تشير التطورات التي شهدها العالم في الأشهر القليلة الماضية إلي تصاعد ظاهرة جديدة قديمة، تعلو وتخبو كل بضعة عقود، وهي ظاهرة "صناعة العدو"، أي الإسهام المباشر في إيجاد أعداء وخصوم بفضل السياسات والتوجهات التي تتبناها دولة أو أكثر. وبدلا من إنجاز تلك التحركات أهدافها، وتحقيق مصالح أصحابها، تكون النتيجة عكسية بظهور أعداء جدد، أو تعميق الفجوة مع خصوم حاليين. ثم تكتمل الصورة بالتعاطي الخاطئ مع ذلك الوضع الجديد بالاستمرار في السياسات، واتباع الأساليب ذاتها، فيزداد الموقف تعقيدا واستعصاء علي الحل، ويئول الوضع إلي دائرة مغلقة تبدأ بأخطاء تعالج بمثيلاتها فتفضي إلي أخطاء جديدة مشابهة، وهكذا.
والأمثلة كثيرة علي ذلك النمط من السياسات الخاطئة المتكررة، منها السياسات الأمريكية تجاه التوجهات القومية والاستقلالية في أمريكا الوسطي والجنوبية. فقد دعمت واشنطن سلسلة من الانقلابات ضد نظم الحكم الاشتراكية والقومية، بالتوازي مع دعم مباشر لأنظمة وحكام موالين لها. وفي كل مرة، كانت النتيجة انكشاف هذا الدور الأمريكي المناوئ لمصالح وتوجهات الشعوب المتطلعة إلي استقلال قرارها، وبالتالي تتعمق الفجوة، وتزداد الكراهية تجاه واشنطن، والإصرار علي الخروج من فلكها. والخطأ هنا أن غاية تطويع السياسات لا يمكن تحقيقها بالجبر والقوة، خاصة باستخدام التغيير الفوقي، عبر نظم حكم منفصلة عن شعوبها، ولا تجسد توجهات مواطنيها. وكان لتكرار هذا الخطأ دور محوري في طرح وتجدد التساؤل الشهير "لماذا يكرهوننا؟".
غير أن ثمة سببا جوهريا آخر وراء تلك الوضعية (الرفض إلي حد الكراهية)، هو المغالطة والتدليس في التعامل مع المشكلات والقضايا الدولية، خصوصا تلك التي تتعلق بحقوق وواجبات شعوب، أو دول، أو حتي أفراد. وهذا النمط من السياسات غير العادلة ليس نمطا أمريكيا، وإنما تشترك فيه دول غربية وغير غربية، حتي صار سمة ملازمة لطريقة تعامل ما يسمي "المجتمع الدولي" مع القضايا والمشكلات الإقليمية، خصوصا تلك المتعلقة بدول صغيرة أو محدودة التأثير في النظام العالمي.
والمثال الأوضح علي ذلك مسلسل المعالجات الدولية المنحازة للصراع العربي - الإسرائيلي طوال مراحله التي تقترب من قرن كامل، منذ وعد بلفور، الذي صدر ممن لا يملك لمن لا يستحق. فقد كانت سلسلة المواقف والتحركات الدولية تجاه اغتصاب إسرائيل الحقوق العربية مدعاة لتشكيل جبهة عداء عربي وإسلامي، ليس لإسرائيل وحدها، لكن للسياسات والأطراف الداعمة لها. صحيح أن تلك الجبهة تعرضت لتغيرات وتحولات كثيرة وعميقة، وتفككت معظم أوصالها، حتي يصعب حاليا عدّها "جبهة"، إلا أن الأثر السلبي الناجم عن الانحياز لإسرائيل لا يزال قائما، لم يمحه تفسخ العلاقة بين الدول العربية والإسلامية، بل واختلافها هي ذاتها حول كيفية التعاطي مع الاحتلال الإسرائيلي ومقتضياته. بل إن سلوك القوي الكبري تجاه التطورات المهمة، خصوصا الأزمات التي تنشب فجأة في سياق مجريات الصراع، يتكفل بإحياء تلك الروح العدائية، وتجدد الشعور لدي العرب والمسلمين بأن "العدو" الذي يكرس الاحتلال، ويفاقم انتهاكاته التي تصل إلي حد جرائم ضد الإنسانية، ليس دولة إسرائيل وحدها.
هذا بالطبع خلاف ما ترتكبه إسرائيل ذاتها من مذابح ومجازر، وممارسات لا آدمية بحق الفلسطينيين، وأحدثها عدوان "الجرف الصامد" الذي شنته تل أبيب علي قطاع غزة علي مدي خمسين يوما متواصلة، تم خلالها استهداف المدنيين بشكل متعمد، ليس فقط في المناطق السكنية، وإنما أيضا في المشافي، والمدارس، والمساجد، بل وداخل المنشآت التابعة للمنظمات الإغاثية والإنسانية، بما فيها تلك التابعة للأمم المتحدة، مثل قصف المدرسة التابعة للأونروا بمن فيها من مدنيين نازحين احتموا بها. هذه الممارسات تقدم نموذجا لعملية صناعة الأعداء، فعمليات القتل العمياء لآلاف المدنيين كفيلة بخلق جيش من "الأعداء"، قوامه آلاف من أصحاب الثأر لأهالي القتلي، وعشرات الآلاف من الجرحي والمتضررين، فضلا عن عشرات الآلاف من الأطفال الذين ستنبني عقيدتهم، وتتشكل عقلياتهم علي كره مطلق لإسرائيل، ومن أيدها.
علي الشاكلة نفسها، تأتي عملية صناعة "العدو" الإسلامي في الشرق الأوسط، بصفة خاصة، من جانب حكومات المنطقة والقوي الكبري علي السواء. فلو لم يكن القمع السوري ضد ثورة شعبية سلمية، وتقاعس الغرب والعالم كله عن دعم ومساعدة الشعب السوري، أو الضغط علي النظام بشكل فعال، لما تحولت سوريا إلي نقطة جذب واستقطاب للإسلاميين الجهاديين من كل أنحاء العالم. والغريب أن بعض تلك الجماعات تلقت دعما بالمال والسلاح من أطراف عربية وإقليمية تعدّها الآن "إرهابية". وتم ذلك تحت سمع وبصر دول أجنبية تغاضت بدورها عن توافد متشددين من مواطنيها للجهاد في سوريا. إنه ذاته التسلسل الذي جري مع أسامة بن لادن، وتنظيم القاعدة، يتكرر مرة أخري، وإن بأشكال مختلفة، عملية تخليق للوحش لتوظيفه في غرض معين. وبعد انتهاء مهمته (كما مع بن لادن)، أو إخفاقه فيها (كما مع النصرة وداعش)، يصبح هو ذاته هدفا مطلوبا القضاء عليه، وإنقاذ العالم من شره. وهو ذاته النمط التسلسلي لتعامل معظم نظم الحكم العربية مع معارضيهم، سواء كانوا إسلاميين أو غير ذلك. فالتعذيب والممارسات اللاإنسانية داخل المعتقلات كثيرا ما أفرزت رد فعل عكسيا بتشكل تنظيمات معارضة سرية تميل إلي التطرف ورفض أي حوار مع السلطة، تحت أي ذريعة، واتجه بعضها إلي حمل السلاح، بحسبان ذلك الطريق الوحيد المتاح لمواجهة سلطة غاشمة مستبدة في نظر اليساريين والليبراليين، أو "كافرة" في عقيدة بعض الإسلاميين.
ومن الأمور الجديرة بالنظر، في هذا السياق، أن كثيرا من الدول تميز في تصنيف "الأعداء" بين درجات متفاوتة، وفقا لمدي الخطر المرتبط بذلك العدو أو ذاك. مثال ذلك عدّ بعض الجماعات والقوي الإسلامية "معتدلة"، وأخري متطرفة أو متشددة، دون معيار واضح ودقيق للتمييز بين هذا التطرف أو ذلك الاعتدال، حتي يبدو الأمر، في كثير من الأحيان، أن المعيار هو مدي الملاءمة والتوافق مع مصالح وسياسات هذه الدولة أو تلك. والمثال الأبرز علي ذلك الموقف الغربي -تحديدا الأمريكي- من إيران. فطهران التي كانت، قبل سنوات قليلة، أحد أركان "محور الشر" هي ذاتها التي يتفاوض معها الغرب حاليا حول قدراتها النووية، ويجري بينها وبين واشنطن تنسيق ضمني لمواجهة داعش في العراق، رغم أن سياسات إيران لم تتغير، بل ازدادت حدة وانكشافا، بل ودخلت في صراع علني ومفتوح حول إبقاء أو إنهاء حكم نظام بشار الأسد.
ومن اللافت في هذه الظاهرة المتجددة أن اختلاق العدو، أو بالأحري استعداء الحليف السابق، تبدؤه دائما القوي العالمية لأهداف خاصة بها، وتنضم إليها قوي إقليمية تعاونها وتنسق معها، وتحاول في الوقت ذاته الاستفادة من تلك العملية، وتجييرها لمصلحتها داخليا بتعميم وتضخيم الخطر المحتمل المرتبط بذلك العدو، وتصويره كمصدر تهديد مباشر ومصيري علي أمن واستقرار دول المنطقة، وبالتالي تعبئة واستنفار الجهود الداخلية، وإسكات أي أصوات معارضة، أو مطالب إصلاحية، تذرعا بذلك الخطر الخارجي، ورفعا لشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". بل ذهبت بعض النظم العربية والإقليمية إلي مدي بعيد في ذلك، فراحت تحذر الدول الأجنبية والعالم من أن خطر "الإرهاب" سيرتد عليها، ما لم يتم تداركه واستئصاله مبكرا، كأن ذلك "العدو" قد نشأ، وتطور، واستقوي بمفرده دون رعاية، أو - علي الأقل - تغاضٍ عالمي. في حين أن البحث عن مصادر تمويل وتسليح وتدريب تلك الجماعات سيكشف أن وجود ذلك الخطر ليس شيطانيا، ولا محض تطور ذاتي تلقائي، وأن كثيرا من الدول التي تخشي ذلك الخطر، وتحشد الجهود ضده حاليا، كانت - وربما لا تزال - تغض الطرف عنه، إن لم تكن تدعمه بصورة أو بأخري.
إيجاد الأعداء، عن عمد أو بغير عمد، عملية معقدة لا يظهر منها سوي قمة جبل الجليد، بينما الخفي منها أعمق كثيرا من أن يري. غير أن تتبع حركة التاريخ، وقراءة الواقع، ربما يسهم، ولو في المستقبل، في تفسير وفهم "صناعة" العدو، وتفكيك أساطيرها.