يلعب مجلس الأمن الدولي منذ تأسيسه دور الحكومة العالمية، والمراقب العام لنشاطات الحكومات والدول، وكثيراً ما يسهم هذا المجلس في تنفيذ سياسات الدول النافذة فيه التي تملك حق النقض "الفيتو"، بغض النظر عن مصالح الأمم والشعوب الأخرى . وقد كانت فكرة إنشاء المجلس، منذ البداية، بهدف خدمة مصالح الدول المتحالفة التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، فالحرب كعمل بشع تديره هيئات تسعى إلى تحقيق غاية متعددة الأشكال قد يكون وجهها الأساسي تدمير الإرث الديمغرافي، وإحداث الدمار، أي تدمير الإنسان . فقد فقدت البشرية الملايين في حربين عالميتين، في نصف قرن، وأصيب وشُرد الملايين، وتغيرت معالم الأرض، واتسعت مساحة دول، وتقلصت مساحة أخرى، وظهرت قوى سياسية على مسرح الأحداث العالمية، واختفت أخرى . وحاولت الدول المنتصرة، والزعامات الجديدة فرض إرادتها على المنهزمين فسعت كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة أن تجعل نصرها على (ألمانيا، النمسا) ثابتاً لا يمكن تغييره أو تعديله، فبادرت إلى إنشاء ما سمي آنذاك "عصبة الأمم" وأقامت بالتوازي معها "مجلس الأمن"، ووضعت نفسها في هذا المجلس، كما وضعت فيه اليابان وإيطاليا لأن هاتين الدولتين كانتا تقفان إلى جانب الحلفاء في تلك الحرب . وبالفعل فقد قادت عصبة الأمم السياسة الدولية، وساهمت بشكل كبير في تطبيق اتفاقيات الدول المنتصرة مع الدول المهزومة .
لكن الجشع واختلاف المصالح دفعا مجلس الأمن إلى التشظي، فقد بدأت اليابان بتنفيذ سياسة متعارضة مع سياسة الحلفاء الغربيين، حيث بدأت باستعمار الصين عام ،1930 كما فرضت سيطرتها العسكرية على معظم الشرق الأقصى، وشبه جزيرة الهند الصينية، وبدأت تسعى لاستعمار أمريكا اللاتينية . أما إيطاليا التي كانت موعودة بالعطاء الجزيل لموقفها إلى جانب الحلفاء في الحرب، فإنها لم تحصل إلا على الفتات، الأمر الذي دفع الزعيم الإيطالي موسوليني أن ينقلب على حلفاء الأمس، وراح يشق لنفسه طريقاً مختلفاً، وتقارب في مواقفه مع ألمانيا واليابان، وفي عام 1936 قام باحتلال الحبشة، كما احتل ألبانيا، وراح يسعى نحو المزيد . وإزاء هذا الواقع، فقد أصبح مجلس الأمن كائناً سياسياً لا حياة فيه .
وجاءت الحرب العالمية الثانية لتكسر ذلك الجليد المتراكم في السياسات الدولية، ولتؤسس لعالم جديد مختلف . فقد انهزمت اليابان وإيطاليا وتحطمت ألمانيا . وجددت دول التحالف الغربي عصبة الأمم تحت مسمى "الأمم المتحدة"، وجددت مجلس الأمن بأن أخرجت الدول المهزومة (إيطاليا واليابان) منه، وتم إدخال الاتحاد السوفييتي السابق الذي ظهر كقوة عالمية عظمى آنذاك، كما تم إدخال الصين مراعاة للتوازن الإقليمي آنذاك، لأن المخططين الاستراتيجيين في الغرب كانوا يريدون ممثلاً عن الشرق الأقصى في المجلس . وقد وجد الاتحاد السوفييتي نفسه أمام ثلاث دول متحالفة مع بعضها تسعى إلى تمرير سياساتها، والحفاظ على مصالحها في العالم، فطالب بإقرار "حق النقض" للدول الخمس الأعضاء، من أجل إفساح المجال أمامها للاعتراض على القرارات التي تتعارض مع مصالحها .
وقد استخدم الاتحاد السوفييتي "الفيتو" عشرات المرات لنقض قرارات دولية في غير صالحه، كما استخدمت الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة، "الفيتو" عشرات المرات أيضاً لنقض قرارات دولية كانت في معظمها مخصصة لإدانة جرائم "إسرائيل" بحق الشعب الفلسطيني .
لكن مع تغير العالم وظهور قوى عالمية جديدة ممثلة في ألمانيا، واليابان، الهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا . فقد بدأ الحديث عن ضرورة إصلاح مجلس الأمن، وطالبت الدول المذكورة بإدخالها في هذا المجلس، وإعطائها مقاعد دائمة فيه، لكن الدول الغربية المهيمنة رفضت الإصغاء إلى هذه المطالب، لا بل تقدمت إحداها وهي فرنسا بفكرة جديدة لإصلاح المجلس، حيث اقترح الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في سبتمبر/أيلول 2013 مدونة سلوك، ترمي إلى تخلي الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس (الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والصين وبريطانيا) عن استخدام حق النقض، عندما يكون على مجلس الأمن الدولي اتخاذ قرار بشأن جرائم جماعية . واقترح الرئيس الفرنسي تنظيم اجتماعات وزارية لمناقشة موضوع حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي . ولكن حتى انعقاد هذه الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الأسبوع الماضي لم يناقش الاقتراح الفرنسي، ولم يعقد الاجتماع الوزاري، بل أغلق بالتاريخ لأن هذا الاقتراح وإن كان مغلفاً بثوب حقوق الدول السياسية والتنظيمية إلا أنه يرمي إلى كف أيدي روسيا والصين عن الحق في استخدام النقض لتغطية دولية تدين بعض الأنظمة المعادية للغرب، وأيضاً لا يخدم الفاعلين السياسيين الغربيين مهما كانت الأنظمة التي يعملون في حضنها، ولكن يقومون بتلوين الحدث نفسه بحسب ما تمليه مقتضيات الفعل السياسي ومتطلبات الحاجة وانتزاع الحدث من ملابساته وظروفه لجعله بداية متكررة وذكرى ما تفتأ تحيا وتموت، ويكفي أن نتذكر أكبر فرية في التاريخ لوزير خارجية أمريكا الأسبق كولن باول، ومن منبر الأمم المتحدة التي نقلت صورتها القنوات الفضائية، عندما قال إن العراق يمتلك أسلحة نووية لتأكيد الهدف والاختراق المنشود لمرحلة سطوة أمريكا على العراق بانطلاقتها السياسية والعسكرية للمرحلة المذكورة .
ويبدو أن مصير مجلس الأمن سيكون كمصير سابقه قبل الحرب العالمية الثانية، فظهور الصين كقوة عالمية عظمى وامتلاكها زمام المبادرة، فقد أصبحت اليوم تمثل ثقلاً سياسياً في المجلس، خاصة بعدما عقدت تحالفاً استراتيجياً مع روسيا لمواجهة دول التحالف الغربي، وتنمر روسيا وهجومها على جبهات عالمية مختلفة، كل ذلك سيؤدي إلى إفراغ المجلس من مضمونه، بسبب تعارض سياسات الدول الموجودة فيه . ولأن أفق المواجهة العسكرية العالمية مسدود بسبب وجود ترسانة من الأسلحة الفتاكة بأيدي الدول الكبرى، فإن الصراع السياسي سيبقى هو المتاح مع بعض المواجهات، والحروب الصغيرة في هذه الدولة أو تلك مثل المواجهة التي تحدث في سوريا، وربما سيستمر هذا الوضع حتى تغلب كفة أحد الخصمين على الآخر، خصوصاً في المجال الاقتصادي والديمغرافي .
فدول الغرب عموماً تعاني ارتفاعاً في مستويات الشيخوخة، كما تعاني أزمات اقتصادية خانقة، أما روسيا والصين وحلفاؤهما في تجمع "بريكس" ونعني بهم الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا فهذه الدول كلها تشهد ازدهاراً اقتصادياً ونمواً بشرياً، خصوصاً في الصين والهند . وفي الوقت الذي تتراجع فيه قوة الغربيين بفعل قانون الدوران التاريخي الذي لا يرحم، فإن قوة الدول المواجهة لهم هي في ازدياد وتعاظم . وهكذا، فإن العامل الاقتصادي والديمغرافي سوف يتغلب في النهاية، وسوف تتغير معادلات القوة الدولية لمصلحة الدول القوية اقتصادياً والمزدهرة بشرياً .
ولنا أن نتساءل، والحسرة تسيطر على قلوبنا، أين عالمنا العربي من موازين القِوى في العالم؟
---------------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 29/9/2014.