في سياق الانتفاضات والثورات العربية بدءا عام 2011، انخرط الحوثيون في اليمن ضمن الاحتجاجات ضد نظام علي عبدا لله صالح، وأقاموا علاقات مع المكونات المناهضة لنظامه في سائر أنحاء البلاد، واستفادوا من فراغ السلطة الذي تركته النخب المنقسمة علي نفسها في النظام السابق، ووسعوا سيطرتهم علي الأرض، وعملوا علي توسيع قاعدتهم الشعبية، ووضع برنامج لسياستهم، وسيطروا علي محافظة صعدة.
وبالتوازي مع الحوار الوطني والمسار السياسي، خاض الحوثيون معارك متتالية في مناطق مختلفة، كان أبرزها معركة عمران التي سيطر الحوثيون عليها في 7 يوليو 2014، مما مثل تحولا مهما في التمدد الحوثي العسكري، وكانت محطة انطلاق نحو العاصمة صنعاء.
بعد سقوط عمران، ضرب الحوثيون حصارا شاملا علي العاصمة صنعاء منذ 18 أغسطس 2014، ونجحوا في حشد وتعبئة أعداد كبيرة من اليمنيين الغاضبين للمطالبة بإسقاط حكومة الوفاق، وإلغاء رفع أسعار المشتقات النفطية، وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني. وعلي نحو مفاجئ، نشبت مواجهات في شملان شمال صنعاء، سقط خلالها 272 قتيلا، وأكثر من 680 جريحا، وانتهت بسيطرة الحوثيين علي شملان. ثم تحولت المواجهات إلي مبني التليفزيون الحكومي، حتي خضع لسيطرة الحوثيين في 20 سبتمبر 2014، وتلته المنطقة العسكرية السادسة (المقر السابق للفرقة الأولي مدرعة)، فاستسلمت صنعاء بكل مؤسساتها المختلفة للحوثيين في 21 سبتمبر 2014.
أولا- البيئة الداخلية لسقوط صنعاء:
خلال حقبة علي صالح، تمكنت الحركة الحوثية من توسيع تحالفاتها السياسية والقبلية، مما أدي بدوره إلي اجتذاب الانتهازيين والبراجماتيين، الذين يسعي بعضهم إلي إعادة تشكيل الحركة، ويسعي آخرون إلي التحالف مع طرف صاعد، واستغل الحوثيون ذلك في الترويج، لأنهم يشكلون مظلة سياسية لتيارات متنوعة، وحتي متنافسة. وفي العامين الأخيرين، بدا واضحا أن القوة العسكرية للحوثيين تساعدهم علي الحلول مكان الدولة الغائبة، أو علي الأقل الضعيفة، مما منحهم قدرا من الشرعية والحجية في تثبيت سلطتهم، وإدارة المناطق التي يسيطرون عليها، والتقليل من شأن الاتهامات الموجهة لهم بأن المكاسب الحوثية ما هي إلا نتاج قوة وإكراه، بدعم مالي وعسكري إيراني.
فقد جاءت سيطرة الحوثيين علي صنعاء في ظل انهيار عام للدولة، كان من أبرز ملامحه حالة تذمر واسعة داخل المؤسستين العسكرية والأمنية من حملة الاغتيالات التي تستهدف عناصرها في كل مناطق اليمن، وأيضا الفساد المالي والإداري، وتدني رواتب العسكريين وقوات الأمن، وافتقاد المعايير الموضوعية، مثل الكفاءة، والأقدمية في الترقي وتولي المناصب. انعكس ذلك سلبا علي الولاء للدولة، ومعنويات منتسبي المؤسستين العسكرية والأمنية.
ووضح من خلال التطورات التي سبقت سقوط صنعاء، وأيضا أثناءه، وجود توجه رئاسي نحو التخلص من عدة أجنحة مهمة في الساحة السياسية، تشمل الجناح العسكري لحزب الإصلاح (الإخوان)، المتمثل في اللواء علي محسن الأحمر، خصوصا بعد سقوط اللواء 310 في عمران، وكذلك الجناح المتشدد بقيادة عبدالمجيد الزنداني، والجناح القبلي بقيادة الملياردير حميد عبدا لله بن حسين الأحمر، مع الإبقاء علي من يعدّهم الرئيس منصور هادي معتدلين، مثل عبد الوهاب الإنسي، مستشار رئيس الجمهورية عن حزب الإصلاح، والقيادي في حزب الإصلاح محمد قحطان. ومن اللافت أن التأييد الرئاسي لهاتين الشخصيتين يتسق مع رضا حوثي عنهما، الأمر الذي يشي بأن ثمة تفاصيل وملابسات لا تزال غير مفهومة تقف وراء سقوط صنعاء.
ثانيا- عوامل إقليمية:
تمثل أبرز ملامح الدور الإقليمي في المشهد اليمني، بعد 2011، في المبادرة الخليجية التي وقعتها كافة الأطياف السياسة اليمنية، باستثناء الحوثيين، برعاية واستضافة سعوديتين. ولم يعترف الحوثيون بهذه المبادرة، لأنها منحت حصانة للنظام السابق. ورغم ذلك، شارك الحوثيون في مؤتمر الحوار الوطني الذي يمثل أحد أهم بنود تلك المبادرة.
ومما يجدر التوقف عنده، فيما يتعلق بالدور الإقليمي، وجود خلاف سعودي - قطري حول الوضع في اليمن، بدأ مع انطلاق الثورة اليمنية عام .2011 وقد نشب الخلاف عندما انقسم النظام السياسي إلي معسكرين، أحدهما انضم إلي الثورة، وهو اللقاء المشترك بزعامة حزب الإصلاح (الإخوان)، وكذلك التيار القبلي للإصلاح من أولاد الأحمر، خصوصا حميد الأحمر، الممول الرئيسي للثورة، وعلي محسن صالح الأحمر، قائد المنطقة العسكرية الشمالية، قائد الفرقة الأولي مدرع. وكان مفاجئا للسعودية أن ينضم حلفاؤها التقليديون إلي الثورة، خصوصا أن بعضهم يتلقي منها بانتظام دعما ماليا. فبادرت الرياض إلي وقف دعمها، بينما برزت الدوحة لتقدم دعما متزايدا لأنصار الثورة في اليمن، (خصوصا الإخوان). وفي السياق ذاته، قدمت السعودية كل أشكال المساعدة للمصابين من قيادة المؤتمر الشعبي العام في محاولة اغتيال صالح في مسجد النهدين، بدءا بعلي صالح نفسه. وسيرا علي المنوال نفسه، دعمت السعودية الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي الذي كثيرا ما أشاد بمواقف الرياض في مساندة "اليمن".
ويبدو أن توسع حركة الحوثي عسكريا، وقيامهما بإخراج أولاد الأحمر من ديارهم في عمران، ثم إزاحتهم من المعادلة السياسة، كان بمباركة سعودية، وتساهل من الرئاسة اليمنية. غير أن المكاسب النهائية آلت إلي الحوثيين، ربما دون أن تدرك السعودية. وكان لانشغال السعودية بملفات أخري أثر كبير في ذلك. فقد تحولت الأنظار إلي الملف العراقي وسيطرة (داعش) علي مناطق مهمة ونفطية هناك، وهو ما تزامن مع تغير رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي، (الذي كان يتهم السعودية بدعم الإرهابيين في العراق)، علي أن يكون للسعودية دور جديد في المعادلة السياسية في العراق، بعد تولي ألعبادي رئاسة الحكومة ودخول المكون السني الموالي للسعودية في النظام الجديد في العراق، والذي قد يمثل خسارة لإيران، ومكسبا للسعودية. لكن قد يكون هذا التسلسل استدراجا للسعودية في العراق، بعد ما كانت إيران تتحكم في المشهد العراقي بأن يعمل الغرب علي تحقيق توازن للقوي في العراق بما يزيد الصراع أكثر بين السعودية وإيران، وذلك من خلال السماح بدور سعودي في العراق وسوريا، مقابل مشاركة الطيران السعودي في قصف "داعش"، وإسناد مهمة تدريب المعارضة السورية المعتدلة إلي الرياض، بغرض إضعاف دور إيران في العراق وسوريا. ووسط تلك المستجدات المتلاحقة، فوجئت الرياض بتطورات خطيرة في خلفيتها الجنوبية علي الساحة اليمنية، لم تنتبه السعودية إليها إلا مع سقوط محافظة عمران بيد الحوثيين، مما جعل القيادة السعودية تبلغ الرئيس الانتقالي، عبد ربه منصور هادي، أثناء زيارته للمملكة بعدها مباشرة، انزعاجها من هذا التطور. بينما كان هادي يتصور أن سيطرة الحوثيين علي عمران سيكون لها مردود إيجابي لدي السعودية، كونها خطوة ضد أولاد الأحمر. ودفع هذا الالتباس الرياض لتنصح الرئيس بالمسارعة إلي مصالحة وطنية، قبل أن يدخل الحوثيون صنعاء. وتمت بالفعل المحاولة في اجتماع لكل الفرقاء بمسجد الصالح بمناسبة صلاة عيد الفطر في 28 يوليو 2014، لكن لم يتوصل المجتمعون إلي أي نتيجة إيجابية، لتكون المحصلة هي نجاح الدور الإيراني في مزاحمة الدور السعودي، ولتسقط العاصمة صنعاء، ومعها كل مؤسسات ومرافق الدولة في 21 سبتمبر .2014
ثالثا- البعد الدولي:
تعامل المجتمع الدولي مع الوضع في اليمن استنادا إلي المبادرة الخليجية التي حظيت بإجماع إقليمي وعالمي. وقام جمال بن عمر، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في اليمن، بزيارة صنعاء 33 زيارة من أجل الإشراف علي التسوية السياسية، خلال الفترة الانتقالية. وكان بن عمر يلتقي كافة الأقطاب المتصارعة في الساحة اليمنية من أجل تقريب وجهات النظر في إكمال المرحلة الانتقالية، وفقا لبنود المبادرة الخليجية، ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني. ومثل هذا الموقف الدولي فرصة لا تتكرر لدعم التسوية السياسية. غير أن تحركات الأحزاب المتناحرة في اليمن عكست عدم رغبة في نجاح التسوية السياسية لتعارضها مع مصالحها. وأدي ذلك الإهدار للدورين الإقليمي والدولي من قبل تلك القوي إلي تمكين قوي أخري كانت تتبع ذلك المسار العكسي الذي سارت فيه المرحلة الانتقالية لتفرض نفسها علي الساحة. ويبدو أن ممثل الأمين العام في اليمن أدرك ذلك الوضع، فذهب إلي صعدة مع فريقه التابع للأمم المتحدة لمحاورة عبد الملك الحوثي من أجل الاتفاق علي بنود اتفاقية السلم والشراكة، وإرسال ممثل حوثي لتوقيعها. غير أنه أثناء وجود بن عمر في صعدة، كانت المعارك تدور في صنعاء. وعاد أنصار الحوثي مع بن عمر، لكن بعد أن سقطت الدولة كاملة، فتم توقيع اتفاقية السلم والشراكة من قبل الجميع تحت وطأة مزيج من الإرادة والرغبة في إنهاء الوضع المنهار، والتأثر بقوة السلاح والسيطرة الميدانية الفعلية للحوثيين علي صنعاء.
وهكذا، يمكن القول إن الأجنحة التي كانت تتصارع علي السلطة والثروة، قبل 2011، هي نفسها القوي التي ترفض أن ينتقل اليمن إلي دولة مدنية حديثة. وبالتوازي مع ذلك، لا توجد معارضة حقيقية فاعلة منذ الوحدة اليمنية عام 1990، فالحزب الإسلامي الذي جمع كل التيارات الدينية، وتأسس عام 1990 تحت اسم (التجمع اليمني للإصلاح)، أصبح حليفا للرئيس صالح حينها، وتم استخدامه في مواجهة الحزب الاشتراكي اليمني، خلال المرحلة الانتقالية للوحدة.
كما كان فشل حكومة الوفاق الوطني، خلال المرحلة الانتقالية، أحد الأسباب الأساسية في تدهور أوضاع البلاد في كل المجالات. ونتيجة الإخفاقات التي مارستها النخب السياسية، والتناقضات، والصراعات، وغياب الدولة بمؤسساتها المختلفة، تعاظمت قوة الحوثيين الذين استفادوا من كل أخطاء القوي التقليدية: الحكومية، والحزبية، والقبلية.
ولا يمكن تغييب دور الرئاسة اليمنية فيما آلت إليه الأمور، فقد تخلص الرئيس هادي من الجناح العسكري والقبلي للإخوان الذين أيدوه في بداية رئاسته. بينما لم يكن الموقفان الإقليمي والدولي علي مستوي الحدث، حيث جاءت ردود الفعل أقل مما كان متوقعا في استمرار لمحدودية الفعالية التي سبقت سقوط صنعاء، وكانت ضمن أسبابه