يعد منهج تحليل الخطاب من بين أهم المناهج المستحدثة في العلم الاجتماعي المعاصر، لأنه تجاوز بمسلماته النظرية وفئاته التحليلية المنهج التقليدي لتحليل المضمون، والذي كان يقوم أساساً على فئتين رئيسيتين للتحليل هما ماذا قيل وكيف قيل.
ومنهج تحليل الخطاب يحاول في الواقع مجابهة القصور النظري في منهج تحليل المضمون، لأنه يعتمد أساساً على تفكيك الخطاب للكشف عن بنيته العميقة. وقد تناول الرئيس السيسي ستة موضوعات رئيسية هي محكات الشرعية السياسية وكيف طبقها الشعب المصري، وحرب مصر على الإرهاب وأهمية التعاون الدولي في مواجهته، وبناء المؤسسات الديموقراطية، والرؤية التنموية المصرية والإصلاح المؤسسي، وموقف مصر من الصراعات السياسية في الشرق الأوسط، وتمكين الشباب، والنقد العنيف لمن يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة. وموضوع الشرعية السياسية يكاد أن يكون أخطر الموضوعات قاطبة التي آثارها الرئيس «السيسي»، لأنها على المستوى النظري وعلى المستوى العملي تثير إشكاليات متعددة ليس في العالم العربي فقط ولكن عالمياً.
ولعل مرد ذلك إلى القصور الشديد في صيغة الديموقراطية التمثيلية التي تنص -في الانتخابات الرئاسية مثلاً- أنه من حصل على 50% +1 يعتبر منتصراً ويصبح رئيساً. وهكذا بتطبيق هذه القاعدة المعترف بها عالمياً، حصل الرئيس السابق محمد مرسي على 52% على الرغم من كل محاولات التزوير الثقافي والمعنوي الذي مارسته جماعة «الإخوان المسلمين»، خصوصاً خلطها بين الدين والسياسة، وعلى الرغم من تحالف لفيف من الليبراليين السذج مع مرسي ضد المرشح المنافس الفريق أحمد شفيق. ومعنى ذلك أن حوالى نصف الشعب المصري لم يوافق على أن يصبح مرسي رئيساً.
وهذا الوضع الناشئ من نظرية الديموقراطية التمثيلية عادة ما تكون له آثار سلبية، خصوصاً حين ينزع الرئيس المنتخب – كما فعل مرسي- إلى أن يستأثر بالسلطة وينفرد باتخاذ القرار في مخالفة صارخة لقيم الديموقراطية، والتي لم يعترف بها حين ركز فقط على آليات الديموقراطية، وهي تعني أساساً نتيجة الصندوق الانتخابية. والسؤال هنا: ماذا قال الرئيس «السيسي» بصدد الشرعية السياسية؟ قال بالنص: «التاريخ القريب يشهد على قدرة ووعي شعب مصر الذي أزال حكم الفرد عندما تجاوز الشرعية، ولم يتردد عن نزع هذه الشرعية عمن أرادوا أن يستأثروا بها ويطوعوا من خلالها الهوية المصرية والانحراف بها عن سماتها التاريخية من تنوع وإبداع وانفتاح على العالم».
ومعنى ذلك أن الرئيس يميز بين حالتين هي حالة ثورة 25 يناير، والانقلاب الشعبي الذي قامت به الجماهير في 30 يونيو.
في 25 يناير قامت الثورة أساساً ضد حكم الفرد ومثله الرئيس مبارك الذي احتكر اتخاذ القرار وألغى عملياً المؤسسات كافة، ومن ثم اعتبرت جماهير الشعب المصري التي التحمت بالانتفاضة الجماهيرية التي أشعل فتيلها شباب الناشطين السياسيين أن الرئيس السابق قد تجاوز – بسلوكه السياسي- الشرعية ومن ثم حق إسقاطه بالثورة. أما الحالة الثانية -وقد تكون أهم من الحالة الأولى، والتي تعد تكراراً لما حدث في تونس وغيرها من بلاد الربيع العربي- هي أن الشعب المصري خرج في 30 يونيو بناء على مبادرة من حركة «تمرد» ودعم جسور من القوات المسلحة المصرية ضد رئيس الجمهورية «الإخواني» المنتخب لأنه – حسب عبارات الرئيس- نزع الشرعية عمن أرادوا أن يستأثروا بها ويطوعوا من خلالها الهوية المصرية والانحراف بها عن سماتها التاريخية من تنوع وإبداع وانفتاح على العالم.
والفهم العلمي الدقيق لهذه العبارات أن جماعة «الإخوان المسلمين»، وعلى رأسها ممثلها في الحكم الرئيس السابق مرسي، اعتمدت على آليات الديموقراطية فقط في الوقت الذي ألغت فيه تماماً قيم الديموقراطية، وأهمها على الإطلاق الحوار مع المعارضة وعدم إقصائها الكامل من العملية السياسية وتطبيق الحلول الوسط. ويشهد على ذلك استئثار حكم جماعة «الإخوان المسلمين» بالسيطرة الكاملة على اللجنة التأسيسية للدستور، والحرص على صياغته بما يحقق أهداف الجماعة وليس تعبيراً عن جموع الشعب المصري. كل ذلك، بالإضافة إلى العدوان المنهجي على مؤسسة القضاء ومحاولة تفكيك نظام الشرطة والنفاذ إلى القوات المسلحة. ويمكن القول إن هذه المثالب يمكن أن تساعد في سياق النقد السياسي العنيف لنظام الحكم «الإخواني» الذي ظل ومازال حتى الآن يلوك كلمة «الشرعية» مع أنه عمل ضدها بشكل منهجي. غير أن عبارة الرئيس المهمة تنطلق من نقد ثقافي عميق للممارسة «الإخوانية» المريرة، لأن الجماعة الإرهابية- في سبيل تحقيق مخططها في «أخونة» الدولة وأسلمة المجتمع – أرادت أن تعيد صياغة الهوية المصرية، والتي هي نتاج تراكمات تاريخية تشكلت عبر العصور.
----------------------------
نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس، 29/1/2015.