدرة الناس على فهم الواقع، والتكيف معه، يكون بقدر ما يؤيدون منطقة التدخل الغربي وهيمنته التسلطية على مصائر الشعوب.
ومنطق هؤلاء الأكاديميين ليس ببعيد عن منطق فلاسفة "إدارة التوحش" من الجهاديين الذين يتصورون عامة الشعوب الإسلامية فاقدي عقل وذوق، كما يقول أبوبكر ناجي عن هذه الشعوب "تم تدجينها، وتغييب وعيها بآلاف من المُلهيات، سواء من جانب شهوات الفرج والبطن، أو اللهاث خلف لقمة العيش، أو اللهاث لجمع المال." وجدير بالتنبيه إلى أن القدرة على استعمار الآخر لا تتأتى إلا بوجود القابلية للاستعمار على مساق الأستاذ مالك بن نبي، وهذا، افتراضا منا، تقديس لعبقرية المستعمر.
فالمنطقة العربية أصبحت بؤرة للنزاعات السياسية، والدينية، والعصبية، ومن الترف الفكري لصقها دائما بمشكلات القوى الخارجية، ومؤامرات القوى الاستعمارية. فقد أضحى العالم غرفة مصغرة، يقطنها أفراد وأسر متألبة لمصالحها الاقتصادية والسياسية فيها. ومما يؤثر عن مهندس الدستور الأمريكي جيمس مديسون قوله: إن الدول لها مصالح دائمة، ولا أصدقاء دائمون. وبما أن العولمة انتهاك لسيادة الدول وتبديلها بالجماعات والكتل المصلحية، يصح تعديل النص بأن هذه الكتل، عربية كانت أو غربية، لها مصالح مشتركة لا تندرج تحت مسميات الوطنية أو القومية.
وكان العالم الأمريكي بينديك أندرسون قد غير مسار الخيال الأكاديمي عام 1983 بأطروحة نهاية الدولة القطرية، وبزوغ سيادة المجتمعات الافتراضية مكانها. ولم تكن صرامة الأطروحة في عبقرية النظرية، بل كانت في نصاعة واقعيتها، وعدم حاجتها إلى التفسير. وقد أومأت في كتاب لي عن أمريكا: الإسلام والسودان إلى دور قاطني المهجر الأمريكي من أبناء جنوب السودان في استقلال الجنوب، بل في صعود أبناء دينكا إلى قمة الدولة الجديدة، وهناك دراسات أيضا في هذا السياق عن أقباط المهجر في مصر، والأكراد في العراق، والإسماعيليين في طاجيكستان.
كما أن هناك كتابين نشرا العام الماضي، وعُدا من أحسن ما جاد بها العام من الأعمال الفكرية، وقد نجحا في تشخيص محور العالم العربي- الإسلامي في المنظومة الدولية المنشودة. الكتابان هما" المنظومة الدولية" لوزير الخارجية الأمريكية الأسبق، هنري كيسنجر، و" النظام الدولي والانهيار السياسي" لفرانسيس فوكوياما. المؤلفان يعدان عقلين كبيرين لهما وزنهما في عالم الدراسات المستقبلية، ويسلطان الضوء على المحاور الدولية التي يجب أن تكتنف فقهنا للمظاهر المحلية الخارقة مثل الربيع العربي.
إشكال المحاسبة السياسية
ويبني البروفسور فوكوياما، وهو صاحب كتاب "نهاية التاريخ"، آراءه على إرث شيخه صميويل هنتنجتون، صاحب نظرية "صراع الحضارات"، ليبين أن الديمقراطية الليبرالية لا يتسنى لها الوجود في غياب ثقافة المؤسساتية، وأن نجاحها اليوم في بقاع مختلفة من المعمورة خارج العالم الغربي مرتبط برسوخ ثلاث ظواهر، هي: دولة قوية ذات شوكة، وحكم القانون ، والمحاسبة السياسية. وأنكر تدخل الولايات المتحدة في العراق لتصدير أو فرض هذه المؤسسات، مدعيا بأنها مكاسب ثقافية مرتبطة بتطورات زمانية أو مكانية، كما بين توجسه من محاولات زرع الديمقراطية في العراق. ويمثل جزء كبير من الكتاب سردا وأمثلة لكل من هذه الظواهر الثلاث، مناقشا كيف اقتنتها الدول تدريجيا واحدة بعد الأخرى، أو جملة واحدة. والملاحظ في تحليل الكتاب أن العالم الإسلامي، بما فيه العربي، واجه تاريخيا إشكالية "المحاسبة السياسية"، ولا مفر له إلا بحل هذه المعضلة.
وليس في هذا جديد لمن له إلمام بآراء فوكوياما التي غالبا ما يُرجع أسباب ترهل الديمقراطية في العالم العربي إلى تجذر العصبيات القبلية والدينية. وجدير بالذكر أن الشيخ عبد الرحمن الكواكبي كان قد نبه إلى نقطة مثيلة في كتابه عن "طبائع الاستبداد"، حيث ذكر أنه "لا نجاة، ولا مخرج، ولا إمكان لمحاسبة النفس، فضلا عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنظام. وهذا الإهمال للمراقبة، وهو إهمال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد، وتجاوز الحدود."
وعلى كل، فالجزء الأهم في كتاب فوكوياما هو إنذار للولايات المتحدة بأن الانحطاط السياسي من سنن الحياة، وواقع لا محالة، وأن المنقذ الوحيد هو تجديد النظام السياسي، والحد من دور أصحاب المصالح الخاصة في صناعة القرار السياسي.
أما كتاب كيسنجر، فيتناول صميم التطورات في العالم اليوم بعقل شيخ أرهقته الهموم، وقلب شاب استهوته الآمال، فهو مبشر بالممكن، ومنذر بخطر فوضى سياسية داهمة لم تحدق بحياة البشرية من قبل. ففي بداية الكتاب، يصرح بأنه لم يكن هناك نظام عالمي من قبل، وأن التجربة الحالية ليست مستثناة من قاعدة الحكم، لأنه نظام أوروبي المنشأ والغرض، وقد أنتج في أوروبا منذ أربعة قرون. ولكي تنقذ العالم من مشاكله الحالية، لا بد من تبديله بنظام متواز، وممثل للعالم كما هو اليوم. ولا يخفي الشيخ كيسنجر توجسه من حركة الإسلام الجهادي لكونه مصدر تهديد أساسيا لأي نظام عالمي. ويتطرق إلى سرد رائع في إطار الإجابة على ثلاثة أسئلة: إلى أي مدى، كانت حركة الإسلام السياسي عامل تهديد للنظام العالمي خلال الألفية الماضية؟، وإلى أي مدى، تمثل حركة الإسلام السياسي اليوم عامل تهديد للنظام العالمي؟، وما هي الدروس التي يمكن استنباطها من علاقة أمريكا بإيران، خلال الأعوام الخمسين الماضية؟.
ومن العبرات التنبئية الثقيلة لما يحدث في أوروبا اليوم تجاه المهاجرين المسلمين قول المؤلف: إن "أوروبا معلقة بين ماض ثقل عليها تجاوزه، ومستقبل لم تتبين منه بعد." وهناك قسط كبير في الكتاب يحلل النزاع العربي- الإسرائيلي بدقة غير معهودة في الكتابات الأمريكية، فيقسم الموقف العربي تجاه إسرائيل إلى ثلاث مجموعات: قلة ساكتة، وهي تؤمن بإمكانية التعايش السلمي، ومجموعة عريضة لا تسعى إلا لمحو إسرائيل من الوجود، وأخرى مستعدة لمحاورة إسرائيل بقدر ما تسمح لها أوضاعها الداخلية، راجية طمس يهودية الدول في الوقت المناسب.
سيكولوجية الثورات
هناك ركيزتان مهمتان كمدخل لدراسة الثورات العربية، الأولى مرتبطة بسيكولوجية الثورة في الذاكرة العربية- الإسلامية، والتي يمكن إرجاعها إلى الصورة السلبية التي تناولت بها أخبار ثورة الزنج، وهي أول حركة ثورية لا دينية في التاريخ الإسلامي. فمع أن القدر اليسير مما وصل إلينا عبر بعض الشعراء المستقلين يرمز إلى نبل أهداف الثوار، ومطالبتهم للعدالة الاجتماعية، فإن لسان السلطان الذي استغل شعراء القصور، واشتغل المدونين، حال دون وصول الحقيقة التاريخية إلينا.
فتذكر كتب التاريخ الرسمية كيف قام جيش السلطان بتخريب الأسواق، وإبادة الحرث والنسل، وحرق المدن، بما فيها مدينة الثوار المعروفة بـ"المختارة". وحتى المرجع الوحيد لوجهة نظر الثوار المشار إليه "بأخبار صاحب الزنج ووقائعه"، لمؤلفه محمد بن الحسن، تم حرقه بأمر السلطان. وفي ظل هذه الملابسات، ليس بغريب أن يسلط الإمام الطبري أكثر من مئتي صفحة من كتابه تاريخ الرسل والملوك في انتقاد هذه الثورة، وهو شيء لم يكن معروفا به في روايته لأخبار أخرى مشابهة . ولا يخفى على القارئ المتأمل لما كتبه المؤرخون أقران الطبري، مثل ابن كثير، واليعقوبي، ما يشوب وصفهم لهذه الثورة من أحكام انتقاصية شمولية، مثل الفتنة، والخبيث، والطاغوت، واللعين، دونما إعطاء سند علمي لهذه المناداة بالأسماء. هذه الرواية السلبية التي أرفدت إلينا أول تجربة ثورية، وكيف جابهها السلطان بالحديد والنار، هي التي اعتمدها المؤرخون كوسيلة مثلى للخروج من فتنة الثورة، ومخالفة أهل الحل والعقد.
وما أشبه اليوم بالبارحة في كثير من بلاد المنطقة. وقد يكون أبوبكر ناجي منظر الجهاديين صائبا، حين كتب منتقدا أن مصطلح الفتنة "نفسه تسبب عدم تحريره في الوقوع في الفتنة! فما هي الفتنة التي يجب على المرء أن يعتزلها؟، وما هي الفتنة التي يجب على المرء أن يكون وسطها وفي معيتها، فإذا مات مات شهيدا؟، والتي تكون فيها الفتنة في اعتزال الفتنة."
مسألة الحرية
أما الركيزة الثانية المساعدة كمدخل لدراسة الربيع العربي، فهي مرتبطة بمسائل الحرية وفلسفتها. فقد كنت ألمحت في باكورة الربيع العربي إلى أن مشكلة الرئيس الأسبق، مبارك، هي نفسها ستكون مشكلة الإسلاميين، لو قدر لهم الوصول إلى السلطة. فمطالب الجماهير ترتبط بمسألة الحرية أولا، وهي شائكة لم تتناول كتابات الإسلاميين أبعادها التطبيقية. فالحرية مبدأ في الحداثة، بينما الفكر الحركي الإسلامي الحديث ولد وترعرع في منتزه الأصالة، ولم يأبه بمسائل الحرية، إلا بقدر ما يحتج بها الحركيون ضد السلطان، وتفضح بها الحكومات الوطنية على مرأى العالم و مسمع من الملأ.
وصلب الموضوع هو أنه ليس هناك تراكم معرفي حول ماهية الحرية، لا أقصد أسلمة الفكر، كما تجلت في بعض المجادلات، بل أقصد معنى ومبنى الحرية، وأسئلة الموازنات، ومواكبات بين الحرية الإيجابية التي هي مرتكز مطلب السلطان، والحرية السلبية التي لا يستقيم أمر الديمقراطية الليبرالية إلا بحمايتها للجميع. أذكر أن عزيزي البروفيسور السوداني، حسن مكي، قد نبهني يوما إلى أن "الحرية ليست من مقاصد الشرع،" وكان محقا في الإشارة إلى أنها إذن لا تكون من أولوية الإسلاميين حين يصلون إلى سدة الحكم. وكلامه كان صحيحا مبنى ومعنى.
يكتب الناقد الإفريقي-الأمريكي الراحل جيمس بلدوين "أن هذه المفاهيم، مثل الحرية والعدالة والديمقراطية، ليست معانيها صدفية، بل هي خاصة، لا يولد الناس ملمين بها، وفهمها يتطلب جهدا. وفوق كل ذلك، يحتاج إلى مجهود فردي للوصول إلى مبدأ احترام الآخر المطلوب في هذه المفاهيم."
إذن، فالمطلوب هو إعادة ترتيب هذه المفاهيم، كي تخدم أبناء البلد في إطار احترام حرية الأفراد، واستقلالية المؤسسات والمعتقد. وليس هناك شك فى أن الدراسات العربية الإسلامية، بوضعها الحالي، وتركيزها على تفكيك معاني التراث، متجاهلة سنن الحياة، وطبيعة بني الإنسان، قد أسهمت في تهميش مفاهيم الحرية، وتأزيم الوضع السياسي.
فهناك حاجة ملحة إلى مراجعة قصة الربيع العربي في جذورها، وطرح مقاربات قشيبة (مختلطة) لفهم مبانيها خارج الواقع الموروث. على الدراسات تدقيق النظر في التاريخ الموروث لتحسين البصيرة تجاه المستقبل المنشود. لقد أحسن الدكتور عماد عبد اللطيف في كتابه "بلاغة الحرية"، حين صور كيف أن شارع الربيع العربي أحسن الاختيار إخلاصا وإبداعا، لكن الخاصة من علمائه وسياسييه فشلوا في صيانة الإرث الإبداعي، وأبوا إلا المكوث في الحضيض الفئوي، وسياسة الإقصاء.
إنني لمؤمن بمسئولية الباحثين والأكاديميين "المقدسة" عن حمل رسالة النهضة والتطوير من خلال نبش أخبار الربيع العربي، ونقد البديل الحالي المطروح في سبيل فتح آفاق للأمل والخيال، وهذا لا يتأتى إلا باستقلالية في التفكير، ومنهجية التمرد الفكري على المألوف المعروف.