جاءت نتيجة الانتخابات اليونانية، خلال شهر يناير 2015 ، لتؤكد أن الشعب اليوناني يرفض تحمل برامج التقشف القاسية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي عليه، مقابل انتشال البلاد من أزمتها الاقتصادية الخانقة. وأدى انتخاب اليونانيين لسيريزا، اليساري المناوئ للسياسات التقشفية، والمعادي لما سماه التدخل الألماني في اليونان ليطرح احتمال أن ينفصل اليونان عن الاتحاد كلية.
غير أن هذه السياسات الأوروبية قد لا تؤدي فقط إلى انفصال بعض الدول عن الاتحاد، بل إلى تدعيم الحركات الانفصالية داخل بعض الدول الأعضاء التي تعاني الظروف نفسها، ومنها إسبانيا، والتي بدأت بعض الأقاليم، التي لا تريد تحمل توابع الاستدانة، وبرامج التقشف، إعلان رغبتها في الاستقلال.
يأتي إقليم كاتالونيا شمال شرق إسبانيا على رأس هذه الأقاليم التي تسعى إلى الاستقلال، ثم تقديم نفسها إلى الاتحاد الأوروبي بوجه جديد بعيدا عن الوجه الإسباني الذي أرهقته الأزمة الاقتصادية. فهل يؤدي الضغط الذي تمارسه كل من ألمانيا، وفرنسا، والدول الرائدة في الاتحاد الأوروبي على دول، مثل اليونان وإسبانيا والبرتغال، إلى تغييرات قد تعصف بالسياسة الداخلية، وليس فقط بالعلاقات بين الدول الأعضاء بعضها بعضا؟.
الاستفتاء بين القومية والمصالح الاقتصادية
عادت الحركة القومية الانفصالية في كاتالونيا إلى النشاط أخيرا، رغم أنها كانت قد هدأت نسبيا منذ إقرار قانون الحكم الذاتي في عام 1979. وتقدم الحركة حاليا محفزات جديدة على الانفصال لا تقتصر على قومية ولغة متفردة حفظها الكاتالونيون عبر مئات السنين. فالظروف التي تعانيها إسبانيا، والخطط التقشفية التي يعمل رئيس الوزراء الإسباني، راخوي، على تطبيقها بحزم هي التكئة الجديدة التي يستخدمها السياسيون الانفصاليون في كاتالونيا ليقنعوا القوميين وغير القوميين على حد سواء بضرورة الانفصال عن المملكة المرهقة.
فالحركة حاليا ترى أن تأسيس دولة مستقلة هو الخطة المستقبلية العادلة الوحيدة التي يستحقها الكاتالونيون، وهو ما دعا الأحزاب المؤيدة للاستقلال، والاتحادات العمالية والحركات الشعبية المختلفة إلى تأسيس منظمة "التجمع القومي الكاتالوني" لتحقيق ذلك الهدف، الذي تسيد الوعود الانتخابية خلال انتخابات البرلمان المحلي في 2012 ، ومكنت آرتور ماس -وحزبه التجمع والوحدة الكاتالوني- من الفوز برئاسة الإقليم، وأغلبية المجلس.
وكانت استطلاعات الرأي بشأن رغبة الكاتالونيين في إعلان دولة مستقلة، والتي أجراها مركز دراسات الرأي Centre d'Estudis d'Opiniَ CEO قد جاءت عام 2005 بنسبة 13.5 % تأييدا للاستقلال، ثم قفزت هذه النسبة لتصل إلى 34% عام 2012 خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة. أما في النصف الثاني من عام 2014 ، فقد وصلت إلى 40.5 %. لكن التصاعد الحقيقي في الرغبة الانفصالية يمكن رصده في بداية عام 2009 في ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية، وكذلك عام 2011 مع تولي راخوي رئاسة الوزراء، ثم تبنيه للخطط التقشفية التي طرحها الاتحاد الأوروبي مقابل الديون الإسبانية.
لقد تم إجراء استفتاء حق تقرير المصير –بصورة رمزية غير ملزمة- بالفعل في التاسع من نوفمبر 2014 ، وجاءت النتائج لتعلن أن 81% من المشاركين يوافقون على الانفصال، وإعلان دولة مستقلة، بينما أيد 10% الانفصال دون إعلان دولة مستقلة. وأعلنت الحكومة المحلية أن 2.3 مليون قد شاركوا بالتصويت، دون أن تعلن نسبة المشاركة النهائية للمصوتين، وهو عدد كبير، خاصة أن المحكمة الدستورية كانت قد أصدرت حكما يمنع إجراء الاستفتاء، استنادا إلى الدستور الإسباني الذي ينص على أن إسبانيا أمة موحدة لا تنقسم، وبالتالي فإن انفصال الإقليم يعد إسقاطا للدستور، وهو مالا يمكن السماح به.
لكن آرتور ماس هو من يدفع الثمن حاليا، حيث يخضع لاستجواب قانوني، وسلسلة من التحقيقات المكثفة منذ نهاية ديسمبر الماضي، على أساس أنه تحدى حكما أصدرته أعلى سلطة قانونية في البلاد، وهو ما قد تكون نتائجه حرمان هذا السياسي المخضرم من ممارسة العمل العام ما تبقى له من العمر. وقد علق الانفصاليون في الإقليم بأن ما تفعله مدريد ليس إلا إرهابا سياسيا وفكريا لمنع القيادات الانفصالية من الاستمرار في التنسيق والحشد لفصل الإقليم عن إسبانيا.
هل يحقق الاستقلال طموحات كاتالونيا؟
بنى الانفصاليون الكاتالونيون حملتهم الأخيرة على ركزيتين رئيسيتين: الأولى هى القومية التاريخية والرغبة الانفصالية التي كثيرا ما راودت الكاتالونيين، بل وأدت بهم –ضمن عوامل أخرى- إلى الانخراط في الحرب الأهلية الطاحنة في ثلاثينيات القرن الماضي. أما الركيزة الثانية والأخيرة، فهى العامل الاقتصادي الذي اعتمدوا عليه لاستقطاب من لا تمثل لهم القومية أهمية كبرى، ويفضلون حسابات المكسب والخسارة على المغامرات السياسية.
وفي دراسة اقتصادية، تم الترويج لها بحماسة في الإعلام الكاتالوني، حللت نوريا بوش (أستاذة اقتصاد بجامعة برشلونة) النتائج الاقتصادية المحتملة لإعلان الدولة المستقلة. جاء في الدراسة أن كاتالونيا تقدم 19% من إجمالي الناتج القومي الإسباني، فالناتج المحلي الكاتالوني الذي يذهب إلى الموازنة العامة في مدريد يصل إلى نحو 49 مليار يورو سنويا، ينفق منها داخل الإقليم 35.4 مليار يورو، ويتحقق فائض يتجاوز 13.6 مليار يورو، وينفق هذا الفائض على الأقاليم الأخرى، وعلى تغطية الدين العام الإسباني الكبير. ومن هنا، أصبح رقم 13 مليارا يتردد في كل التجمعات والندوات لحشد المزيد من المؤيدين للانفصال.
ورغم أن ماس قد حاول أكثر من مرة التفاوض مع مدريد، ومع رئيس الوزراء راخوي على منح كاتالونيا استقلالا ماليا يرضي مواطنيها، ويثنيهم عن فكرة الاستقلال، فإن راخوي رفض الفكرة، وأعلن أن مدريد لن تدخر جهدا من أجل إيقاف أي محاولة لانفصال الإقليم.
سيناريوهات محتملة
لن يكون استفتاء نوفمبر نهاية المطاف، حيث لم يكن المحاولة الأولى لطرح تقرير المصير على الكاتالونيين. وبذا، فإن أحد سيناريوهات ثلاثة من المحتمل أن تظهر في الشهور أو الأعوام القليلة المقبلة للتعامل مع رغبة الإقليم في الاستقلال:
أولا: أن ترضخ الحكومة المركزية لمطالب الاستقلال المالي والاقتصادي عن مدريد، وأن يتخلى الكاتالونيون بدورهم عن فكرة الاستقلال الكامل.
ثانيا: أن تقبل مدريد طرح الاستفتاء الذي سيأتي –على الأغلب- بتفضيل انفصال الإقليم، ومن هنا ستبدأ المفاوضات مع كاتالونيا حول تفاصيل الاستقلال.
ثالثا: أن يصر الكاتالونيون على الاستقلال، وتعلن كاتالونيا استقلالها من طرف واحد، وبذا ستبدأ مدريد في شحذ الجهود المحلية والدولية لمنع الاعتراف بكاتالونيا كدولة مستقلة.
لكن ما يحدد طبيعة المسارات الثلاثة هو مجموعة من الأسئلة الشائكة على أصعدة مختلفة، يأتي الاقتصاد ليشكل أهمها في الوقت الراهن متقدما على الحسابات السياسية والثقافية التي كثيرا ما تصدرت المشهد سابقا. فرغم الترحيب الكبير بالنتائج الإيجابية المتوقعة لاستقلال الإقليم، فإن هناك اعتبارات اقتصادية عديدة لا تصب في مصلحة الاستقلال تم تجاهلها، إما عن عمد وتدليس، أو بفعل الحماس، ومنها:
- نواحى الإنفاق العام الذي تغطيه مدريد، والذي ستصبح كاتالونيا المستقلة مطالبة به، مثل ميزانية الدفاع العسكري، وميزانية التمثيل لدى الدول الأجنبية.
- منشآت البنية التحتية والأصول الكبرى التي سترفض إسبانيا تركها لكاتالونيا دون تعويض، ومنها المطارات، والمستشفيات، والمدارس، والاستادات الرياضية، والمواصلات العامة، وحتى بنية الاتصالات، وكذلك المنشآت العسكرية، خاصة أن إسبانيا قد ضخت مليارات في الإقليم خلال الثمانينيات، تهيئة لاستضافة برشلونة دورة الألعاب الأولمبية عام 1992 .
- تمثل التجارة البينية مع بقية الأقاليم الإسبانية نسبة 50% من التبادل التجاري الكاتالوني، ويرى المحللون أن الأقاليم الإسبانية الأخرى- بإيعاز من الحكومة المركزية والسياسيين الوحدويين- ستتوقف عن النشاط التجاري مع كاتالونيا كعقاب على الاستقلال. وهذا الطرح ليس افتراضيا أو تخيليا، حيث إن حملة شعبية إسبانية كبرى ومؤثرة اندلعت عام 2004 لمقاطعة البضائع الكاتالونية، خاصة النبيذ الكاتالوني، وذلك عندما رفض بعض السياسيين الكاتالونيين دعم حملة مدريد لاستضافة أوليمبياد 2012.
- هل ستقبل كاتالونيا المستقلة تحمل جزءا من تكلفة الدين العام الإسباني؟، كيف ستحسب هذه النسبة؟، وهل ستقبل الإدارة الكاتالونية سدادها أم لا؟.
- وفي حالة الاتفاق على كل ما سبق: هل سيُطرح رقم 13 مليار يورو كأحد أهم مكاسب الاستقلال، أم أن تكلفة الانفصال سوف تجعل دولة كاتالونيا تولد محملة بأعباء الديون؟.
عواقب الانفصال
كان وزير العدل الإسباني، ألبرتو جاياردون، قد ألقى كلمة غير رسمية في حفل عشاء في برشلونة خلال صيف 2014 ، ضم العديد من رجال الاقتصاد والأعمال، قال فيها إن العواقب الاقتصادية لانفصال كاتالونيا عن إسبانيا ستكون وخيمة، حتى إن إسبانيا وكاتالونيا المستقلة لن يصمد أي منهما في منطقة اليورو. وهو التصريح الذي تلقفه الانفصاليون، وبنوا عليه دعايتهم حول مدى اعتماد إسبانيا على كاتالونيا اقتصاديا. وفي المقابل، يطرح اقتصاديون متمرسون الأسئلة المتشككة السابقة. وبين الاثنين، لا يبدو مستقبل الدولة الوليدة الاقتصادي واضحا.
لكن أعين الانفصاليين الكاتالونيين وأطروحاتهم كلها لا تزال منصبة على البقاء في الاتحاد الأوروبي، وفي منطقة اليورو بعد استقلال الإقليم. لذا، فقد رفع المشاركون في الاستفتاء أعلام الاتحاد الأوروبي، ووضعوا خريطة مصغرة لكاتالونيا كأحد النجوم على العلم، مؤكدين رغبتهم في الانضمام إلى الاتحاد كعضو نشط اقتصاديا. ولا يزال الاتحاد الأوروبي يتحفظ على التعليق، على أساس أن الأمر شأن داخلي إسباني.
وخرج مسئولو المفوضية الأوروبية ليعلنوا أن هذه أول مرة يدرس فيها انضمام دولة للاتحاد، بعد انفصالها عن دولة عضو بالفعل. وأكد المسئولون أن الحالة الكاتالونية ستدرس على مهل، وبالتفصيل حال إعلان الدولة، كما أنه سيؤخذ في الحسبان الطريقة التي سيتم بها الاستقلال، ورد فعل مدريد. كان الكاتالونيون يطمحون في أن يأتي استفتاء اسكتلندا في سبتمبر 2014 بالإيجاب ليقيسوا ردة الفعل الأوروبية على أرض الواقع، إلا أن الاسكتلنديين خيبوا آمالهم بتفضيلهم البقاء تحت لواء المملكة المتحدة.
وعندما يدفع الكاتالونيون بأن معظم الدول التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي أخيرا هي دول انفصالية حديثة، مثل جمهوريات التشيك، وسلوفاكيا، وجمهوريات البلطيق، يرد عليهم الخبراء بأنه في حالة الاستقلال، ستكون كاتالونيا أول دولة تطلب العضوية بعد الانفصال عن دولة عضو بالفعل. ويرى الانفصاليون مخرجا آخر متمثلا في الدستور الإسباني الذي ينص على أن الجنسية الإسبانية لا يمكن سحبها أو إسقاطها، مقابل قوانين الاتحاد الأوروبي التي تعد كل مواطني الدول الأعضاء مواطنين أوروبيين.
إسبان أم أوروبيون؟
إذن، فالسؤال هو: هل سيصبح الكاتالونيون- وهم إسبان دستوريا حتى بعد الاستقلال- مواطنين أوروبيين في دولة غير أوروبية؟، أم أن وضعهم هذا سيعني أن تصبح دولتهم تلقائيا عضوا بالاتحاد، مادام مواطنوها يحملون هويته؟.
يبدو أن الاتحاد الأوروبي الذي تأسس في الأصل لتحقيق مكاسب اقتصادية لأوروبا الموحدة سوف يتسبب في توجيه السياسة الداخلية بصورة لا تُحمد عقباها للدول الأعضاء. فالمشروع الكبير الذي بني على تخيل الوحدة بين دول أوروبا سوف يسهم، على ما يبدو، في تفتيت القطر الواحد، أو توجيه الناخبين لاختيار سياسيين متطرفين.
فلقد أدى استفتاء كاتالونيا في نوفمبر الماضي إلى طرح عشرات الأسئلة مفتوحة النهاية، ومتعددة الإجابات. فأيا ما كان مستقبل الإقليم الذي أرهقته الصراعات الحالية والتاريخية، فسنجد أن دوائر سياسية، واقتصادية، ودستورية، وإقليمية تتقاطع لتشكل مصيره. كما أن إسبانيا، التي تعاني أزمة اقتصادية، وسياسات تقشفية، تشهد عشرات من قضايا الفساد السياسي والمالي، والتي طالت حتى أفرادا من العائلة المالكة، والتي يراقبها السياسيون المتحمسون في الإقليم، ويعدون ناخبيهم ببداية جديدة طازجة، يستفيد خلالها الكاتالونيون بثمرة جهدهم.
وقد تكون تلك الاستفادة من خلال الاستقلال المالي فقط، أو الاستقلال السياسي التام عن إسبانيا. لكن تحقق أي من السيناريوهات السابقة لن يكون نهاية لأزمة إحدى قوميات أوروبا الكبرى: كاتالونيا، بل سيكون بداية لسلسلة جديدة مرهقة من أسئلة قد تعود بالجميع إلى نقطة الصفر، أو ما هو دونها.