جاء انعقاد مؤتمر الحوار الليبي برعاية الأمم المتحدة في جنيف خلال الأيام القليلة الماضية، ليشكل أول اختراق سياسي للأزمة الليبية التي تزداد احتداماً . الجهود العربية لدول الجوار لم تنجح في وضع الأزمة على طريق الحل، ولم تجد الدعوات التي أطلقتها أطراف إفريقية وبالذات النجر للتدخل العسكري المباشر آذاناً صاغية لدى المراكز الدولية .
حوار جنيف سبقته حوارات تمهيدية في مدينة غدامس الليبية غربي البلاد . لم تكن المشاركة واسعة في مؤتمر جنيف إذ اقتصرت على برلمانيين وممثلين لبلديات في مدن كبرى، على أن ما استرعى الانتباه أن المؤتمرين أجروا مباحثات سهلة نسبياً، واتفقوا على أهمية حل سياسي تنبثق عنه حكومة وحدة وطنية . ما أضفى جواً من الشعور بنجاح مهمة المبعوث الأممي أدرينايدو ليون . فقد وافقت أطراف الأزمة الليبية المشاركة بحوار جنيف في ختام اجتماعها على اتخاذ خطوات لبناء الثقة تمهيداً لاتفاق سياسي يضمن تشكيل حكومة وحدة وإنهاء القتال وانسحاب المجموعات المسلحة من كافة المدن، وتعهد المشاركون في المفاوضات بالعمل على فتح الأجواء والموانئ وعدم استهدافها، وفتح ممرات آمنة للمدن المحاصرة تسمح بدخول المؤن والمساعدات .
وإلى ذلك فقد لقي الحوار ترحيباً من أطراف إقليمية ودولية باعتباره الملجأ الأخير لوقف دوامة العنف والفوضى المسلحة .
الفرقاء المتنازعون بدورهم وقد استشعروا جدية هذا التحول لم يتخذوا مواقف علنية سلبية لكنهم تريثوا في المشاركة بأمل أن يفلحوا في انتزاع نتائج لمصلحتهم على الأرض تعزز موقفهم التفاوضي .
من الواضح أن الاهتمام الدولي بالأزمة الليبية قد تزايد في الأشهر الأخيرة مع صعود الموجة الإرهابية في المنطقة، والخشية التي تبديها أطراف إقليمية ودولية أن يجد تنظيم مثل "داعش" مركزاً له على الأراضي الليبية علماً بأن تقارير متطابقة تشير إلى وجود لهذا التنظيم الإرهابي ومنها الإعلان يوم 12 يناير/ كانون الثاني عن اختطاف 21 مصرياً مسيحياً كانوا على الأراضي الليبية بأيدي هذا التنظيم .
ومن المعلوم أن هناك حكومتين في ليبيا إحداهما برئاسة عبدالله الثني وتتخذ من طبرق مقراً لها وتحظى باعتراف واسع بها وحكومة ثانية برئاسة عمر الحاسي تتخذ من طرابلس مركزاً لها . وهناك كذلك برلمانان أحدهما في طبرق والآخر في طرابلس .
القيادات العسكرية والمسلحة تتريث في الانضمام إلى حوار جنيف، غير أن مواصلة انعقاده وتوسيع دائرة المشاركين فيه، واعتماد قرارات توافقية تصب في مجرى وقف العنف وحل الميليشيات المسلحة وتشكيل حكومة ائتلافية سوف يشكل وسيلة ضغط معنوي كبير على الأطراف المتنازعة . وبينما شارك برلمانيون من مجلس النواب في طبرق، فقد أبدى "المؤتمر الوطني العام" المؤيد لقوات "فجر ليبيا" تحفظه على الحوار وغاب عنه، إلا أن أوساطاً من داخله لمحت في تصاريح صحفية متواترة إلى أنه لا خيار أمام المؤتمر والجهات المسلحة التي يتبادل معها الإسناد سوى الالتحاق بركب الحوار الذي من المزمع استئنافه في بحر الأسبوع الجاري .
البرلمان الأوروبي دعا يوم الجمعة 16 يناير/ كانون الثاني إلى اتخاذ قرارات حازمة بحق من يتخلف عن المشاركة في الحوار، أو لا يلتزم بتنفيذ قراراته، ومنها تجميد الأموال وحظر السفر . وذلك في أول خطوة على مستوى دولي / قارّي لإنزال عقوبات بالأشخاص والأطراف الذين يعيقون الحوار، ويحتكمون إلى العنف لبسط سيطرتهم، ولو أدى ذلك لاستنزاف موارد البلد، وتهديد وحدته مع ظهور مطالب تقسيمية معلنة، وتهتك النسيج الاجتماعي .
يرتدي الحوار أهميته في رفع الغطاء السياسي عن الاقتتال، وفي بلورة إرادة وطنية توافقية تستند أساساً إلى مبادىء ثورة 17 فبراير/ شباط، كما عبّر عن ذلك المجتمعون بجنيف في وثيقة أولية تشاركوا في وضعها، وهو ما يدحض احتكار البعض للثورة، والنطق الحصري باسمها أو الانفراد بتمثيلها . علماً بأن الثورة الليبية قامت في الأساس من أجل إقامة دولة القانون والفصل بين السلطات وليس من أجل إقامة حكم أمر واقع فئوي ومسلح خارج القانون أو فوقه .
من المنتظر أن يشهد "جنيف الليبي" خلال الأسابيع المقبلة دعماً إقليمياً ودولياً متنامياً، من أجل دعم الحل السياسي في هذا البلد وإنقاذه من أتون الفوضى المدمرة، علماً بأنه يتم تحت مظلة دولية محايدة هي الأمم المتحدة ويحظى بدعم الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وقد تم الانتقال إلى هذه الخطوة بعد تعثر مساعي دول الجوار الإفريقية والعربية على مدى العام الماضي لاستضافة لقاء كهذا، أو وضع حلول عملية تقود لإنهاء الأزمة .
وسوف يكون هذا الدعم مطلوباً إذا ما واجه المؤتمر صعوبات في جلساته اللاحقة، وهو أمرٌ متوقع لدى التحاق ممثلين للأطراف المتنازعة مخولين بالتفاوض، وهو ما تنبىء به الأجواء الإيجابية التي سادت جلستي الحوار، وكذلك ردود الفعل التي رحبت بالنتائج الأولية، والتي تقطع الطريق على أية ذرائع لمقاطعة المؤتمر أو التشكيك بأهدافه مما يجعل الالتحاق بالمؤتمر الخيار الوحيد المتاح، وما ينقل المواجهة السياسية من خارج المؤتمر إلى داخله .
النجاح المأمول لجنيف الليبي الذي ينعقد برعاية دولية، من شأنه إشاعة بعض الانفراج في المشهد شديد القتامة الذي يكتنف منطقتنا، وبما يمنح بارقة أمل في التضييق على موجة العنف والإرهاب أياً كانت مصادرها وأدواتها، وإيقاف عجلة العبث المدمر بالشعوب والمجتمعات والأوطان .
---------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الإثنين، 20/1/2015.