عرض : محمد بسيوني باحث في العلوم السياسية
ظل حزب الله لسنوات يكرس لفكرة الفاعل الذي يبدو في الكثير من الأحيان أقوى من الدولة، والذي في الوقت ذاته يؤسس لنمط من الشرعية الداخلية والإقليمية القائمة على المقاومة العسكرية لإسرائيل، في مرحلة زمنية كانت المنطقة تدرك فيها جيداً أن الدول لم تعد في حالة تسمح لها بالدخول في حروب جديدة مع إسرائيل. وقد منح هذا السياق المتغير للتنظيم فرصة مواتية للبزوغ، واستمرار فكرته. فهو من ناحية، اكتسب قبولا لدى قطاعات مجتمعية عديدة في المنطقة. ومن ناحية أخرى، تمكن الحزب في أزمات عديدة- ومن أهمها حرب لبنان 2006 - من إحداث قطيعة مع انتمائه الشيعي الذي توارى خلف فكرة المقاومة ليخلق نموذجا مثاليا للحزب حتى بين المنتمين للمذهب السني.
بمرور الوقت، باتت فكرة حركة المقاومة المفارقة للانتماء الطائفي الضيق معرضة للتقويض، فلم تعد الصورة الذهنية التي تشكلت للحزب أثناء حرب لبنان 2006 هي الحاكمة للمشهد. واتضح أن الإرث الطائفي للتنظيم من الصعب الفكاك منه، إذ إن الصراع الداخلي في سوريا أثبت أن حزب الله أكثر تماهياً مع مصالح الذاتية والمذهبية، ليصبح جزءا من مشهد طائفي بامتياز بات هو المحرك للأحداث في سوريا والمنطقة على السواء.
وتأسيساً على ما سبق، يتناول دانيال بيمان وبلال صعب، من خلال مقالهما المعنون "حزب الله في مرحلة انتقالية"، والمنشور على الموقع الإلكتروني لمعهد بروكنجز، التحولات التى مر بها حزب الله، خلال السنوات الماضية، لاسيما مع انخراطه المباشر في الصراع السوري الدائر حتى الوقت الراهن، وتماهيه مع الأجندة الإيرانية، بصورة تفضي إلى انعكاسات جوهرية على الحزب ومساراته المستقبلية، فضلا عن الكيفية التي تتعاطى من خلالها واشنطن وتل أبيب مع التنظيم.
أزمات الداخل وتحالفات الخارج
منذ ظهور حزب الله في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وهو يتعامل مع واقع محتدم بالأزمات التي ارتبطت بتشابكات وتحديات الداخل اللبناني، فضلاً عن تداعيات الاحتلال الإسرائيلي. هذه المعطيات كادت تعصف بالكيان التنظيمي للحزب، حيث لم تكن مجرد أزمات عابرة، ولكنها أزمات وجودية اتصلت بصراعات مسلحة مباشرة مع إسرائيل، كان آخرها في 2006 ، بالإضافة إلى اغتيال إسرائيل لعدد من القيادات والرموز التاريخية للتنظيم، أهمهم الشيخ راغب حرب، وعباس الموسوي، وعماد مغنية. وبالتوازي مع التحدى الإسرائيلي، كانت المعادلة السياسية الداخلية في لبنان هي الأخرى تفرض شروطها، وتطرح تحديا أكثر تعقيداً أمام الحزب، لاسيما مع الانسحاب السوري من لبنان في 2005، وانعكاسات حادث اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، على السياق اللبناني.
ويشير بيمان وصعب إلى أن حزب الله كشف خلال تفاعله مع تلك التحديات عن درجة عالية من التكيف والقدرة على استمرار بنيته التنظيمية والفكرية. وقد أسهم عدد من العوامل في تعزيز هذه القدرة، فالحزب يحتفظ بدرجة عالية من الانضباط والتماسك التنظيمي، والقيادة الصارمة. كما أن الحزب نجح منذ تأسيسه في خلق شرعية مجتمعية، ورصيد هائل من الدعم داخل الطائفة الشيعية في لبنان، موظفاً في ذلك ضعف دور الدولة ليطرح نفسه كبديل يقدم للشيعة ما يصبون إليه من خدمات مجتمعية، وصوت سياسي مؤثر، وأمن وشعور بالتمكين.
وتشكل التحالفات الخارجية مصدرا مهما من مصادر دعم الحزب. فخلال السنوات الماضية، كان الحزب يعول كثيراً على تحالفه مع طهران ودمشق، حيث وفر له هذا التحالف ما يحتاج إليه للاستمرار، ومواجهة التحديات التي توالت عليه. وفي هذا الإطار، كانت إيران تمثل المرجعية الدينية والفكرية لحزب الله، وهذا التقارب الفكري دفع مرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي، إلى تعزيز العلاقات المخابراتية والعسكرية مع حزب الله. علاوة على ذلك، فإن بعض التقديرات تذهب إلى أن حزب الله يتلقي مساعدات سنوية من إيران تتراوح بين 100 و200 مليون دولار، وبالطبع هذا الرقم يكون قابلا للزيادة عند الاحتياج.
ويذكر الكاتبان أن النظام السوري يمثل حليفا رئيسيا لحزب الله، لاسيما مع النفوذ التاريخي لسوريا داخل لبنان، وهو ما يعطي للحزب مزايا في علاقاته الداخلية، ويخدمه في توازنات القوى في المعادلة السياسية اللبنانية. كما أن سوريا تمثل مسارا مهما للإمدادات بالنسبة للحزب، يعتمد عليه في نقل المساعدات الإيرانية، والأسلحة، بل وحتى توفير مخازن أسلحة للحزب داخل الأراضي السورية. وتتعاظم أهمية هذا المسار في حالة اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل، مثلما حدث في 2006، حيث استفاد الحزب من مسار الإمداد القادم من سوريا في عملية التجديد السريع لتسليحه.
حزب الله والصراع السوري
مع بدايات الأزمة السورية – التي بدأت بتظاهرات مطالبة برحيل النظام وانتهت إلي ما يمكن وصفه بالحرب الأهلية – حرص حزب الله على تقديم رؤية تتجنب التدخل المباشر، وتدعو للتهدئة والتسوية السلمية للصراع. ولكن بمرور الوقت، وبالتزامن مع العنف المفرط من جانب القوات النظامية، وعسكرة الحراك الشعبي، وتزايد معدلات تسليح المعارضة، بدا أن توجهات الحزب تتماهى كلياً مع مصالح حلفائه التقليديين (طهران ودمشق) في الإبقاء على نظام بشار الأسد. وهكذا، أصبح الحزب فاعلا رئيسيا في الصراع السوري، ينخرط بصورة مباشرة في المعارك الدائرة.
يقدر المقال عدد قوات حزب الله المشاركة في الصراع السوري بنحو خمسة آلاف مقاتل، ويقوم الحزب بتغييرهم بشكل دوري لتخفيف الضغوط عليهم، لاسيما مع تزايد العبء العسكري على مقاتلي الحزب، بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، واضطرار الميليشيات العراقية الشيعية التي تقاتل مع النظام السوري إلى العودة للعراق لقتال تنظيم الدولة الإسلامية.
وبالرغم من القدرات العسكرية للحزب، فقد واجه العديد من الأزمات مع تدخله العسكري في سوريا، إذ إن مقاتلي الحزب دخلوا الأراضي السورية دون أن تكون لديهم الدراية والمعرفة الكافية بتضاريس البلاد، ليصبحوا في الموقع الأضعف في بعض المعارك، وهذا ما حدث في معركة القصير 2013 ، حينما تكبد الحزب خسائر فادحة على أيدي قوات المعارضة السورية. بالإضافة إلى ذلك، وجد مقاتلو الحزب أنفسهم يخوضون المعارك بتشكيلات كبيرة تتضمن عناصر من ميليشيات ومجموعات أخرى، وهي تشكيلات أكبر بكثير مما اعتاد عليه الحزب أثناء تدريباته ومواجهاته المباشرة مع إسرائيل.
حينما تدخل الحزب في الصراع السوري، كانت لديه رؤية راسخة بأنه يصون مصالحه ومصالح حلفائه، بيد أن هذه الرؤية تجنبت الإجابة على تساؤلات مركزية حول الوضع الداخلي في لبنان، والكيفية التي يمكن التعامل بها مع تداعيات الصراع السوري، وهي تساؤلات أصبحت أكثر إلحاحاً من أى وقت مضى، خاصة مع ما أفضى إليه الصراع السوري من أوضاع مرشحة للانفجار، سواء في الداخل اللبناني، أو المنطقة ككل. وهنا، يشير بيمان وصعب إلى عدد من التداعيات المترتبة على الصراع السوري، وتورط حزب الله فيه. وهذه التداعيات من الجائز اختزالها فيما يأتى:
أولاً) تنامي احتمالات العنف داخل لبنان، والتكريس للثنائيات الطائفية في دولة لديها تاريخ موسوم بالطائفية والحروب الأهلية. وقد شهدت الشهور الأخيرة بعض الأحداث ذات الصبغة الطائفية التي تنذر بوقوع سيناريو كارثي. ففي أغسطس 2013 ، نفذت كتائب عائشة أم المؤمنين تفجيرات في منطقة الرويس التي أدت إلى مقتل27 شخصا، وإصابة 336 آخرين. وفي نوفمبر 2013 ، نفذت كتائب عبد الله عزام، ذات الصلة بتنظيم القاعدة، عملية تفجير السفارة الإيرانية في بئر حسن، حيث قُتل 23 شخصا. وتكررت تلك العمليات في يناير 2014 مع تنفيذ عمليتين في حارة حريك. وقد نفذت جبهة النصرة إحدى العمليتين، في حين لم يتم التعرف على منفذ العملية الأخرى. وفي فبراير الماضي، نفذت كتائب عبد الله عزام انفجارين في جنوب بيروت قرب المركز الثقافي الإيراني، مما أودى بحياة ستة أشخاص، كما تعرض حاجز عسكري لحزب الله بمنطقة الخريبة في سبتمبر الماضي لتفجير، قُتل على أثره ثلاثة أشخاص على الأقل.
ثانياً) امتداد محفزات الصراع السوري إلى الداخل اللبناني، حيث إن انخراط حزب الله في المعارك السورية اجتر معه مخزونا طائفيا هائلا عزز دور التيارات الراديكالية (السنية والشيعية) في المنطقة، ومن ثم لن تكون هناك ضمانة لإبقاء لبنان بمعزل عما يحدث في سوريا. فالتيارات الراديكالية السنية داخل سوريا قد يتزايد نفوذها، ولا يتوقف طموحها على سوريا، ولكنها ستسعى إلى التوسع داخل لبنان المجاورة، وستكون مدفوعة في ذلك بالرغبة في القضاء على حزب الله ذى الانتماء الشيعي، والذى يقف بجانب نظام بشار الأسد. وعلي الجانب الآخر، فإن لبنان يوجد بها أكثر من 1.2 مليون لاجئ سوري، وهؤلاء من المحتمل أن يشكلوا رصيدا للعنف والراديكالية، خاصة أن أغلبهم من الطائفة السنية، ويرون أن حزب الله سبب فيما حدث لهم، من خلال وقوفه بجانب النظام السوري.
ثالثاً) تدهور التحالفات الداخلية لحزب الله، وتحميل الحزب مسئولية اندلاع حرب أهلية جديدة، وهذا الاحتمال سيتم تعزيزه في حال تزايد الضغوط على لبنان، وسقوط نظام الأسد بصورة تؤدي إلى الفوضي الشاملة في سوريا ولبنان، وظهور التيارات الراديكالية بكثافة في بيروت. حينها، ستكون تكلفة التحالف مع حزب الله باهظة، وبالتالي قد يفقد الحزب حلفاءه في التيار الوطني الحر المسيحي، فضلا عن بعض المنتمين للطائفة الشيعية (مع الاعتراف بأن القاعدة العريضة من الطائفة الشيعية في لبنان لا تزال داعمة لحزب الله) الذين سيرون في سياسات حزب الله سببا في اندلاع حرب أهلية جديدة في لبنان. بيد أن تدهور الأوضاع الأمنية سيكون في الوقت ذاته دافعا لآخرين للحفاظ على علاقات جيدة مع حزب الله، الذى سيكون حينها كيانا بديلا يمكن الاعتماد عليه في توفير الأمن لهم.
رابعاً) سقوط نظام الأسد سيؤثر كثيراً فى الوضعية الاستراتيجية لحزب الله، نظراً لأنه كان يعتمد على النظام السوري في تقديم الدعم له داخل لبنان، وكذلك توفير ممر آمن، وخدمات لوجيستية فيما يتعلق بنقل وتخزين الإمدادات والأسلحة القادمة من إيران. وللتدليل على هذا المأزق، يذكر المقال التقارير التي تتحدث عن قيام الحزب بنقل مئات الصواريخ من مخازن موجودة بسوريا إلى قواعد تابعة له بشرق لبنان، وذلك تحسباً لسقوط نظام بشار الأسد. وعطفاً على سبق، يرجح أن تتأثر إمكانيات وقدرات الحزب بصورة ستنعكس عليه حتماً، في حالة نشوب نزاع مباشر مع إسرائيل في المستقبل.
حزب الله من منظور أمريكي- إسرائيلي
يظل حزب الله أحد مكامن التهديد لتل أبيب، حتى مع استنزاف قدرات الحزب وانشغاله بالصراع السوري، إذ إن الحزب يمتلك قدرات تسليحية متميزة، ومن ورائها دعم إيراني غير محدود. ويحافظ الحزب على شبكة واسعة من الأنفاق لإخفاء قواته وقاذفات الصواريخ التي يعدها الحزب عناصر رئيسية في التحضير لأى مواجهة قادمة مع إسرائيل. فضلاً عن ذلك، فإن زيادة مدى الصواريخ التي يمتلكها الحزب يمكن أن تشكل تهديدا لإسرائيل حتى مع النجاح النسبي الذى حققته أنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية.
ومن هذا المنطلق، فإن تل أبيب تطمح – وفقاً للمقال – إلى تقليل الدعم الإيراني والسوري للحزب، وإيقاف عمليات نقل الأسلحة للحزب، وعلى وجه الخصوص صواريخ أرض- جو، وصورايخ كروز المضادة للسفن. ولا يستصحب هذا التوجه الإسرائيلي رغبة في الدخول في صراع موسع مع حزب الله في الوقت الراهن. بيد أن هذا لا يعني انتفاء إمكانية حدوث مواجهة مباشرة بين الطرفين، حيث إن احتمالات اندلاع مثل هذه المواجهة قائمة، وترتهن بشكل كبير بالوضع السياسي الداخلي للحكومة الإسرائيلية وحزب الله، فضلاً عن تداخل إيران في معادلة الصراع بين الطرفين. وبالتالي، فإن مهاجمة إسرائيل للمنشآت النووية الإيرانية قد تدفع حزب الله إلى التدخل، والقيام بهجمات ضد تل أبيب.
ينتقل بيمان وصعب إلى تحليل الموقف الأمريكي من حزب الله، ليخلصا إلى رؤية أمريكية تتسم بدرجة شديدة من التعقيد، فهي رؤية يتنازعها الأيديولوجي والبراجماتي، إن جاز التعبير. فمن ناحية، يدفع المسار الأيديولوجي إلى تكريس النمط العدائي في العلاقة مع حزب الله، ورفض أى مساحة للحوار، على أساس أن الحزب منظمة إرهابية، من المنظور الأمريكي، وتهدد إسرائيل، علاوة على علاقة الحزب بطهران. ومن ناحية أخرى، فإن المسار البراجماتي يعني وجود مصالح مشتركة بين واشنطن وحزب الله. وتكمن هذه المصالح في رغبة الطرفين في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، ومواجهة العناصر الجهادية داخل سوريا، ودعم رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي. وعلى الصعيد الداخلي في لبنان، تعتقد واشنطن أن حزب الله فاعل رئيسي يُبقي البلاد متماسكة. وبعيداً عن هذه التعقيدات الأمريكية، فإن واشنطن ستظل مطالبة بتطوير سياسة أكثر فاعلية للتعاطي مع كافة الفاعلين بالمنطقة، بمن فيهم حزب الله.