أثارت الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة لحرمة المسجد الأقصى، من خلال اقتحامه، ومنع المصلين من دخوله، استياء العالمين العربي والإسلامي، فيما عدها البعض نذير خطر يهدد أمن المنطقة بأكملها لما تمثله من استفزاز لمشاعر المسلمين، والمساس بمقدساتهم، وهو ما دعا البعض لإعادة فتح ملف التطبيع العربي مع إسرائيل، وبيان أضراره على مسار قضية الصراع العربي – الصهيوني، وعلى المنطقة بأكملها.
في هذا السياق، عقد مركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس ندوة للاحتفال بصدور موسوعة (التطبيع والمطبعون: العلاقات المصرية – الإسرائيلية 1979 – 2011) لمؤلفها الدكتور رفعت سيد أحمد، مدير مركز يافا للدراسات، بهدف إحياء ذاكرة الصراع العربي - الصهيوني، من خلال إبراز الأضرار والمخاطر التي تعرضت لها مصر بسبب هذا التطبيع في كافة المجالات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعسكرية، والكشف بالأسماء والوثائق عن أسماء المطبعين والجرائم التي ارتكبوها في حق قضية العرب الأولى. أدار الندوة الأستاذ الدكتور جمال شقرة، رئيس مركز بحوث الشرق الأوسط، بحضور عدد من الخبراء والمتخصصين في الدراسات الإسرائيلية بالجامعات المصرية.
التطبيع السياسي كمقدمة لتحييد الدور المصري في المنطقة:
في افتتاح أعمال الندوة، أشاد الدكتور جمال شقرة، رئيس المركز، بالموسوعة، واصفًا إياها بالعمل التاريخي بامتياز لما تمثله من "طلقة ثقافية كبيرة" في مواجهة التطبيع والمطبعين، على حد وصفه.
بينما أكد الدكتور رفعت سيد أحمد، مؤلف الموسوعة، أن الفكرة المركزية لهذا العمل الموسوعي قوامها أن قصة الصراع العربي- الصهيوني قصة معقدة ومتداخلة، لا تزال تكتب سطورها بالدم حتى لحظتنا هذه، وأن فصل العلاقات المصرية – الإسرائيلية هو أكثرها طولاً وتعقيداً، نظراً لمحورية مصر في أمتها العربية، ولأن العدو الصهيوني عدها العقبة الأولى والأخطر في المنطقة، والتي تحول دون ترسيخ وجوده في فلسطين، واختراقه للمحيطين العربي والإسلامي، خاصة بعد فترة من العداء والمقاومة الصريحة له من نكبة 1948 وحتى حرب 1973 ، وكان ذروتها الحقبة الناصرية.
وأوضح أن مصر كانت هي الأبرز والأهم في قصة الصراع، سواء من المنظور الصهيوني، أو من ناحية الواقع العربي، ولذلك عملت الاستراتيجية الإسرائيلية على هزيمتها، وإن لم تفلح، فاختراقها وتحييدها، ولا بأس من عزلها تدريجياً عن أمتها وقضاياها، وهذا هو جوهر ما سمى لاحقاً بـ"التطبيع" الذي استهدف بالأساس " تعرية مصر" عن ردائها العربي، وفصلها عن جسدها الإسلامي، وثقافتها التاريخية المقاومة لمشاريع الاستعمار والهيمنة. وأشار إلى أن إسرائيل في ذروة الصراع والحروب لم تنجح في هذا الهدف سوى على مستوى القيادة الحاكمة، حيث استعصى عليها الشعب بنخبته طيلة ما يزيد على 37 عاماً من التطبيع في كافة شئون الحياة المصرية. وبعد ثورة 25 يناير، فوجئت إسرائيل، ومن سار في ركابها من نخب ودول إقليمية ودولية، بأن هذا الشعب الذي أرادت اختراقه وتعريته وعزله، والهيمنة عليه من خلال التطبيع، وما ارتبط به، فور توقيع كامب ديفيد 1978 من المعونة الأمريكية، ثار عليها، وأحرق سفارتها مرتين، وفجر خط الغاز الموصل إليها بأبخس الأسعار ست عشرة مرة في العامين التاليين للثورة. كما فوجئت إسرائيل بكم ونوع العداء الشعبي لها، بعد ثورة أولى في 25 يناير 2011 على من سمته كنزها الاستراتيجي "حسنى مبارك"، وثورة ثانية في 30 يونيو 2013 على تفاهمات كادت تكتمل مع بعض قوى ما يسمى بالإسلام السياسي لخلق شرق أوسط إسرائيلي- أمريكي جديد بقشرة إسلامية، يضمن بقاء إسرائيل، وقوة العلاقات معها، ففوجئت تل أبيب وواشنطن بعكس ما خططتا في هذا المجال .
وأشار الدكتور رفعت إلى أن الفرضية والفكرة المركزية للموسوعة تنطلق من كون التطبيع بين الكيان الصهيوني ومصر بات شديد التعقيد والتداخل مع قضايا الوطن الأخرى (الحريات – الديون – الاقتصاد – التنمية.. الخ)، وهو ما ألقى بعبء كبير على هذه الموسوعة فى مجال الرصد والتحليل المعمق الذي انتهى إلى حقيقة رئيسية، هى أنه لا مستقبل لمصر دون مراجعة دقيقة وحاسمة، وإعادة النظر في العلاقات المصرية– الإسرائيلية بالكامل بما يتفق وحاجات الأمن القومي للبلاد.
التطبيع الاقتصادي كمقدمة لاختراق بنيان الاقتصاد العربي:
ذكر د. رفعت أنه إذا كان التطبيع السياسي هو وسيلة إسرائيل لتحقيق أهدافها في مصر، وفى المنطقة العربية، فإن التطبيع الاقتصادي كان هو الهدف الأهم لهذه للتسوية. فلقد كان التفاعل الاقتصادي مع مصر هو حلم إسرائيل، وأمل قادتها ومفكريها، وكان حلم نقل مياه النيل لإسرائيل واحدًا من المطالب الاقتصادية من التطبيع المرجو من الإسرائيليين. ثم إن التطبيع، بالإضافة إلى كونه كان أملاً وهدفاً لكسر الحصار الاقتصادي حول إسرائيل، فإن واقع الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات السابقة على التسوية جعله ضرورة، حيث أصبح فتح أسواق جديدة للتصدير مطلباً ملحاً من مطالب السياسة الإسرائيلية"، خاصة السوق المصرية لما تحمله من عوامل إغراءات بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي.
وأكد أن التطبيع الاقتصادي في الفكر الإسرائيلي هو السبيل لاختراق بنيان الاقتصاد العربي كله، والحيلولة دون إمكانية قيام تنسيق أو تكامل اقتصادي عربي خالص بين دول هذه المنطقة. وإذا كانت الضمانات الأمنية، ونزع السلاح، والتعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة تمثل الضمانات اللازمة لفرض السلام، فإن التدفق الحر للسلع والأفكار هما وحدهما الدعامتان القادرتان على تعزيز التسوية، وإكسابها الصيغة الوحيدة المقبولة، وفقا للمفهوم الإسرائيلي.
وأشار إلى أن إسرائيل قد نجحت في فرض التطبيع الاقتصادي، من خلال الإطار السياسي كجزء لا يتجزأ من معاهدة السلام، ففرضت المبدأ في اتفاقية الإطار في كامب ديفيد، ثم أكدته ضمن بنود معاهدة السلام بواشنطن، كما فصلت عناصره فى الملحق الثالث للمعاهدة، ولم تترك للجان الاقتصادية الكثير مما يمكن أن تقوم به. فقد تضمنت "معاهدة السلام" اتفاق الطرفين على أن "العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستتضمن الاعتراف الكامل، والعلاقات الدبلوماسية، والاقتصادية، والثقافية، وإنهاء المقاطعة الاقتصادية والحواجز ذات الطابع التمييزي ضد حرية انتقال الأفراد والسلع.
كما فصل الملحق الثالث للاتفاقية الأحكام العامة لتحقيق هذا الهدف، وعالج العلاقات الدبلوماسية والقنصلية، والعلاقات الاقتصادية، والتجارية، والعلاقات الثقافية، وحرية التنقل، والتعاون في سبيل التنمية، وحسن الجوار، والتنقل والمواصلات، والتمتع بحقوق الإنسان، والمياه الإقليمية. كما حدد الاتفاق فترة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر بعد الانسحاب المبدئي، لكي يدخل الطرفان في مفاوضات من أجل توقيع اتفاقات تطبيع في المجالات الاقتصادية والتجارية، والثقافية، والنقل والمواصلات، ولم يحدد حدًا أقصى للمدى الزمني للانتهاء من هذه المفاوضات، والتوصل إلى الاتفاقات المطلوبة، حتى يظل الحوار والتفاوض في هذه المسائل متصلاً دون انقطاع.
التطبيع الثقافي كدعامة لنشر ثقافة السلام في المنطقة:
أشار مؤلف الموسوعة إلى أن العنصر الثقافي كان واحدًا من العناصر الأساسية للمفاوضات بين إسرائيل ومصر، وتم تضمينه في اتفاقية الإطار بكامب ديفيد، جنبًا إلى جنب مع ترتيبات الأمن، وإنهاء المقاطعة، وفتح الأسواق المصرية أمام المنتجات الإسرائيلية. ثم جرى تأكيده، وتحديد خطوات المفاوضات بشأنه في معاهدة السلام وملحقاتها. ومن هنا، يتبين دور التطبيع الثقافي كدعامة رئيسية لبناء السلام في المنطقة، من وجهة النظر الإسرائيلية، فهو لديهم أكثر إقناعًا، وأكثر استقرارًا من أى ترتيبات أمنية عابرة، وهو العامل الحاسم على المدى البعيد، من وجهة نظرهم. فالصراع يوجد في وعى الشعوب قبل أن ينتقل إلى أرض الواقع، والمطلوب من جانب الصهاينة ببساطة نزع العداء من العقل العربي استكمالًا لمحاولة نزع السلاح من اليد العربية، وهى المهمة التي يتكفل بها التطبيع السياسي والأمني.
ومن وجهة نظر القائم بالتطبيع الإسرائيلي، فإن كل "عقدة" ولها حلها لدى الإسرائيليين. فإذا كانت مناهج التربية والتعليم السابقة تحض على الكراهية، فإنه يمكن تغييرها لتشيع قيم السلام. وإذا أعاقت الحقائق التاريخية تصفية الأحقاد، فإنه يمكن تجاهلها، والتركيز على الجوانب الإيجابية، حتى إن موقف الإسلام من اليهود أيضًا كان له حل لديهم. فإذا كانت المفاهيم السلبية تسود الدين الإسلامي، فإنه يمكن إزالتها. وقد تم توقيع الاتفاقية بين البلدين في القاهرة في مايو1980، وصدقت عليها الحكومة الإسرائيلية في أول يونيو 1980، وتقع في ثماني مواد تتضمن:
- تشجيع التعاون في المجالات الثقافية، والعلمية، والفنية، وتشجيع الاتصالات، وتبادل زيارات الخبراء في المجالات الثقافية، والفنية، والتكنيكية، والعلمية، والطبية.
- يسعى الطرفان إلى فهم أفضل لحضارة وثقافة كل طرف، من خلال تبادل المطبوعات الثقافية، والتعليمية، والعلمية، وتبادل المنتجات التكنيكية والأثرية، وتبادل الأعمال الفنية، وتشجيع إقامة الأعمال الفنية، وتشجيع إقامة المعارض العلمية والتكنولوجية، ومعارض الفنون البصرية.
- تبادل برامج الإذاعة والتليفزيون، والتسجيلات، والأفلام الثقافية والعلمية.
- تسهيل زيارات العلماء والدارسين والباحثين إلى المتاحف والمكتبات، والمؤسسات التعليمية، والعلمية، والثقافية، والتكنيكية.
- الإنفاق على عمل بروتوكول خاص بتناول المتطلبات الضرورية لمعادلة الشهادات والدرجات التي تمنحها المؤسسات التعليمية لدى الطرفين.
- تشجيع الأنشطة الرياضية بين الشباب والمؤسسات الرياضية لدى الطرفين.
- يعين الطرفان – لغرض تنفيذ الاتفاقية- ممثلين لتبنى برامج تنفيذية دورية، على أن تتم الاجتماعات بالتناوب لدى الطرفين.
مسارات التطبيع بعد الثورات المصرية:
أوضح المؤلف أن ثورة 25 يناير 2011 كانت، رغم قفز بعض الحركات الإسلامية والانتهازيين عليها، ومحاولة سرقتها، ثورة شعب ضد نظام حكم فاسد، وتابع، رهن بلاده لعلاقات تبعية مع واشنطن وتل أبيب، عبر اتفاقات وسياسات أفقدته الاستقلال الوطني والإرادة الحرة، كما مثلت نقطة تحول استراتيجية في مسار العلاقات المصرية– الإسرائيلية، بعد سقوط "مبارك"، الكنز الاستراتيجي للدولة العبرية، والضمانة الرئيسية لاستمرارية التطبيع في كافة مجالاته. إلا أن الحقائق التالية لسقوط مبارك تؤكد أن التخلص النهائي من العلاقات المكبلة التي خلفتها كامب ديفيد، ومعاهدة السلام لم يكن سهلاً ، لكن الواقع أثبت تعرض العلاقات بين القاهرة وتل أبيب إلى هزة عميقة، لم يغن معها محاولات التهدئة التي مارسها المجلس العسكري بقيادة المشير طنطاوي، أو محاولات التقرب أثناء فترة الحكم الإخوان، من خلال رسالة محمد مرسي الشهيرة إلى شيمون بيريز، ونعته بـالصديق.
ورأى أن التطبيع تأثر بلا شك، لكنه لم ينته، وكامب ديفيد وقيودها لا تزال حاضرة خاصة في (سيناء) التي تحاول احتلالها الآن تنظيمات القاعدة، والقوى المتشددة والمخترقة إسرائيلياً، وإن كنا نرجح بقاء الأوضاع على ما هي عليه لفترة لن تقل عن ثلاثة أعوام، في كافة جوانب التطبيع ، ليصبح تطبيعاً قائماً، ولكنه ليس تطبيعاً دافئاً وقوياً، كما كان في الأعوام الاثنين والثلاثين الماضية. وسيكون للأوضاع الأمنية القلقة في سيناء، وظهور متغير تنظيم القاعدة وداعش، وإخوانهم القادمين من شرق ليبيا، وفى جبل الحلال في سيناء، فضلًا عن الأوضاع القبلية والعرقية المتفجرة فى أسوان والنوبة، تأثير مهم فى مسارات التطبيع والعلاقات مع تل أبيب. إلا أن العدوانية الإسرائيلية المستمرة على كافة الجبهات العربية، بما فيها جبهة مصر، وإن كانت بوسائل تجسس ناعمة، قد تدفع مصر– الشعبية إلى إنهاء معاهدة السلام وقيودها، أو على الأقل إعادة تغيير وتفكيك تلك القيود بما يكفل استقلالاً أكثر للإرادة والقرار المصري. فالمستقبل بتطوراته المتلاحقة في مصر مفتوح على كل الاحتمالات، ولكنه حتماً لن يعود إلى الوراء ثانية.
ومن جانبه، أكد الدكتور جمال شقرة، في ختام أعمال الندوة، أن الموسوعة تعد بمنزلة "طلقة مقاومة" في مواجهة أعمال الخيانة التي مورست باسم العلاقات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية مع العدو الصهيوني، وأن مثل تلك الأعمال العلمية تعد حدثاً تاريخياً ينبغي على النخبة المثقفة الاحتفاء بها، والمطالبة بإعادة نشرها على نطاق أوسع، وسط حالات الانشغال بالقضايا الداخلية، أو بالصراعات المذهبية والسياسية، ناسين الصراع الرئيسي في المنطقة، وهو الصراع العربي – الصهيوني.
كما طالب الحاضرون بضرورة بناء استراتيجية علمية جامعية لمقاومة التطبيع، وإلغاء اتفاقية كامب ديفيد لما سببته من أضرار اقتصادية، وسياسية، واستراتيجية منذ 1979 وحتى يومنا هذا، مؤكدين أن من استفاد منها فقط بعض رجال الأعمال من أصحاب اتفاقات النفط، والغاز، والكويز، والمبيدات المسرطنة، وبعض الصحفيين، والمثقفين من أنصار المركز الأكاديمي الإسرائيلي، وتحالف كوبنهاجن، وجمعية القاهرة للسلام، وبعض الوزراء من أمثال يوسف والى، وزير الزراعة الأسبق، الذي دمر الزراعة لمصلحة الزراعة الإسرائيلية، وغيره من أركان النظام السابق. أما باقي الشعب المصري، فلم يستفد من (التطبيع)، وما ارتبط به من معونات أمريكية.