مثّلت عملية تشكيل الحكومة الجديدة في تونس - ولا تزال - مركز اهتمام، ليس فقط النخبة السياسية بشكل عام، بل أيضا الشارع التونسي، وذلك لعدة اعتبارات لعل أهمها أن الوجوه التي ستشكل هذه الحكومة، ستعطي فكرة عن طبيعة المرحلة المقبلة وستحدد إلى أي حد يمكن الوثوق فيها والتفاؤل باقتصاد أفضل وبوضع أمني أقل تهديدات إرهابية.
ولكن المسكوت عنه والمعلن باحتشام في نفس الوقت، أن الأسماء التي ستضمها هذه الحكومة ستحسم كذلك مسألة مصداقية حركة نداء تونس من عدمها، حيث إن طبيعة الانتماءات السياسية للوزراء وكتاب الدولة المختارين، ستظهر لبقية مكونات المشهد السياسي التونسي والرأي العام بشكل عام حقيقة علاقة قادة حركة نداء تونس بحركة النهضة، وهل فعلا خطاب الرفض ضد حركة النهضة الذي قامت عليه الحملة الانتخابية لـ«نداء تونس» هو خطاب مطابق لسلوكها السياسي بعد الفوز في الانتخابات التشريعية والرئاسية؟
ومن ثم، يمكن الاستنتاج أن تشكيل فريق الحكومة الجديدة إنما يمثل امتحانا من خلاله تكشف الصفقات السياسية وتفضح فيه الوعود السياسية غير الصادقة.
من جهة ثانية، نلاحظ أن بعض الأعناق الإعلامية والسياسية كانت مشرئبة ومتوثبة ضد أي وجه «نهضوي»، يمكن أن يشارك في الحكومة القادمة. ولقد تم اختبار هذا التوثب من خلال اعتماد سياسة بث الشائعات، إذ تداولات بعض الأسماء المنتمية لحركة النهضة، وراجت حتى الحقائب الوزارية، التي سيتحملونها، وخصوصا أن هذه الشائعات لجس النبض السياسي، قد تزامنت مع تصريحات واستعدادات إيجابية من طرف قيادات حركة النهضة، زاد في تأكيدها موقفان رسميان صدرا عن مجلس الشورى في حركة النهضة، وذلك رغم تضاربهما: الموقف الأول قبل الإعلان عن الفريق الحكومة المختار، ويتمثل في إعلان مجلس الشورى لحركة النهضة عن استعداده للمشاركة في الحكومة الجديدة والعمل مع الأطراف السياسية الأخرى. أما الموقف الثاني فكان بعد التصريح بأسماء الوزراء، حيث رد مجلس الشورى الفعل سلبيا وتراجع عن موقفه الأول، مبرزا أنه لن يعطي الثقة لهذه الحكومة في مجلس النواب، وهو رد فعل متوقع؛ لأن الأسماء المعلنة لا تتوفر على اسم نهضوي.
ولا شك في أن المؤشر السياسي الذي ساهم في تنمية حالة الشك في مصداقية خطاب حركة نداء تونس حول العلاقة مع حركة النهضة، يتمثل في النقلة النوعية والانقلاب المفاجئ، الذي عرفه خطاب قيادات حركة نداء تونس؛ فبعد أن كانت مقولات الإقصاء والمقاطعة واللامشاركة مع حركة النهضة هي المقولات السياسية الطاغية على مواقف قيادات حركة نداء تونس أثناء الحملة الانتخابية وقبلها، أصبح الحديث على امتداد الأسبوعين الأخيرين يعبر عن نبذ الإقصاء والاستعداد للتوافق والعمل مع جميع الأطراف!
وأمام ردود الفعل السياسية وغيرها التي أبدت معارضة واضحة ومعلنة لأي تحالف مع حركة النهضة أو حتى مجرد إشراكها في الحكومة، فإنه قد تم التراجع عن الأسماء التي سربت إعلاميا لقياس مواقف الأحزاب السياسية.
وتكتيكيا، فإن حركة نداء تونس - على ما يبدو - أجّلت موضوع إشراك وجوه «نهضوية» في الحكومة وارتأت عدم التسرع والتسبب في توسيع دائرة المعارضين لها. وهو تأجيل كما يظهر لنا متفق حوله بين «النداء» و«النهضة»، من منطلق كون أنه ليس من صالح «النهضة» إعطاء فرصة لخصومها لإظهارها حركة «مرفوضة».
بمعنى آخر، فإن الصفقة المبرمة بين حركة نداء تونس و«النهضة»، لن تنفذ آليا، وهو أمر ليس مهما في لحظته الراهنة، باعتبار أن مدة الحكم تمتد إلى خمس سنوات، فضلا على أن هذه الحكومة معرضة للتغيير جزئيا أو حتى كليا.
طبعا، نحن لا نتحدث عن صفقة سياسية مثالية هدفها الإيفاء بالوعود بقدر ما نتحدث عن مضمون نفعي مصلحي لهذه الصفقة. فحركة «نداء تونس»، تعلم أن كل من في الحكم ستتعاظم حوله المعارضة، الشيء الذي يمكننا أن نفهم منه أنها - أي «نداء تونس» - الفائزة في الحكم هي حاليا، وتحديدا بعد فوزها، محتاجة أكثر لحركة النهضة ونوابها في مجلس النواب وقاعدتها كي تدعمها في قراراتها وقوانينها.
لذلك، فإنه مصلحيا تعد التضحية بالأحزاب الأخرى ذات المقاعد المحدودة أفضل من التفريط في حزب هو الثاني في البلاد، وأيضا ليس من صالحها أن تنضم إلى المعارضة حتى ولو كان الواقع الحالي يظهر صعوبة في هذا الصدد.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تفضل حركة النهضة المشاركة الرمزية في الحكومة على التمركز في موقع المعارضة؟ هل فقط من أجل أن تطعن في مصداقية الحزب الخصم والمنافس لها، الذي بنى وجوده على رفضها ونقدها له؟
إن مع راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي بدأ في تونس التكتيك والحراك السياسيان.
----------------------------
نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الخميس، 29/1/2015.