لا يؤمن نظام الحكم الحالى فى مصر بأهمية السياسة، رغم أنه جاء نتيجة ثورة سجلت أحد أعلى معدلات المشاركة السياسية فى تاريخ مصر. وليست هذه مجرد مفارقة تاريخية. إنها تعبير عن تناقض ينذر بخطر لن يكون هذا النظام فى منأى عنه، رغم ما يبدو من أن الأحزاب وحدها هى المهددة من جرائه.
غير أن الخطر الذى يهدد الأحزاب نتيجة نزع السياسة وتفريغ الساحة العامة منها مجدداً قد يكون أقل من ذلك الذى سيواجه نظام حكم قدر له أن يحمل على كاهله تركة مهولة فى ثقلها.
فكلما كان الحمل ثقيلاً، صارت الحاجة إلى المشاركة فى رفعه أكبر. والحال أن التركة المترتبة على تجريف الاقتصاد وتخريب المجتمع لعدة عقود لا يمكن أن تحملها سلطة بمفردها مهما كانت إمكاناتها. وهذا هو ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسى، وكرره مرات يصعب حصرها على مدى الشهور الستة الأولى لرئاسته.
ولكن الحديث عن عدم إمكان تحميل رئيس كل هذه التركة وحده لا يكتمل بدون سعى، وليس فقط كلاما، إلى توفير مقومات المشاركة المجتمعية فى حملها، ويبدأ ذلك بمراجعة القرارات والقوانين والممارسات التى تؤدى إلى تجفيف منابع السياسة، بدءًا بوقف عملية نزعها من الانتخابات البرلمانية القادمة، والتواصل مع الأحزاب والقوى السياسية.
وإذا كان حضور السياسة مهما لمواجهة مشاكل عادية فى ظروف طبيعية، فهو أكثر أهمية فى ظل أزمات خانقة متراكمة، وفى مرحلة اضطراب إقليمى تموج فيها المنطقة بالصراعات وتبدو كما لو أن كرة لهب تتدحرج فيها.
ولا بديل عن المشاركة المجتمعية الواسعة فى مثل هذه الظروف لمواجهة التركة الداخلية الثقيلة، واكتساب المناعة اللازمة لتجنب تداعيات الاضطراب الإقليمى المتزايد ووقف كرة اللهب المتدحرجة عند الحدود ومنعها من العبور إلى الداخل.
غير أن المشاركة المجتمعية لا تتحقق بشكل فردى. وهى لا تقتصر على التبرع لكى تحيا مصر، ولا تنحصر فى شراء أسهم لتمويل مشروعات قومية كبرى، ولا تقف عند حدود العمل الجاد حين تتوفر فرصه المحروم ملايين المصريين منها، فالعمل الجاد من السابعة صباحاً، أو قبل ذلك، يتطلب مشاركة مجتمعية فى إنقاذ الاقتصاد، مثلما يساهم فى هذا الإنقاذ.
ولما كانت هذه المشاركة ترتبط حضورًا وغيابًا بالمنظمات الوسيطة، التى ينشط الناس من خلالها، تصبح السياسة هى السبيل إلى إنقاذ الاقتصاد، ولا يستقيم بالتالى نزعها أو تنحيتها جانبًا بدعوى تركيز الجهود من أجل حل المشاكل الاقتصادية.
فالسياسة، وما يقترن بها من وعى، هى التى تضفى على مطالبة الناس بالعمل معنى يبدو غائبًا ويحولها من خطاب متكرر إلى واقع معاش. ولا حجية هنا للتذرع بضعف الأحزاب السياسية وهزالها، ففضلاً عن أن الأحزاب لم تتطور فى ظروف طبيعية فى أى وقت منذ نشأتها فى مصر عام 1907، بما يعنيه ذلك من عدم عدالة الحكم عليها بالفشل، فالسياسة ليست مجرد أحزاب بل ثقافة فحواها وجود مجال أو حيز عام يتوجب على الإنسان الاهتمام به بحيث لا يبقى محصورًا فى حياته الخاصة العائلية والعملية.
وربما لا يدرك من يشجعون نزع السياسة من المجتمع أنهم ينزعون من الإنسان المصرى اهتمامه بالقضايا العامة، ويحولون بينه وبين مشاركته التى ينشدونها فى حمل التركة الثقيلة وحل المشاكل المتراكمة. وقد يغيب عنهم أن الارتياح لنزع السياسة يتعارض مع السعى للعبور إلى مستقبل يصعب التطلع إليه فى ظل تفريغ المجال العام من القوى الحية التى فتحت الطريق أمام هذا العبور فى 25 يناير، ثم فى 30 يونيو.
وربما لا يحسب من يضيقون ذرعًا بالسياسة حساب العلاقة الوثيقة بين اتجاهات الفرد وطبيعة المجتمع، فالأفراد فى المجتمع السياسى ينفتحون على المجال العام ويزداد اهتمامهم بقضايا الوطن، بينما ينغلقون على أنفسهم ومجالهم الخاص ومشاكلهم الصغيرة والمحلية حين تُُنحى السياسة جانباً.
كما لا ينتبه من يحبذون مجتمعًا غير مسيس إلى أن الأجهزة الأمنية والبيروقراطية التى تملأ الفراغ السياسى لا تساعد فى تحقيق النجاح المنشود إذا تجاوزت حدودها، وأنها تصبح عندئذ جزءًا من المشكلة لا الحل، ففى غياب السياسة، يتم تهميش الأحزاب وجمعيات المجتمع المدنى وغيرها من المنظمات الوسيطة التى تربط بين السلطة التى تصبح معلقة فى «علاها» والمجتمع الذى يتفتت ويزداد الشعور بالضياع فى أوساطه عمومًا، وبين أجياله الجديدة خصوصًا.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن نزع السياسة يرتبط بتضييق نطاق الحريات العامة تدريجيًا، وما يؤدى إليه ذلك من كتم البخار تحت السطح بكل تبعاته، يتضح أن الخطر الذى يهدد الأحزاب فى هذه الحالة أقل من ذلك الذى يواجه السلطة، وعندما تكون هذه السلطة راغبة فى أن تنجح، وعازمة على إصلاح ما أفسدته سياسات نظامين سابقين، تصبح الخسارة عامة ويمسى المجتمع كله خاسرًا معها.
وفى كثير من الأحيان، تتسبب حسابات خاطئة فى تعطيل توجهات صحيحة وقطع الطريق أمامها. وفى غير قليل من الحالات، يكون غياب الإصلاح ناتجًا عن غياب السياسة. وليس هذا إلا جزءًا من دروس التاريخ التى ينبغى أن نستحضرها، وأن نستوعبها.
----------------------------------
* نقلا عن المصري اليوم، 6/1/2014.