أظهرت النتائج الرسمية للانتخابات التشريعية في تونس، التي أجريت في 26 أكتوبر 2014 ، فوز حزب حركة "نداء تونس " بزعامة الباجي قائد السبسي بالمركز الأول. وقالت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إن حزب نداء تونس حصل على 86 مقعدا (تم اضافة مقعد للحزب بعد الحكم لمصلحته في الطعن في القصرين) مقابل 69 للنهضة ، وذلك من أصل 217 مقعدا في البرلمان الجديد. كما حصل الاتحاد الوطني الحر على 16 مقعدا ، تليه الجبهة الشعبية (15)، ثم "آفاق تونس" (8)، والمؤتمر من أجل الجمهورية (4)، بينما حصل كل من حزب المبادرة، والتيار الديمقراطي، وحركة الشعب على ثلاثة مقاعد. وبهذا، يمكن القول إن تونس قطعت نصف الطريق نحو الديمقراطية بإنجازها الانتخابات التشريعية.
غير أن الحديث يتمحور هذه الأيام حول هوية الحكومة المقبلة التي ينوي " نداء تونس" تشكيلها، في ظل الحديث عن احتمال سعي الحزب لاستبعاد خصمه السياسي الأبرز "النهضة" الذي لا يزال يحتفظ بثلث المقاعد في البرلمان، وهو ما يجعله رقما صعبا في المعادلة السياسية التونسية بالرغم من أن الجلوس في مقاعد المعارضة أفضل بكثير من الجلوس في السلطة في هذه الظروف تحديدا.
فهناك الكثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية الملحة، والتي بحاجة لحكومة تعمل بدون أن تكون هناك معارضة تعمل من أجل إفشال دورها، إذ إن سيناريو عدم الاستعانة بحركة النهضة يعني أنها ستمثل قوى المعارضة ، وبذلك ستكون الحركة موجودة بقوة في البرلمان، لأن الدستور التونسي الجديد نص بشكل واضح على أن تكون المعارضة رئيسا للجنة المالية في البرلمان ( الخطة والموازنة)، وذلك من أجل مراقبة الحكومة بشكل حقيقي، إضافة إلى أنها موجودة أيضا في مقعد مقرر لجنة الشئون الخارجية، الأمر الذي قد يشكل ضغطا كبيرا على الحكومة. كما أنه، وفقا للدستور الجديد، فإن المعارضة في تونس لن تكون شكلية، بل سيكون لها دورها المؤثر في الوضع السياسي في تونس، حيث إن البرلمان دوره تشريعي ورقابي.
مهمة عسيرة
إن تشكيل الحكومة التونسية المقبلة مهمة تبدو "عسيرة" في ظل النتائج التي تمخضت عنها هذه الانتخابات، حيث إن الأحزاب التي احتلت الصفوف التالية لـ "نداء تونس"، إما أنها لا تتقاسم معه خياراته الأيديولوجية، كما هو الشأن بالنسبة لـ"حركة النهضة"، ذات التوجه الإسلامي ، أو أن برنامجه الانتخابي، كما هو الحال بالنسبة لـ "الجبهة الشعبية" ذات توجه اشتراكي ، أو لا تجمعه وإياها "علاقة مودة" كحزب "الاتحاد الوطني الحر " الذي يقوده سليم الرياحي، المنافس للسبسي في الانتخابات الرئاسية، في حين لن يكون بمقدور الأحزاب المتبقية الأخرى ضمان أغلبية مريحة للنداء لعدم حصولها إلا على تمثيل محدود في البرلمان.
هذا المشهد المتنافر جعل المراقبين يؤكدون أن عملية تشكيل أغلبية مريحة ستكون أشبه بـ "ولادة قيصرية"، وهو ما يعني أن حركة "نداء تونس" ستكون أمام هامش اختيار محدود، سيضطرها لتنازلات "صعبة "، إن هي أرادت قيادة الحكم، خلال السنوات الخمس المقبلة، فالاكتفاء بالحلفاء الأقربين لا يضمن لها أغلبية مريحة، واللجوء إلى حركة "النهضة" خيار " مر وغير طبيعي.
مسارات محتملة
يمكن القول إن هنالك عدة سيناريوهات لتشكيل الحكومة التونسية المقبلة تبدأ بالاتفاق بين " نداء تونس"، و"النهضة"، مرورا بهيمنة "نداء تونس" على المشهد السياسي، عبر استئثاره بالسلطتين التنفيذية والتشريعية. ويرى البعض، ومنهم المحلل السياسي التونسي د. رياض الصيداوي (مدير المركز العربي للدراسات السياسية والاجتماعية في جنيف) أن المشهد السياسي مفتوح على جميع الاحتمالات، مشيرا إلى وجود تردد بين قيادات "نداء تونس" حول إشراك "النهضة" في الحكومة، والخوف من تراجع شعبية الحزب، على غرار ما حدث مع شركاء النهضة السابقين "المؤتمر من أجل الجمهورية"، و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات"، برغم أنه يشير في المقابل إلى وجود تشابه كبير بين البرامج الاقتصادية والاجتماعية للطرفين، خاصة لجهة تتبنى النموذج الليبرالي والرأسمالي واقتصاد السوق.
أولا - سيناريو النموذج الأمريكي، ويعتمد على وجود حزبين مختلفين من الناحية الأيديولوجية (الحزب الديمقراطي الليبرالي والحزب الجمهوري المحافظ)، وهذا يتشابه إلى حد كبير مع الحالة التونسية التي تضم حزبين كبيرين كـ«نداء تونس» العلماني، وحركة «النهضة» الإسلامية. ويشير البعض إلى احتمال تطبيق هذا السيناريو، في ظل التأثير الأمريكي الكبير فى الحياة السياسية في تونس، والجهود التي قام بها السفير الأمريكي سابقا في تقريب وجهات النظر بين "نداء تونس"، و"النهضة"، فضلا عن جولاته على مكاتب الاقتراع خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة.
كان القيادي في حركة "النهضة" عبد اللطيف المكي أكد، في وقت سابق، أن الحركة " لديها خيارات مريحة جدا، فبإمكانها البقاء في المعارضة، وإنجاز خيارات الشعب التونسي من ذلك الموقع، وبإمكانها المشاركة في الائتلاف الحكومي، إذا رأت أنه يمتلك برنامجا يخدم الثورة، ويحقق أهداف العدالة الانتقالية، ومن بينها فتح ملفات الفساد، فضلا عن الإصلاح والعدالة الاجتماعية، ولا يزال لدينا الوقت الكافي لنقرر بهذا الشأن، على أساس أن الحكومة المقبلة لن تتشكل قبل مطلع العام المقبل".
ثانيا: سيناريو استبعاد النهضة، ويتمثل فى سعي "نداء تونس" للتحالف مع "الجبهة الشعبية"، والأحزاب الصغيرة التي يختلف معها (أيديولوجيا واقتصاديا) لتحقيق النصاب الذي يمكنه من تشكيل الحكومة (51 بالمئة)، بعيدا عن حركة النهضة التي ستبقى في المعارضة.
كان القيادي في «الجبهة الشعبية» الجيلاني الهمامي قد أكد أن الجبهة ترفض المشاركة في حكومة مكونة من "نداء تونس»، والنهضة، على أساس أن برنامجيهما السياسيين لا يتوافقان مع البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي تسعى الجبهة الشعبية لتحقيقه، والذي يتضمن إجراءات اجتماعية واقتصادية عاجلة تسعى لتخفيف وطأة الأزمة على الشعب التونسي، خاصة الفئات الضعيفة، والجهات المحرومة، مشيرا إلى أن الجــبهة تفضل البقاء في إطار البرلمان والمعارضة، والعمل من أجل تفعيل دور المجتمع المدني ليسهم في ممارسة الضغط للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية.
ثالثا: سيناريو الوصفة السويسرية، وهو يعتمد على اقتباس الوصفة السويسرية في تشكيل الحكومة، وتقضي بمشاركة اليمين واليسار في حكومة ائتلافية "أبدية". وقد تلجأ تونس إلى هذا الخيار، حال تصاعد التجاذبات السياسية، وفشل الوفاق الوطني. كما يمكن تشكيل حكومة ائتلافية واسعة تجمع بين الأحزاب الخمسة الأولى الفائزة في الانتخابات (على اختلاف برامجها الاقتصادية والاجتماعية)، ويمكن أن تحكم لفترة طويلة يتم خلالها التركيز على إنعاش الاقتصاد، بدل التمزق والشعارات السياسية (المُفرغة) على حساب التنمية، ورفاهية المواطن، والاقتصاد التونسي.
وكانت حركة "النهضة" قد دعت قبل أشهر من الانتخابات إلى تشكيل حكومة ائتلافية موسعة، أو حكومة وحدة وطنية تضم جميع الأطراف السياسية الفائزة في الانتخابات، فضلا عن ممثلين من المجتمع المدني ، ولقي هذا الاقتراح تجاوبا من أغلب الأطراف السياسية في البلاد.
من جهة أخرى، بدأ "نداء تونس" بالتلميح إلى احتمال الهيمنة على المشهد السياسي عبر الاحتفاظ بالرئاسات الثلاث، في حال فوز الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في 23 نوفمبر 2014، وهو ما باتت تروج له بعض القيادات المتشددة في الحزب، والتي قالت إن "النداء" لن يتحالف سوى مع القوى السياسية "التقدمية" التي تتفق معه في البرامج والرؤى المستقبلية للبلاد، في إشارة إلى احتمال استبعاد النهضة بشكل كلي من الحكم.
وفي حال فوز الباجي قائد السبسي بالرئاسة، فسيحتكر نداء تونس السلطات الثلاث (رئاسة البرلمان، والحكومة، والجمهورية). أما في حال فوز رئيس من حزب معارض للسبسي بالرئاسة، فستتجه تونس لتطبيق النموذج الفرنسي الذي يتلخص فى وجود صراع وتنافس بين رئاسة الدولة والحكومة، في ظل وجود رئيس دولة اشتراكي، ورئيس حكومة يميني، أو العكس، وهذا ما قد يحدث في تونس أيضا.
كان رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي قد حذر أخيرا من عودة الاستبداد، وحكم الحزب الواحد، والهيمنة على الإدارة، ومؤسسات الدولة، مؤكدا أن "النهضة" لن تسمح بعودة أصنام الحزب الواحد، والزعيم الأوحد، والانتخابات المزيفة، والمال الفاسد إلى الأبد.
بصفة عامة، فإن تشكيلة الحكومة القادمة لن تكون بالأمر الهين، وكل السيناريوهات ستبقى قائمة. كما أن تلك الانتخابات ستلقى بظلالها على الانتخابات الرئاسية التي تجرى الشهر الجاري، بعد إزاحة التيار الإسلامي والترويكا من المشهد السياسي التونسي، علاوة على "الخلع" الذي تم بين تونس والإخوان، وسيعيد حسابات الإسلاميين في الخارج ومن يدعمهم، حيث سقط آخر موقع راهنوا عليه.
بيد أن المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والسياسية الخطيرة الموروثة عن أربع سنوات من الاضطرابات، وضعف الدولة تستوجب جهدا وطنيا، وتعبئة كل الطاقات لمعالجتها، عوضا عن إقحام البلاد مجددا في لعبة الاستقطاب الثنائي، والصراعات الهامشية.