عرض باسم راشد، باحث في العلوم السياسية
يُمثِّل الصراع الدائر في سوريا منذ ثلاث سنوات تحديًا للولايات المتحدة، لأنها في الوقت الذي هي مُطالبةُّ فيه بلعب دور أكثر فعالية من أجل إنهاء هذا الصراع، فإن العديد من المعارضين الأمريكيين، لاسيما داخل مجلسي الكونجرس، يرفضون تدخلها، خاصة بعد تجاربها المؤلمة في أفغانستان والعراق. ويستند المعارضون في حججهم إلى أن الولايات المتحدة ليست لديها مصالح مباشرة في سوريا؛ فهي ليست مُنتجًا للنفط، ولا شريكا تجاريا رئيسيا للولايات المتحدة، ولا حتى تعد دولة ديمقراطية، بما يجب على الإدارة الأمريكية التدخل العسكري لإسقاط نظام بشار الأسد.
يشير كينيث بولاك، الخبير في الشئون السياسية العسكرية لمنطقة الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز، إلى أن الصراعات الطائفية لا تنتهِى إلا بإحدى طريقتين؛ أولاهما بانتصار أحد الأطراف، وما يتبعهُ ذلك من مذابح مروِّعة لخصومه، أو من خلال تدخل هائل من قوة ثالثة لوقف الصراع، وتشكيل توازن قوى جديد على أرض الواقع. ثانيتها وأخيرا: إنهاء تلك الصراعات من خلال تسوية سلمية. وحتى لو حدث ذلك، فإنه يتم بعد سنوات من إراقة الدماء. كل ذلك يؤكد أن الحل الدبلوماسي السريع، والذي يفضِّله الأمريكان للأزمة السورية، شبه مستحيل، مما يدفع إلى ضرورة التفكير في حل آخر أكثر عملية.
وفي هذا السياق، يعرض بولاك في مقالة بمجلة الشئون الخارجية (Foreign Affairs) في عددها عن شهري سبتمبر وأكتوبر 2014، والمعنونة بـ "جيش لهزيمة الأسد An Army to Defeat Assad"، خيارا أمريكيا للتخلص من النظام السوري السلطوي، والقوى المتطرفة والإرهابية التي بدأت تنشط في سوريا في وقت ترفض فيه أوساط أمريكية، وفي مقدمتها الإدارة الأمريكية، التدخل العسكري في سوريا، على غرار الحالة الليبية.
حل بديل.. تكوين جيش سوري قوى
يقترح بولاك، من خلال دراسته لحالات الدعم العسكري الأمريكي، أن تقوم الولايات المتحدة بتكوين جيش سوري بالهيكل والعقيدة التقليديين، يكون قادرًا على هزيمة كل من النظام والمتطرفين السوريين. وسيجبر الانتصار الحاسم لهذا الجيش المدعوم من للولايات المتحدة جميع الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، كما سيعطي الولايات المتحدة النفوذ الكافي للعب دور الوسيط في ترتيبات مشاركة القوة بين الفصائل المتناحرة. ويؤكد الكاتب أن المحصلة النهائية لهذه الاستراتيجية هى توفير ظروف مناسبة لظهور دولة سورية جديدة، سلمية، تعددية، وسلطة قادرة على حكم الدولة كلها.
ولتحقيق ذلك، يشير بولاك إلى أنه لا بد من أن تُلزم الإدارة الأمريكية نفسها ببناء جيش سوري جديد يكون قادرًا، ليس فقط، على إنهاء الحرب، بل أيضًا على ترسيخ دعائم الاستقرار بعد انتهاء الحرب، فضلا عن ضرورة أن تدعم الولايات المتحدة ذلك الأمر بالموارد والمصداقية الكافيتين. وإذا أيقن المجتمع الدولي أن الولايات المتحدة تسعى لتطبيق تلك الاستراتيجية، فإن الدول التي ستدعمها ستكون أكثر بكثير من الرافضين. ويرتبط نجاح الاستراتيجية بتمويل أكثر لتدريب وإعداد الجنود الجدد، بالإضافة إلى المستشارين الذين سيتولون مسئولية تعليم وإعداد تلك القوة الجديدة لعمليات القتال.
وعن تشكيل الجيش الذي سيحارب الأسد والمتطرفين السوريين، يشير بولاك إلى تجنيد أفراد الجيش السوري ممن لديهم الرغبة في القتال مع الجيش الجديد من السوريين - بصرف النظر عن الانتماء الجغرافي، الديني والعرقي - فضلا عن أنهم لا بد من أن يندمجوا في إطار الهيكل التقليدي للجيش الجديد، ويتبنوا عقيدته وقواعده، بالإضافة إلى أنهم يجب أن يتركوا الميليشيات التابعين لها، قبل الانضمام إلى وحدات الجيش الجديد، وأن يكون الولاء للجيش الجديد، ولرؤية دولة سورية ديمقراطية بعد انتهاء الحرب.
يرى بولاك في مقاله أن النقطة الأهم في تلك الاستراتيجية هي ضرورة تركيز الإدارة الأمريكية على ضرورة استمرار التدريب على المدى البعيد، فيجب ألا يقتصر التدريب على مجرد أسابيع يتدرب فيها أفراد الجيش الجديد على حمل السلاح والتكتيكات البسيطة، كما تدعم الإدارة المعارضة السورية الآن، بل يجب أن يستمر على الأقل لمدة عام؛ يبدأ بالتدريب على المبادئ الأساسية للقتال، ثم يتطور إلى الخدمات اللوجيستية، والدعم الطبي، والمهارات العسكرية المتخصصة.
ويشير إلى أن هذا التدريب يحتاج لبيئة خالية من عوامل التشتت، ولذا يقترح بولاك أن يتم في خارج سوريا، ويطرح أن يتم هذا التدريب في الأردن أو تركيا، لكون الدولتين تؤيدان الدعم الأمريكي لسوريا، لكنهما من المحتمل - حسبما أشار بولاك - أن تطلبا تعويضًا لاستضافتهما هذه المعسكرات الجديدة الضخمة. وفي هذا السياق، يشير إلى أن الأردن- على سبيل المثال- يتلقى من الولايات المتحدة معونة سنوية تقدر بـ660 مليون دولار. وفي فبراير من العام الجاري، تعهدت الإدارة الأمريكية بضمان قرض بقيمة مليار دولار للأردن لمساعدته في تحمل عبء اللاجئين. لذا، فإنه من الممكن أن تعرض واشنطن مساعدات أخرى من تلك النوعية مقابل تعاون الأردن مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للقضاء على الأسد.
الطريق إلى دمشق
يؤكد بولاك أن الجيش السوري الجديد سيتحرك داخل سوريا، ويسيطر على الأراضي السورية، إذا كان قويًا بصورة كافية، قائلا: ليس من الحكمة إرسال جيش جديد في بقاع الصراع السورية، وهو لا يحتوي، على الأقل، على 2 أو 3 ألوية؛ كل منها مكون من ألف إلى ألفي جندي، فضلا عن أنه يجب عدم إرسال تلك القوات إلا بعد أن تكون قد أتقنت المهارات القتالية المطلوبة لدحر قوات الأسد، وكذلك الميليشيات المنافسة. ويضيف: بعد أن يسيطر الجيش السوري الجديد على الأراضي السورية، فإنه يجب أن يعمل على تجنيد المزيد من السوريين بشكل مستمر من أجل تحقيق الغاية النهائية من تأسيسه، وهي تأمين الدولة كلها من خلال إزاحة كافة الفواعل السورية والإقليمية التي تناوئه.
وليتمكن الجنود السوريون من كسب أراضٍ سورية جديدة، فإن على قادة الجيش الجديد استعادة القانون والنظام بكل ما يتطلبه هذا الأمر. وفي حالة استطاع الجيش السيطرة على الأراضي السورية، لا بد من أن تبدأ المعارضة في تشكيل حكومة مؤقتة لإدارة الأوضاع، على أن يصبح هذا الجيش هو الجيش الرسمي الشرعي لسوريا. ويؤكد بولاك أن المعضلة الدائمة التي تواجه أية دولة عانت حربا أهلية هي كيفية ضمان الاستقرار وعدم الانقلاب على السلطة. لذا، يشير إلى أن هذا الجيش الجديد لا بد من أن يكون قويًا ومستقلا وغير مسيس، مؤكدًا أن أفضل طريقة لضمان ذلك هى غرس تلك المبادئ في عقول أفراد الجيش منذ البداية، تجنبًا لتكرار الأخطاء ذاتها التي وقعت فيها الولايات المتحدة أثناء حربها في العراق.
ويستطرد: إذا أرادت الولايات المتحدة بالفعل أن ترى دولة سورية جديدة ومتطورة ومستقرة، فيجب أن تحافظ على دعمها ورعايتها للجيش السوري الجديد لعدة سنوات.
الاستراتيجية الجديدة.. حسابات الوقت والتكلفة
يشير بولاك في مقالته إلى أن تطبيق تلك الاستراتيجية (تشكيل جيش سوري جديد)، بعد قراءة التجارب السابقة في البوسنة، وأفغانستان، والعراق، وليبيا، قد يحتاج من سنة إلى سنتين لإعداد اللواءات الأولى المطلوبة. وبعد دخول الجيش السوري الجديد سوريا، فإن تعزيزه بأفراد جدد وتدريبهم قد يحتاجان من سنة إلى ثلاث سنوات أخرى لهزيمة قوات الأسد، والقضاء على الميليشيات الأخرى المنافسة.
ومع انتهاء الحرب، وإقرار السلام، سيبدأ الجيش في إعادة تنظيم ذاته، طبقًا لمعطيات الدولة الجديدة واحتياجاتها على المدى الطويل، بما فيها القضاء على العناصر الإرهابية المتبقية، وقد يتطلب هذا الأمر سنوات طويلة، لكنها لن تكون أكثر مما احتاجت إليه لهزيمة نظام الأسد، خصوصًا مع استمرار دعم الولايات المتحدة للمؤسسات السورية الجديدة، وإسهامها في إعادة بنائها السياسي والاقتصادي.
أما فيما يتعلق بحسابات التكلفة، فيتوقع الكاتب أن يتطلب تكوين جيش جديد من مليار إلى مليارى دولار في السنة، وستحتاج الولايات المتحدة إلى أن تضخ من 6 إلى 20 مليار دولار في السنة من أجل الدعم الجوي الذي سيضمن تفوق الجيش الجديد في ساحة المعركة، وربما من 1.5 إلى 3 مليارات دولار في السنة من أجل المساعدات المدنية. بعبارة أخرى، ستحتاج هذه الاستراتيجية إلى 3 مليارات دولار سنويًا لمدة سنتين أو ثلاث على أقل تقدير، على عكس ما تطلبه الأمر في التجارب السابقة، حيث كلَّفت حرب أفغانستان الولايات المتحدة 45 مليار دولار سنويًا من 2001 حتى 2013، والعراق نحو 100 مليار دولار سنويًا من 2003 حتى 2011.
يشير بولاك إلى أن الميزانية المتوقعة ستنخفض في حال تمكنت الولايات المتحدة من الحصول على دعم مالي من حلفائها في أوروبا والشرق الأوسط، خاصة من دول الخليج العربي التي أصرَّت لسنوات على تمويل أي جهود تسعى لإنهاء الأوضاع المضطربة في سوريا، وهى بالفعل، طبقًا للكاتب، أنفقت مليارات الدولارات لتمويل الميليشيات السورية المتنوعة.
في نهاية مقاله، يؤكد بولاك أن تلك الاستراتيجية ستخدم مصالح الولايات المتحدة، ليس فقط في سوريا، بل في العراق أيضًا. فبرغم أنه من المفترض أن يكون الجيش الجديد محايدًا، فإنه بطبيعة الحال سيسيطر عليه السُنة، حيث إن انتصاراتهم على كل من نظام الأسد ، والقوات الإسلامية في سوريا ستجعل منهم نموذجًا يُحتذي به للقبائل العراقية السنية المعتدلة، وستكون تلك القبائل هي المفتاح لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" الذي سيطر على مناطق شاسعة من الأراضي العراقية. إذ إن دعم الولايات المتحدة لفروع العشائر العراقية في سوريا من ناحية، والتزامها ببناء دولة تعددية شاملة في سوريا، والتي تتمناها أيضًا القبائل السنية في العراق، من ناحية أخرى، سيساعدان على تحويل جميع السُنة، على طول الإقليم، لأن تكون ضد تنظيم "داعش" وأمثاله، بدلا من تأييده، والاستجابة لسلوكياته.