الشرق الأوسط يعاد تشكيله أمام أعيننا، وإن كان من الصعب تخيل الشكل النهائي الذي سوف يستقر عليه. فمهما تبلغ قدراتنا علي التنبؤ والتخيل، فإن الواقع أكثر ثراء، وتعقيدا، ومراوغة من أكثرنا قدرة علي قراءة المستقبل.
فما حدث قبل أربعة أعوام، وعرفناه باسم الربيع العربي، وتأمل الكثيرون منا أن يكون فاتحة لتأسيس دولة العدل، والمساواة، والديمقراطية في العالم العربي، لم يكن سوي فجر كاذب يعبر عن الأزمة المزمنة للدولة العربية أكثر مما كان تعبيرا عن انتفاضة قوي الحرية والديمقراطية القادرة علي خلق واقع سياسي جديد في بلاد العرب. وقد بينت تطورات السنوات الأربع الأخيرة أن قوي التقدم في منطقتنا لا تزال أضعف من أن تفي بالوعد الذي قطعته علي نفسها، وأن أزمة الدولة العربية هي الحقيقة المؤكدة بلا شك في هذا الجزء من العالم.
رغم صعوبة تخيل الشكل النهائي المحدد الذي ستسفر عنه التطورات الراهنة في المنطقة، فإن صراعات الحاضر، والقوي الفاعلة فيها، وطبيعة العمليات السياسية والاجتماعية الجارية تشير إلي عدد من الاتجاهات والملامح التي يبدو أنها ستكون حاضرة في مستقبل المنطقة. التفتيت هو العنوان العريض الذي يمكن له أن يلخص مآلات الأزمة الراهنة. ففيما تبدو بعض الدول العربية مرشحة للانقسام، ولفقدان تكاملها الإقليمي الموروث من العصر الكولونيالي، تبدو دول أخري قادرة علي الحفاظ علي وحدتها الإقليمية، وبينهما توجد مجموعة ثالثة من الدول ستواصل البقاء، لكنها لا تبدو قادرة علي مواصلة فرض سيطرتها علي كامل ترابها الوطني، بما يسمح بظهور سلطات جزئية موازية علي قسم من هذا التراب، وبما يخلق نوعا من اللامركزية الفعلية غير القانونية.
عمق التفتت ونطاقه، والشكل المستقبلي للإقليمين العربي والشرق أوسطي سيكون محصلة للتفاعلات والعمليات السياسية المؤثرة في الواقع الإقليمي الراهن، والتي يمكن تلخيصها في أربعة عوامل/عمليات، هي النظام الدولي، وصراعات الطوائف والقوميات، والإسلام السياسي، وأخيرا علاقات القوي الإقليمية. فالتفتت، وإعادة رسم الخريطة الإقليمية هما المآل المرجح في هذا الجزء من العالم. أما المسارات التي سيتبعها الوضع الإقليمي، والشكل المحدد الذي سوف يكون عليه الإقليم، بعد فترة طويلة من الصراعات وعدم الاستقرار، فإنهما سيكونان محصلة لتفاعل هذه العوامل/العمليات الأربع التي سنناقشها تباعا.
تغيرات النظام الدولي:
أسهم النظام الدولي وتغيراته، بدرجة كبيرة، في صنع العالم العربي الحديث. يسري هذا علي العالم العربي، مثلما يسري علي كل أقاليم العالم النامي. فتوافقات النظام الدولي أدت إلي اصطناع بعض الدول العربية اصطناعا، خاصة في منطقة المشرق، تماما كما تم اصطناع أغلب الدول الإفريقية. وكان النظام الدولي حاضرا في تحديد موازين القوة الإقليمية، ومحصلة الصراع والتنافس بين الدول الرئيسية في العالم العربي والشرق الأوسط بطريقة تشبه الدور الدولي في تحديد موازين القوة، ومحصلة صراعات القوي في الشرق الأقصي. أيضا، فقد أدي توسع الرأسمالية الغربية إلي إدخال العالم العربي في تبعية اقتصادية، ودرجة عالية من الاعتماد علي النظام الاقتصادي الدولي، وهو نفس ما شهدته أقاليم العالم النامي الأخري. وطوال الوقت، كان الغرب بشكل خاص، وكانت الأطراف الدولية الرئيسية في النظام الدولي بشكل عام، مصدرا للإلهام والتجديد الفكري والمؤسسي في العالم العربي، وهو الأثر نفسه الذي تركه الغرب والنظام الدولي علي أقاليم العالم النامي كافة.
غير أن تأثيرات النظام الدولي في العالم العربي تجاوزت ما شهدته أقاليم العالم النامي الأخري. فلم يحدث في أي إقليم آخر من أقاليم العالم أن أسهم النظام الدولي في زرع دولة غريبة، مثل إسرائيل، وهي العملية التي أدت إلي تأثيرات عميقة أخذت شكل صراعات السياسة، والحروب، وإهدار الموارد. فالصراع بين العرب وإسرائيل هو بحق الصراع المركزي في المنطقة، رغم أن أهميته قد تتراجع أحيانا علي جدول الأولويات. أيضا، فإن إقليما آخر في العالم النامي لم يشهد ما عرفه العالم العربي من تحول الغرب إلي العامل المركزي في صياغة أجندات السياسة والأيديولوجيات. فكافة الانقسامات والصراعات الأيديولوجية في بلادنا تدور بطريقة أو بأخري حول الغرب الذي هو الجزء الأكثر تأثيرا في النظام الدولي، منذ بدأ العالم العربي في التعرف علي هذا النظام. فالصراعات بين الراديكاليين والمعتدلين العرب، وبين الإسلاميين والعلمانيين، وبين أنصار تدخل الدولة في الاقتصاد وأنصار المبادرة الفردية واقتصاد السوق، كل هذه الصراعات تدور في جانب رئيسي منها حول الغرب بثقافته وقوته ودوره. وإلي جانب الانقسام العميق الدائر حول الغرب، فإن مشاعر المهانة الجمعية الناتجة عن إخفاقات عربية كثيرة، أهمها الإخفاق العربي في فلسطين، والإخفاق في اللحاق بالغرب المتقدم، تتسبب في تسييد مشاعر التطرف والكراهية الدينية، والاتجاهات الأيديولوجية المتطرفة، والتي يواجه العالم العربي في هذه المرحلة أعلي موجة من موجاتها.
إلي جانب كل هذا الذي يمثله الغرب والنظام الدولي، الذي يلعب الغرب الدور الأهم فيه، فإن تغيرات النظام الدولي لعبت دورا رئيسيا في صياغة الدولة العربية المعاصرة. ففيما وُلدت الدولة العربية في المشرق قسرا علي أنقاض الدولة العثمانية بمعرفة القوي المهيمنة علي النظام الدولي في ذلك الوقت، فإن النظام الدولي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وفر للدولة العربية الوليدة والهشة فرصة كبري لتعزيز كيانها. ففي عالم الحرب الباردة، وسباق التسلح النووي، والحروب بالوكالة، كانت الدولة هي وحدة البناء، والفاعل الأساسي -وربما الوحيد- في النظام الدولي. فنظام القطبية الثنائية كان صراعا بين دولتين كبيرتين، سعت كل منهما لحشد أكبر عدد من الدول في معسكرها، وإلي تمتين هذه الدول، والحفاظ عليها كرصيد أساسي في المنافسة الكونية بين الكبيرين. نظام القطبية الثنائية هو في أحد جوانبه نظام لحماية الدول الناشئة، والتي كان يوجد الكثير منها في هذه المرحلة. والفارق بين النجاح والفشل في ظل هذا النظام هو الفارق بين دول استفادت من هذه الفرصة لترسيخ كياناتها وقدراتها الذاتية، وأخري ركنت إلي الحماية التي وفرها النظام الدولي، وتجنبت بناء قدرات ذاتية مجتمعية، وسياسية، واقتصادية تسمح لها بالبقاء والتقدم فيما وراء الحماية القادمة من الخارج.
في ظل هذا النظام، تعززت الدولة العربية حديثة التكوين، ولكنها ظلت غالبا دون المستوي الضروري لتعزيز القدرات الذاتية، فواصلت الدولة العربية اعتمادها علي خارج يوفر لها شروط البقاء، ويحميها من التفكك. كان من الممكن، في إطار عالم القطبية الثنائية، إخفاء إخفاقات الدولة العربية وعوراتها، وكان من الممكن لنخب الحكم التهرب من معالجة العيوب الخلقية والمزمنة التي لازمت الدولة العربية، وهو ما حدث بالفعل، فكانت النتيجة تفويت فرصة وفرها نظام الحرب الباردة لترسيخ الدولة العربية بشكل نهائي.
تغير النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة رفع الغطاء والحماية عن الدولة العربية. النظام الدولي للعولمة الذي أعقب نظام الحرب الباردة أطلق قوي عابرة للدول ذات طاقات هائلة، تمثلت في نظم المال، والتجارة، والاستثمار، والاتصالات، وتبادل المعلومات، والإعلام. ترافق ذلك مع تغير جذري في عقيدة النظام الدولي من التركيز علي الدولة، وسيادتها، وحقها في التصرف بما يخدم مصلحتها في البقاء والازدهار، للتركيز علي الأفراد والأقليات، وما لهم من حقوق في مواجهة الدولة، بحيث أصبحت جدارة الدولة بالبقاء، وحقها في حماية مصالحها، وصيانة سيادتها من غير الأمور المضمونة والمكفولة في ذاتها، ولكنها امتيازات تكتسبها الدولة بقدر ما تستطيع التفاعل بإيجابية مع حقوق الإنسان الفرد، والأقلية، والنوع الاجتماعي.
لم تكن الدولة العربية مهيأة للتعامل مع هذا التغير الجذري في النظام الدولي. وفيما تم رفع الحماية التي تم توفيرها سابقا للدولة العربية من جانب النظام الدولي، تحول النظام الدولي في مرحلته الجديدة إلي مصدر لتهديد الدولة العربية بما أطلقه من قوي وعمليات تعبر حدود الدول وتخترقها، وبعقيدة حقوق الإنسان والديمقراطية التي كانت الدولة العربية أبعد ما تكون عن مستوي التأهيل الضروري للتعامل معها بإيجابية دون مخاطر كبري تهدد بقاءها.
كان حظ العالم العربي مع التغيرات الدولية القريبة سيئا لأكثر من سبب. فعقيدة حقوق الإنسان والديمقراطية عندما وصلت إلي العالم العربي، لم تجعل وضعه أفضل، مثلما فعلت في أقاليم أخري. ومن ناحية أخري، فإن المرحلة المبكرة لتغيرات النظام الدولي ترافقت مع موجة عنفوان أمريكية خادعة، وجدت تعبيرا عن نفسها في الشرق الأوسط في زمن الرئيس السابق جورج بوش الابن، فكان احتلال العراق الذي أصاب المنطقة بزلزال لا تزال توابعه تضرب في أنحاء المنطقة المختلفة. ومن ناحية ثالثة وأخيرة، فإن النظام الدولي الراهن يفرض قيودا علي قدرة القوي الكبري علي استخدام القوي المسلحة في علميات خارجية، فكانت أمريكا والغرب عاجزين عن التدخل عسكريا، عندما كان تدخلهما مطلوبا. حدث هذا في الماضي القريب في سوريا، ويحدث الآن في عملية التدخل ضد داعش التي اقتصرت علي ضربات جوية مشكوك في فعاليتها.
لقد سقطت بعض الدول العربية تماما تحت وطأة تغيرات النظام الدولي، وهذا هو ما نشاهده اليوم في بلاد كسوريا، والعراق، وليبيا، فيما استطاعت دول عربية أخري الصمود في وجه العاصفة. فإذا كان علي المجموعة الأولي من الدول العربية مواجهة مصيرها الذي بات في مهب الريح، فإن المجموعة الأخري عليها أن تقرر الطريقة التي ستتعامل بها مع النظام الدولي الراهن. وحتي الآن، فإن الدول العربية الصامدة تبدو وقد اختارت الاستعانة بمعسكر مقاومي العولمة، وأنصار مبدأ مركزية الدولة وسيادتها، المتمحور حول الدور الجديد الذي تقوم به روسيا والصين في النظام الدولي الراهن. وبينما يمكن لهذا الاختيار أن يكون ضروريا ومفيدا في المدي المباشر، فإنه سيكون من الخطأ تصور أن القدرات والفرص التي يتيحها هذا المعسكر لها صفة الاستدامة، أو أنها توازي في الأثر والفعالية ما لقوي العولمة من أثر مستدام بعيد المدي. فالأخيرة هي نظام معقد متعدد الأطراف، ذو طبيعة شبكية، من غير الممكن إخضاعه لسيطرة الدول، بما فيها القوي الكبري التي أسهمت في إطلاقه، واستفادت منه. بعبارة أخري، فإن لنظام العولمة حياته ومنطقه الخاص الذي يتجاوز الدول التي تتصدره، بما في ذلك الولايات المتحدة. ففيما قد تتراجع مكانة الولايات المتحدة، وقدراتها النسبية، فإن مصير النظام الدولي للعولمة بات مستقلا إلي حد كبير عن الولايات المتحدة، والقوي الغربية الأخري، كما ستتواصل التأثيرات التفكيكية لنظام العولمة، رغم استمرار تراجع المكانة الأمريكية. وبالتالي، فإن تأهب الدول العربية لإدخال إصلاحات تمكنها من التكيف والتوافق مع نظام العولمة هو فريضة لا يمكن إسقاطها، حتي لو كان من الصائب، علي المدي القصير، المراهنة علي قدرات معسكر مقاومي العولمة، بل ومواصلة الاحتفاظ بعلاقات تعاون قوية مع هذا المعسكر علي المدي البعيد، شرط أن يكون مفهوما أن ما تتيحه هذه العلاقات هو آلية لتخفيف وإدارة آثار العولمة، دون أن تكون بديلا عنها.
صراعات الطوائف والقوميات وتفتت الدول:
أطلقت ثورات الربيع العربي الآمال في الديمقراطية والعدالة، لكنها بالنسبة لطوائف العالم العربي، وأقلياته القومية التي طال قهرها كانت مناسبة وفرصة للتحرر. يسري هذا بشكل خاص علي الشيعة، والسنة، والأكراد في بلاد المشرق العربي، خاصة في سوريا والعراق. سوريا هي نقطة الضعف، وساحة الصراع الرئيسية في هذا الصراع. فبعد الدماء الكثيرة التي سالت هناك، وبعد الدمار الكبير الذي لحق بالبلد وموارده في حرب أهلية، لها بعد طائفي صريح، وبعد الاستثمار الهائل الذي ضخته قوي إقليمية تختلط لديها الدوافع الاستراتيجية بتلك الطائفية -بعد كل هذا، فإنه سوف يكون من الصعب إنهاء هذا الصراع علي أرضية "لا غالب ولا مغلوب"، التي تفترض العودة إلي وضع قريب مما كان عليه الحال قبل انفجار الوضع هناك. فأي تغيير ذي قيمة يتم إدخاله علي الوضع الذي كان قائما في سوريا قبل عام 2011، سينطوي بالضرورة علي حرمان طرف أو أكثر، خاصة العلويين وإيران، من قسم مهم مما كان لهم من نصيب في السلطة والثروة. في الوقت نفسه، فإن تعذر إدخال تغييرات مهمة علي الوضع الذي كان قائما قبل ذلك لن يكون مرضيا، لا لمعارضة قاعدة تأييدها الرئيسية من الطائفة السنية، ولا للمملكة السعودية التي تتولي العبء الأكبر في دعم هذه المعارضة.
استحالة التعايش هي المسار الأقرب للتحقق في سوريا. وعندما تصل الأمور إلي طريق مسدود كهذا، فإن التقسيم يصبح هو المسار الأكثر احتمالا. هذا التصور لمستقبل سوريا ليس شاذا، رغم ما في الاعتراف به من ألم، فهذا بالضبط هو ما حدث في الماضي القرب في يوغوسلافيا السابقة، وفي السودان. غير أن الوضع في سوريا فيه من التعقيد ما يزيد عما كان موجودا في هاتين الحالتين أما مصدر هذا التعقيد، فيتأتي من غياب ممثلين يتمتعون بقدر كاف من الشرعية يسمح لهم بممارسة السلطة، وتحقيق الاستقرار في الكيانات المرشحة للحلول محل الدولة السورية الراهنة. فلا نظام الأسد، ولا فصائل المعارضة المتصدرة للمشهد حاليا لديهما من الشرعية ما يسمح لهما بتسلم السلطة في كيانات سياسية تتكون نتيجة تفكك سوريا الراهنة. أيضا، فإنه بينما تبدو العودة للتعايش في سوريا مستحيلة، فإن رسم حدود الكيانات أو الدول، التي يمكن أن تحل محل سوريا الراهنة، أمر في غاية الصعوبة، علي عكس ما كان عليه الحال في يوغوسلافيا السابقة، أو السودان اللذين جري تقسيمهما وفقا للحدود الإدارية أو الفيدرالية السابقة. غياب مثل هذه الحدود في الحالة السورية يعني أن أمد هذا الصراع سيطول، وأن كل متر يضاف إلي حدود هذه الدولة أو تلك من ورثة سوريا الراهنة سيتم دفع ثمنه من دماء قتلي كثر، لا يزال مكتوبا عليهم فقدان حياتهم في هذا الصراع.
الأرجح هو أن عددا من الكيانات سيتكون علي أنقاض سوريا الراهنة. والأرجح أيضا هو أن الصراع الراهن في سوريا سيتواصل، حتي تتبلور قيادات قادرة علي تسلم السلطة في هذه الكيانات الجديدة. بعبارة أخري، فإنه يمكن القول إن الصراع الراهن في سوريا لم يعد صراعا حول طبيعة النظام الذي سوف يخلف نظام الأسد، إذ لا يبدو أن هناك أي نظام سياسي يستطيع ذلك، وأن نظام الأسد سوف يكون آخر نظام يحكم سوريا الموحدة. إنما جوهر الصراع الراهن هو البحث عن قيادات وأطراف قادرة علي حكم أكثر من سوريا صغيرة ستنشأ في نهاية هذا الصراع. فالمعارضة السورية تسيطر علي أقسام كبيرة من سوريا تسمح لها بإنشاء كيانات تتحول تدريجيا إلي دول، ولكن المشكلة هي أن هذه الجماعات ليست موحدة، وأن أيا منها لا يتمتع بشرعية، وقبول كاف يسمح له بدفع الأمور في هذا الاتجاه. فالأطراف الأكثر قدرة عسكرية، والأكثر سيطرة علي الأرض هي من الجماعات الإسلامية المتطرفة الموسومة بالإرهاب. أما الأطراف المقبولة إقليميا ودوليا، فإن قدراتها لا تسمح لها بممارسة سلطة كافية علي الأرض. وحتي يتغير هذا الحال، فإن الصراع الراهن في سوريا سوف يتواصل، وعندها سيكون التقسيم هو الحل.
المسألة الكردية هي مصدر لتعقيد إضافي في الوضع السوري. فالوضع الراهن في سوريا، ومن قبله في العراق، خلق فرصة غير مسبوقة لاقتراب الشعب الكردي من حلمه القديم بتأسيس نوع من الكيانية القومية. غير أن الاعتراضات الإقليمية علي تحول الكيان أو الكيانات الكردية إلي دول، بالمعني الكامل للدولة، تجعل البحث في المستقبل الكردي أمرا تكتنفه صعوبات كثيرة. السيادة الاسمية القائمة للدولة العراقية الراهنة وفرت إطارا عمليا لحل مشكلة أكراد العراق. غير أن مستقبل سوريا لا يوحي بإمكانية وجود دولة شبيهة بالدولة العراقية الرخوة في سوريا، الأمر الذي يفتح المجال للبحث في طبيعة السلطة التي ستحتفظ بحق السيادة، الاسمية غالبا، علي كيان أكبر، يكون الأكراد السوريون جزءا منه، ويتمتعون فيه باستقلال ذاتي عميق. وربما يحدث هذا في إطار فيدرالي لدولة، يكون مركزها في حلب، تتكون من بعض العرب السنة، بالإضافة إلي الأكراد، وضمن إطار أشمل يقوم علي نوع من تبعية هذه الدولة لتركيا كضامن وحام إقليمي لبقاء هذه الدولة، ولمراقبة الطموحات الكردية لمنعها من تجاوز الحدود المسموح بها تركيا، وهو الوضع الذي من الممكن أن ينشأ ويستمر، ما دامت تركيا تستطيع إدارة المسألة الكردية في تركيا في إطارها الراهن.
المصير السوري سيسهم إلي حد بعيد في تحديد مصير دول أخري في الجوار، خاصة العراق. فإذا شاع انقسام الدول، واكتسب شرعية في المنطقة، فإن انقسام العراق الراهن يصبح أكثر احتمالا. في الوقت نفسه، فإن النخب العراقية قد تتعلم شيئا من الخبرة السورية الرديئة، فتقرر التراجع عن سياسات الاستئثار، والإقصاء، والتصعيد الطائفي، لتختار الدخول في مسار آخر يتيح الحفاظ علي العراق الراهن، لكن في إطار فيدرالي عميق يضمن استقلالا ذاتيا لمكونات الطيف العراقي.
محصلة صراعات الطوائف والقوميات ستعين حدود دول المنطقة. أما طبيعة هذه الدول نفسها، فستتحدد وفقا لمحصلة الصراع الدائر ضد جماعات التطرف الإسلامي. وفي الحقيقة، فإنه يصعب حتي الحديث عن حدود دول المنطقة، دون حسم الصراع ضد هذه الجماعات، خاصة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يعد رفض حدود الدول القائمة جزءا رئيسيا، ليس فقط من بنيته الفكرية، وهو الأمر الذي تشترك فيه كافة التيارات الإسلامية، ولكنه أيضا جزء من استراتيجيته السياسية، وإطاره التنظيمي. فما يميز جماعة الدولة الإسلامية عن غيرها من الجماعات الإسلامية هو أنها وضعت موضع التنفيذ المباشر أفكارا وأهدافا، اعتادت الجماعات الأخري علي حسبانها أهدافا بعيدة المدي، غير مطروحة للتنفيذ الفوري، وهو ما ينقلنا لتناول العامل التالي المؤثر في رسم مستقبل المنطقة.
انفلات التطرف الإسلامي:
التطرف الإسلامي هو العامل الثالث الذي يسهم في رسم صورة المستقبل العربي. تتكون هذه القضية في جوهرها من أبعاد ثلاثة، يتعلق أولها بالعلاقة بين الإسلام والسياسة، فيما يتعلق البعد الثاني بالإسلام السياسي وجماعاته التي تحاول احتكار التعبير عن الإسلام في المجال السياسي. أما البعد الثالث والأخير، فيتعلق بالتطرف الإسلامي المسلح بصفة خاصة.
لقد طرح الإسلام السياسي، السلمي والمسلح، نفسه كمنافس علي السلطة منذ عدة عقود. وطوال الفترة السابقة، تبنت الدولة العربية سياسات مؤقتة، ومتقلبة، وقصيرة الأجل في التعامل مع هذا التحدي الذي كان يكسب مواقع جديدة كل يوم، الأمر الذي وصل بنا إلي الحالة الراهنة من صدام وصراع دموي بين الإسلام والدولة في مواقع عدة.
لم تكن المشكلة في السياسات المتعددة والمتغيرة التي طبقتها الدول العربية، ولكن المشكلة تمثلت في غياب استراتيجية ورؤية واضحة بشأن هذا التحدي علي المدي البعيد. لا أتحدث هنا عن حل نهائي لهذه المعضلة، إذ لا يبدو أن حلا نهائيا لهذا التحدي موجود أو ممكن. فالدين سيبقي مصدرا لأفكار وأيديولوجيات تتعلق بالسياسة، وسوف تتكون دائما تيارات وجماعات تتخذ من الإسلام مصدرا لتصوراتها السياسية. الاستراتيجية الغائبة التي أتحدث عنها تتعلق بالقدرة علي منع تحول الدين إلي مصدر تهديد للدولة، استقرارها وبقائها. ويتوقف مستقبل العالم العربي إلي حد بعيد علي الطريقة التي سيتم التعامل بها مع هذا التحدي.
لقد بينت التجربة التاريخية أن خيار أتاتورك-بورقيبة هو الأكثر نجاحا في التعامل مع قضية العلاقة بين الدين والسياسة، يشهد علي هذا النجاح السياسي المميز الذي حققته تركيا وتونس في السنوات الأخيرة. لكن المهم في هذا المجال هو تأكيد أن هذا الخيار كان ممكنا في وقته، أي في زمن صعود الدولة القومية التحديثية، والنظم السلطوية، إلا أنه ليس خيارا متاحا طوال الوقت يمكن اللجوء إليه وقت الحاجة. المعني المقصود هنا هو أن النافذة التاريخية التي كان يمكن الاستفادة منها لتنفيذ هذا الخيار قد أُغلقت بفعل تطورات السياسة، والمجتمع، والثقافة، والتكنولوجيا، وأنه من الضروري البحث عن بدائل واستراتيجيات أخري.
تقدم لنا خبرة أتاتورك - بورقيبة درسا ثانيا يقول إنه لا يمكن القضاء علي الإسلام السياسي، وإنما يمكن دفعه في اتجاهات معتدلة. فقد تم استبعاد الإسلام السياسي في البلدين، كما تم إدخال إصلاحات علمانية هي الأعمق في العالم الإسلامي. ورغم هذا، عاودت أحزاب الإسلام السياسي الظهور عندما سمحت الظروف. ولكنها عندما عادت، كانت قد تغيرت، فأصبحت أحزابا معتدلة، وسلمية، وقابلة بالعمل في أطر تعددية منفتحة علي تحول ديمقراطي.
الدرس الثالث لخبرة أتاتورك - بورقيبة هو أن هذا النموذج هو الأقل عرضة لتهديد الجماعات الإسلامية المتطرفة. فمزيج التحديث الإداري، والاقتصادي، والثقافي، والعلمانية السياسية خلق قاعدة اجتماعية ترفض التطرف الديني، وقادرة علي حصاره. التطرف الديني سيظل قادرا علي جذب الأنصار في كل الأحوال. فالأفكار المتطرفة تعبر الحدود، وتنفذ إلي العقول بعيدا عن سيطرة الحكومات وأجهزة الأمن. ولكن الفرق كبير بين أن يكون في المجتمع الآلاف من المستعدين لاستقبال الأفكار المتطرفة، والعمل وفقا لها، وبين أن يكون الأمر محدودا في نطاق الآحاد، أو العشرات الذين تسهل مواجهتهم أمنيا.
إعادة إنتاج نموذج أتاتورك - بورقيبة لم تعد ممكنة، ولكن الدروس التي يقدمها هذا النموذج تظل مفيدة في رسم استراتيجيات دول المنطقة تجاه الدين والإسلام السياسي: التحديث الإداري، والاقتصادي، والسياسي، مع فتح الباب لاستيعاب التعبيرات المعتدلة عن الإسلام. هذه استراتيجية طويلة المدي، لكن المهم هو أن تكون أهدافها ومعالمها واضحة في أذهان القائمين علي الأمر. أما علي المدي القصير، فإنه يجب القيام بكل ما يجب القيام به لحماية الدولة الوطنية من تهديدات التطرف، فيما يتم تأكيد الاستعداد لدمج تيارات وجماعات الإسلام السياسي المعتدلة.
محاربة التطرف هي مهمة ملحة وعاجلة علي المدي القصير، والقسم الأكبر من مسئولية تنفيذ هذه المهمة يقع علي عاتق أجهزة الأمن، فيما تعاونها مؤسسات السياسة والمجتمع في منع التطرف من كسب عقول وقلوب أنصار جدد. وبقدر نجاح الدولة العربية في تنفيذ مثل هذه الاستراتيجية، بقدر فرصتها في النجاح في اجتياز امتحان التطرف الصعب.
العلاقات بين دول الإقليم:
العامل الرابع الذي سيحدد مستقبل الإقليم هو العلاقة بين دوله الرئيسية. فالاضطراب السائد في المنطقة وصل إلي ذروته الراهنة، علي خلفية صراعات عميقة بين دولها الرئيسية، وهي الصراعات التي أتاحت فرصة كبيرة لعوامل نحر الدولة الوطنية، ولقوي التطرف الديني والطائفي. فالتمدد الإيراني في عراق ما بعد الغزو الأمريكي، ودعم إيران غير المحدود لحزب الله أشعلا الصراع السعودي - الإيراني، ومعه الصراع السني - الشيعي الذي أصبح صراعا بين دول، وليس مجرد صراع بين طوائف. انقسام دول الإقليم الرئيسية حول الحرب الإسرائيلية علي لبنان 2006، وغزة 2008 أعاد أجواء الحرب العربية الباردة التي شهدتها المنطقة في الستينيات. التدخل في شئون الجيران، واستخدام الإعلام أداة لنزع الشرعية عن دول وحكومات قائمة كانا من بين ميراث الستينيات الذي تم تجديده، بعد تعديل بسيط في اللافتات، فسميت الثورية ممانعة، وسميت الرجعية اعتدالا. وكما انتهت حرب الستينيات العربية الباردة بهزيمة 1967، انتهت الحرب الباردة الجديدة بحقبة الاضطراب التي ظنها البعض ربيعا عربيا.
في الحاضر، كما في الماضي، الصراع بين دول الإقليم يوفر البيئة المناسبة لقوي الهدم. أحد الفروق المهمة بين صراعات الستينيات، وصراعات العقد الأخير هو أن العالم العربي لم يعد إقليما محصنا ضد تأثيرات دول الجوار الإقليمي، كما كان في السابق. فحدود التفاعلات والتأثيرات بين العرب، وجيرانهم الإيرانيين والأتراك اتسعت لتجعل الشرق الأوسط هو الإقليم الأصل، فيما تحول العالم العربي إلي نظام فرعي فيه، علي عكس وضع سابق، كان فيه العالم العربي هو المركز لإقليم شرق أوسطي أوسع يضم أطرافا إيرانية وتركية.
إذا كانت دول المنطقة ستواصل الصراع ضد بعضها بعضا، أو إذا كانت ستنجح في تجاوز مرحلة الصراع والانتقال إلي مرحلة جديدة يغلب عليها التعاون، فذلك هو أحد العوامل الرئيسية التي ستحدد مستقبل الشرق الأوسط. استمرار الصراع الراهن بين دول المنطقة يعني تعزيز أسباب تضعضع الدولة الوطنية، وتعميق الصراعات الطائفية، وانتشار التطرف الإسلامي، بينما تحقيق مصالحة شاملة بين دول المنطقة في اتجاه تكوين نظام إقليمي جديد هو أمر بعيد المنال في الظرف القائم، وسيظل كذلك، ما دامت رأت بعض دول المنطقة نفسها محصنة ضد آثار الاضطراب الراهن، وأنها تستطيع تحقيق المكاسب من وراء استمرار الفوضي الإقليمية، وأن خصومها من دول المنطقة سيكونون علي الجانب الخاسر في الصراع الراهن. يسري هذا بشكل خاص علي إيران بسبب تماسك نظامها الحاكم، واستعصائها علي الاختراق، وأيضا بسبب قدرتها علي توحيد شيعة المنطقة تحت قيادتها، فيما يبدو المسلمون السنة منقسمين ومتصارعين. وما صعود تنظيم الدولة الإسلامية، وغيره من التنظيمات المتطرفة المسلحة، والحرب التي تشنها عليها حكومات سنية سوي مظهر من مظاهر هذا الانقسام.
في مثل هذه الظروف، تبدو المصالحة الشاملة بين دول المنطقة أمرا مستبعدا، فيما يبدو مرجحا النجاح في تحقيق تقدم في اتجاه اصطفاف الدول العربية السنية للحد من مخاطر الصراع الإقليمي علي هذه الدول. التحالف الخليجي - المصري - الأردني، والتقدم الذي يمكن إحرازه في مجال إثناء قطر عن المغامرات التي تقوم بها منذ عدة سنوات، هي خطوات مهمة في هذا الاتجاه. تمتين الاصطفاف العربي لن يؤدي إلي إنهاء الاضطرابات الراهنة، ولكنه يؤدي إلي تحسين ميزان القوة لمصلحة الكتلة العربية عموما، والدول العربية منفردة بوجه خاص. وعلي المدي الأبعد، ربما استطاع تماسك التكتل العربي إقناع إيران بتغيير سياستها الراهنة، فاتحا الباب لمصالحة إقليمية شاملة لن تعيد عقارب الوضع الإقليمي إلي ما قبل 2011، بل ستسبغ الشرعية علي نتائج الصراع الراهن، بما فيه من دول جديدة ستظهر، وأخري ستنقسم، وثالثة ستختفي نهائيا. مصالحة المدي البعيد هذه -إذا حدثت- ستشمل بالتأكيد العلاقة بين السنة والشيعة علي مستوي الإقليم، كما أنها قد تتسع لتشمل العلاقات بين الطائفتين داخل الدول نفسها، لتخلق نظاما إقليميا ينظم العلاقة بين الدول، كما ينظم العلاقات الطائفية داخل الدول أيضا، ولكن هذا أيضا أمر بعيد المنال في اللحظة الراهنة.
الشرق الأوسط يمر بمرحلة إعادة تشكيل عميقة وجذرية بعد نحو مئة عام من ظهوره علي خريطة السياسة الدولية. الشرق الأوسط القديم كان نتيجة للفعل المنفرد للقوي الاستعمارية المسيطرة علي النظام الدولي. لم يكن هذا الشرق الأوسط القديم يعجبنا، فحاولنا تغييره ثوريا لينتهي بنا الأمر إلي الحال الذي نحن عليه الآن. القوي الدولية الكبري ستسهم في صنع الشرق الأوسط الجديد. ولكن جديد هذه المرحلة هو أن القوي المحلية والإقليمية تلعب الدور الأكبر في الميلاد الجديد للإقليم. فهل سنصنع لأنفسنا وبأنفسنا نظاما يروقنا أكثر من ذلك الذي صنعه الاستعمار لنا؟ سننتظر، لكننا لن نري، فالشرق الأوسط الجديد لن يتبلور في حياة هذا الجيل.