على الرغم من كثرة التوقعات بالترحيب العالمي بزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للولايات المتحدة الأمريكية لحضور الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن هناك وجهات نظر ترجح استغلال الدوائر المعادية للنظام والدولة والمناصرة للإخوان لهذا الحدث في ترويج صورة ذهنية سلبية داخل الولايات المتحدة عن الأوضاع الداخلية في محاولة لصرف النظر عن الجوانب الإيجابية في الزيارة. ومن أمثلة ذلك التقرير الأخير الصادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" الأمريكية الذي يعد بداية هجوم استراتيجي على الدولة المصرية لما انطوى عليه من لغة تحريضية ضد النظام المصري القائم، ليؤسس بذلك لمرحلة ما بعد التقرير من فتح الباب لتشكيل محاكمات دولية، وتحويل الحدث إلى قضية رأي عام تنتهي إلى النقاش في مجلس الأمن، وإكسابه طابعًا دوليًا، مما أثار تساؤلات حول حقيقة الأهداف الكامنة وراء هذا التقرير، وتوقيت إصداره، ومدى تطويع المنظمة كأداة لخدمة أطراف سياسية بعينها، مما يشكك في مصداقية التقرير وموضوعيته.
في ظل هذا الجدل الحاد، عقد المركز العربي للبحوث والدراسات ندوة بعنوان "المعايير المزدوجة والتوظيف السياسي للمنظمات الحقوقية الدولية... قراءة نقدية في تقرير هيومان رايتس بشأن فض اعتصام رابعة" في محاولة لتقديم رؤية مغايرة في كيفية التعاطي مع هذا التقرير بموضوعية وشفافية بعيداً عن الآراء المتعصبة. ترأس الندوة نبيل عبد الفتاح، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بمشاركة الدكتور سعد الدين إبراهيم، مدير مركز ابن خلدون للدراسات، والدكتور يسرى العزباوى، نائب مدير المركز، ونبيل نعيم، مؤسس تنظيم الجهاد.
غياب الضبط المنهجي:
افتتح نبيل عبد الفتاح، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الندوة، معربا عن أسفه لحجم الضحايا الذين سقطوا في ميداني رابعة والنهضة، بحسبانهم مصريين في المقام الأول، موضحًا أن هذا لا يمنع من ضرورة التعامل بنوع من الجدية التامة مع تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش بخصوص فض اعتصامي رابعة والنهضة، بحسبانها إحدى آليات الضغط في إطار السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وشدد على أنه لا ينبغي التعامل مع مثل هذه التقارير بالمنطق الذي تعاملت به وسائل الإعلام المصرية، من خلال حسبانه مجرد بيان لا تأثير له، ولا معقب عليه.
وأشار د. نبيل إلى بعض الملاحظات في التقرير التى تجعله لا يرقى للحيادية والضبط المنهجي المطلوبين في مثل هذه النوعية من التقارير، ومن هذه الملاحظات ما يتعلق باللغة والصياغات التي اتسمت بالإفراط في المفردات العامة، والاتهامية، والعنيفة، مما يثير تساؤلًا حول مدى مهنية القائمين على إعداد هذا التقارير من حيث عملية جمع المعلومات والتدقيق فيها، كما يثير إشكالية الخلط بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي، فالأول لابد من أن يتمتع بالحيدة وحس القاضي والمحقق غير المتحيز، واتباع معايير منضبطة في التعامل مع حقل المعلومات الذي يستمد منه بيانات التقرير، وذلك على عكس الناشط السياسي الذي يدفعه في عمله تحيزه الفكري والأيديولوجي.
وأكد عبد الفتاح أن منظمات حقوق الإنسان في مصر اتخذت من ضحايا الحياة السياسية معبرًا لتحقيق مصالحها، واستخدمت منصاتها للتعبير السياسي والأيديولوجي عن هذه المصالح. وأوضح أن هناك الكثير من علامات الاستفهام حول قدرة ''هيومان رايتس ووتش'' على جمع المعلومات، وهو ما جعل التقرير متحيزًا، وبه قدر كبير من التعتيم، والتناقض. ففي الوقت الذي ركز فيه التقرير على عملية الفض، غاب تحليل الخطابات التحريضية لقيادات الإخوان على منصة رابعة.
وفي ختام كلمته، أوضح د. نبيل عبد الفتاح أن انتقاد ما جاء في التقرير لا يعني عدم الحزن عن الضحايا الذين سقطوا في ميداني رابعة والنهضة، ومن غُرّر بهم، يحسبان أن الدم الذي أُهدر هو دم مصري خالص أولًا وأخيرًا.
تسييس متعمد:
وفي السياق نفسه، أعرب الدكتور سعد الدين إبراهيم، مدير مركز ابن خلدون للدراسات، عن أسفه لسقوط ضحايا من المدنيين ورجال الشرطة في فض اعتصامي رابعة والنهضة، ومشاطرة ذويهم ما يشعرون به تجاه هذا الحادث الأليم، موضحًا أن هذا الأمر لا ينبغي أن يكون محل مبررات كلامية أو مزايدات. ولخص إبراهيم المشهد في عدد من النقاط كالتالي:
- إننا نكن للهيئات الحقوقية العالمية احترامًا شديدًا، ومن بينها المنظمة صاحبة التقرير مثار الجدل. وأوضح ضرورة عدم الانزلاق إلى مبارزات ومزايدات مع هذه المنظمة، مع ضرورة التنبيه على مراعاة ضوابط التحقيق في مثل هذه الوقائع – واقعة الفض – وكتابة التقارير حولها. وأكد أن هذه الضوابط لم يراعها تقرير "هيومان رايتس ووتش" الأخير. وبرهن على ذلك بعدم استشهاد التقرير بأي طرف من الأهالي القاطنين بمنطقتي الاعتصام، والذين أضيروا جراءه. كما لم يشر التقرير من قريب أو بعيد إلى الضرر الذي أصاب ثلث العاصمة المصرية بشلل تام لما يزيد على 40 يومًا، بالإضافة إلى الضغوط المعنوية التي مورست على الحكومة آنذاك لحماية حق الدولة في فرض هيبتها، وضمان السلامة المجتمعية. فالاعتصام والتظاهر حقوق تكفلها كل الدساتير، لكن لا ينبغي أن تكون ممارسة هذا الحق على حساب حقوق أخرى.
- تزامن مع أحداث رابعة والنهضة تقريبًا تظاهرتان كبيرتان، إحداهما في نيويورك احتجاجًا على تجاوزات سوق المال والأعمال، وقوبلت هذه التظاهرة بكل أنواع الحزم والقوة في فضها من جانب البوليس الأمريكي. والواقعة الأخرى تمثلت في تجاوزات بعض المعتصمين في العاصمة البريطانية، لندن، مما أدى إلى استخدام القوة المفرطة في فضهم. وقال رئيس الوزراء البريطاني إنه حينما يكون الأمر معلقًا بين سلامة المجتمع والدولة من ناحية، وحقوق الإنسان من ناحية أخرى، فعلى حقوق الإنسان أن ترجع للمقعد الخلفي، وهو ما لم تتطرق إليه أي منظمة حقوقية في العالم. لذا، فإن هاتين الحادثتين دليل على ازدواجية الغرب في التعامل مع الأحداث والقضايا، وفقًا لمصالحه الخاصة، ولعل التوظيف السياسي لما حدث في مصر خير دليل على ذلك.
- إنه في غضون أربعة أيام من فض الاعتصامين، عقد اجتماع للاتحاد الأوروبي لإصدار بيان بشأن الأوضاع في مصر، وأقر البيان أن الشرطة المصرية لم تستخدم القوة إلا بعد تجاوز الاعتصام 40 يوماً، وصدور أربعة إنذارات من الحكومة بالفض، وهو ما لم يذكره تقرير هيومان رايتس. وأوصى سعد الدين إبراهيم المنظمة بأن تكون جزءًا من الحل بدلًا من أن تكون جزءًا من المشكلة.
- ليس من المستبعد أن تكون المنظمة أداة سياسية في أيدي جماعة الإخوان، التي وصفها إبراهيم بالجماعة السياسية من الألف إلى الياء، وتعبد نفسها من دون الله، وتمتلك امتدادات في أكثر من 60 دولة، منها الولايات المتحدة، وكافة دول أوروبا، وكندا. وأوضح أن الجماعة لديها كتائب إلكترونية تنقل الحدث للعالم في أسرع وقت من خلال وسائل الإعلام الداعمة لها، بما يخدم مصالحها، في الوقت الذي يكون الرد فيه على مزاعمهم بالغ الصعوبة من حيث إقناع المتلقي، نظرًا للتأثير الكبير للرسائل المبكرة في الإقناع.
التأثير المحتمل للتقرير:
ومن جانب آخر، تحدث الدكتور يسري العزباوي، الباحث بالمركز العربي للأبحاث والدراسات، عن التوظيف السياسي للتقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية لخدمة أهداف محددة، مشيرًا إلى أن المنظمة لم تصدر تقريرًا تدين فيه الجرائم الإسرائيلية في حق أبناء غزة، وهو ما يدل على وجود إشكالية كبيرة بمنهجية المنظمة في التعامل مع الأحداث.
واستنكر العزباوي ضم التقرير لألفاظ توحي بأن الدولة تبنت خطة مسبقة لما وصفوه بجرائم القتل الجماعي ضد المتظاهرين، ولم تتم الاستعانة بالتقرير الصادر عن المجلس القومي لحقوق الإنسان إلا فيما يخدم نقاطا معينة أرادوا إبرازها. وتساءل: لماذا لم يشر التقرير إلى أعمال العنف التي مورست من قبل جماعة الإخوان في كافة المحافظات المصرية من حرق للكنائس، واعتداء على أقسام الشرطة، وغزو مدينة الإنتاج الإعلامي، تزامنًا مع أحداث فض الاعتصامين. وأكد أن كل ذلك يشير إلى الانتقائية والتوجيه اللذين تتعامل بهما المنظمة، مشيرا إلى أن التقرير تجاهل جهود الدولة مع قيادات الجماعة بفض الاعتصام بطرق سلمية، وهي ما باءت جمعيا بالفشل نتيجة لتعنت أعضاء الجماعة، ورغبتهم في مواجهة الدولة المصرية، مستخدمين في ذلك المواطنين البسطاء.
وأوضح العزباوي أن توقيت خروج التقرير جاء تزامنًا مع استعداد جماعة الإخوان لإحياء أول ذكرى لأحداث الفض، وهو ما عده بمنزلة توفير المنظمة غطاء سياسيا للجماعة، وهو ما يدل على استخدام المنظمة التقرير كأداة ضغط سياسي على الحكومة المصرية.
وأشار العزباوى إلى تجاهل التقرير عدم ملاءمة الموقع للاعتصام، لما يتضمنه من ثكنات شرطية، ومرافق حيوية للمواطنين تعطلت خلال فترة تجاوزت الشهر، بالإضافة إلى التضارب بشأن عدد الجثث الناتجة عن فض الاعتصام. فبينما ذكر بيان مصلحة الطب الشرعي في أغسطس 2013 أن عدد الجثث بلغ 624، فإن تقرير المنظمة ذكر أن عدد الضحايا 1150.
وفي كلمته، أكد نبيل نعيم، مؤسس تنظيم الجهاد، أن منظمة "هيومان رايتس ووتش" تتلقى تمويلها من المخابرات الأمريكية مباشرة، ولها مكتب معتمد في الخارجية الأمريكية، مشيرًا إلى أن أغلب منظمات حقوق الإنسان تعد أداة استعمارية جديدة للتدخل في شئون دول العالم الثالث، مسشتهدًا بما جاء في كتاب "العم سام" لناعوم تشومسكي بأن "منظمات حقوق الإنسان والديمقراطية كلمات خادعة نستخدمها للتدخل في شئون الدول وترويضها". وتساءل: لماذا تجاهلت هذه المنظمة ما حدث من مذابح إسرائيلية للشعب الفلسطيني على مر العصور، أو عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وحقوق السود المهدرة حتى الآن، ولا ما يحدث في وسط إفريقيا أو أمريكا الجنوبية وغيرهما؟. عادّا أن ذلك خير دليل على الانتقائية المتعمدة لهذه المنظمات.
وأشار نعيم إلى أن علاقة مصر بالولايات المتحدة لما يزيد على 30 عامًا أصابتها بالتخلف، والانهيار في جميع القطاعات، مؤكدًا أن الدولة لا ينبغي لها الالتفات إلى الوراء، إذا أرادت تحقيق نهضة حقيقية، وبناء دولة حديثة.
وفي نهاية الندوة، ألمح الدكتور جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان، إلى أنه عادة ما تكون هذه النوعية من التقارير بمنزلة بداية هجوم استراتيجي تؤسس لمرحلة ما بعد التقرير، مثل فتح الباب لتشكيل محاكمات دولية، وتحويل الحدث إلى قضية رأي عام تنتهي إلى المناقشة في مجلس الأمن، وهو ما يجب أن تواجهه الدولة، ومنظمات حقوق الإنسان، من خلال الإعداد لتقرير وطني ودولي مضاد لإيضاح حقيقة ملابسات الفض.