نجحت الدول العربية في المنطقة في تجاوز مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كان يفترض أن يقوم عبر نشر الفوضى الخلاقة فيها.. فبعد أن صمدت مصر- الدولة العربية الكبرى في المنطقة- أمام ما كان يسمى بالربيع العربي، توقف انتشار الفوضى الخلاقة التي لم تتجاوز عدة دول عربية.
وبعد فشل نشر الفوضى الناعمة التي كانت أداتها جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها «الإخوان» التي كانت تقدم نفسها على أنها جماعات وسطية تقبل الديمقراطية وتحاور الجميع.. جاء البديل سريعاً في صورة «الفوضى الفتاكة» فهي الوجه الآخر -الحقيقي- لهذه الجماعات وهي الوجه المتطرف منها الذي تحاول أن تخفيه تلك الجماعات، فظهرت «داعش» وأخواتها من تنظيمات لبست عباءة الإسلام وتكلمت باسمه.. إلى جانب الفوضى التي تسببها إيران بتدخلاتها المتزايدة في الدول العربية وآخرها ما تحدثه من فوضى في اليمن مع حلفائها الحوثيين.
بكل وضوح نستطيع أن نقول إننا نعيش اليوم حالة من الفوضى الفتاكة في المنطقة.. فوضى تأكل الأخضر واليابس، تضرب الناس بعضهم ببعض، فوضى تقطع أوصال المنطقة وتقطع رؤوس البشر وتنشر النار في كل مكان، في سابقة لم تشهدها منطقتنا في تاريخها الحديث.
استنفار العالم ضد «داعش» جاء متأخراً جداً، ويبدو أن الفوضى الفتاكة التي أرادها البعض للمنطقة قد تحققت بعد أن سيطر تنظيم «داعش» على مدن بأكملها في سوريا والعراق وأصبح يدير تلك المدن بشرائعه وقوانينه التي يدعي أنها إسلامية وأنها على منهاج الخلافة الراشدة.. وبعد أن أصبحت لديه موارده المالية من نفط المنطقة، والأغرب أنه وجد من يشتري ذلك النفط منه!
إذا كان الغرب يعتبر دول المنطقة حلفاء له وشركاء فلابد أن لا ينحصر هذا الاعتبار في وقت تنفيذ القرارات، فدول المنطقة أعلم بالأخطار التي تحدق بها، وهي أقدر على أن تتخذ القرارات في الأوقات الصحيحة، وهذا ما يجب أن يعترف به الغرب إن كان جاداً في حلفه مع دول المنطقة، وإن كان حريصاً على مصلحة المنطقة، وحالة «داعش» مثال حي وواضح على ذلك، فالتحذير من خطر «داعش» كان مبكراً ولم يتوقف من دول المنطقة، إلا أن الغرب تجاهل كل ذلك التحذير ولم يتحرك إلا بعد أن «وقع الفاس في الراس».
لقد أساء الداعشيون ومن دعمهم إساءات بالغة للإسلام والمسلمين؛ أولاً باستخدامهم راية الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم كشعار وعلامة لهم، وأساءوا للإسلام وهم يلوون عنق الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ليبرروا عنفهم وجرائمهم.. وفي المقابل ما اقترفه الآخرون من وسائل إعلام وحكومات غربية في حق الإسلام لم يكن أقل سوءاً عندما اعتمدوا تسمية هذا التنظيم الإرهابي بـ«الدولة الإسلامية»، وكأن تلك المجموعة الإرهابية بسلوكها وتصرفاتها وقوانينها هي «الدولة الإسلامية»! وكل من يعرف الإسلام الحق يعرف تماماً إنه بريء من أفعال أتباع هذا التنظيم لذا، فالأجدر بالزعماء والساسة الغربيين أن يتوقفوا عن استخدام هذه التسمية عند حديثهم عن ذلك التنظيم، فدولة الإسلام لا تقيمها مجموعة متطرفة من الخوارج ممن لا يعرفون إلا القتل والذبح والترويع والترهيب.
عندما حان وقت مواجهة «داعش» وتجمعت الدول التي أصبح عددها اليوم 62 دولة في تحالف ضد هذا التنظيم، كانت الإمارات من أوائل الدول التي شاركت فيه، فمن منطلق قومي وإسلامي وأمني لم يعد ممكناً الوقوف أمام ما تقوم به الجماعات الإرهابية دون أي تحرك.. لذا أصبح واضحاً للجميع، مرة أخرى، جدية الإمارات في مواجهة الأخطار التي تواجه المنطقة ولم يعد مقبولاً الوقوف في المنطقة الرمادية في وقت أصبح فيه الخطر واضحاً ويزداد انتشاراً ويقترب من الجميع.
الشارع الإماراتي منذ اللحظة الأولى بدا مؤيداً لمشاركة الطائرات الإماراتية في هذه الحرب ضد الإرهاب والإماراتيون لا يرون «داعش» مجرد مجموعة إرهابية تعمل داخل مناطق محددة، بل يرون أنها أصبحت تشكل خطراً حقيقاً، فهي تتمدد جغرافياً وتسعى للوصول إلى مناطق جديدة، كما تتوسع معنوياً بتجنيدها أتباعاً جدداً خارج مناطق عملياتها؛ فتغرر بالشباب لجذبهم إلى مناطقها بادعاء الجهاد والحرب المقدسة! لذا فالجميع يتفق أن الحرب على الإرهاب لم تعد خياراً، بل أصبحت ضرورة لحماية المنطقة وأبنائها من مستقبل عنيف.
وفي المقابل فإن الجميع يدرك أن الحرب ضد «داعش» لا تنهيها الطائرات الحربية ولا الضربات الجوية، فهذه الحرب بالدرجة الأولى هي حرب داخل العقول التي تحرك أولئك الذين نزعت الرحمة من قلوبهم.. وهذه حرب طويلة وتحتاج إلى تكاتف الجميع. والحرب على الإرهاب تحتاج إلى رؤية واضحة وإلى شجاعة استراتيجية، فمثل هذه الحروب تستغرق وقتاً وتواجه عدواً غير واضح المعالم، و«داعش» نوع آخر من الإرهاب العميق في عنفه والسطحي في تعاطيه مع أعدائه.
المسؤولية الأخلاقية للعالم أصبحت تحتم تحركاً فعلياً، وهذا التحرك وإن بدأ عسكرياً فلابد أن يوازيه عمل فكري ثقافي على أرض الواقع في كل الدول العربية وفي الدول الغربية التي تعيش فيها جاليات مسلمة. فالخطاب الديني أصبح مشوشاً ومليئاً بالمغالطات التي تحتاج إلى تنقيح واستمرارها يعني بقاء فكر «داعش» و«الإخوان» وغيرهما من الجماعات التي تستغل الدين لأغراض لا علاقة لها بالدين! وما يقوم به الداعشيون من حروب عسكرية وإرهاب ميداني أساسه أفكار إرهابية وفهم مغلوط لنصوص دينية نجح أصحاب الفكر الأيديولوجي الديني من خلالها في ليّ عنق تلك النصوص بحيث تخدم أفكارهم وأيديولوجياتهم العنيفة.
وأخيراً.. الرائد طيار مقاتل مريم المنصوري التي شاركت في الحرب على «داعش»، هي فخر ليس للإماراتيات، بل لكل مواطن إماراتي وعربي، فقد لبّت نداء الواجب الوطني والإنساني والأخلاقي عندما شاركت في هذه الحرب للقضاء على خوارج العصر الملوثة أيديهم بدماء الأبرياء، وعلى الغارقين في بحر من العار والجريمة والجهل.
---------------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإمارتية، الأحد، 29/9/2014.