ليست محنة المسيحيين الراهنة في العراق إلا فصلا جديداً في مسلسل طويل مؤلم. لا يقتصر هذا المسلسل على العراق. فالعرب المسيحيون في مجملهم يعانون تمييزاً بدرجات متفاوتة منذ عقود. ويرتبط هذا التمييز بخلل في بنية عدد من الدول والمجتمعات العربية، على نحو يخلق بيئة منتجة للتطرف والتعصب.
ولا تقتصر المحنة على المسيحيين. فهذا هو حال الأقليات كلها في كثير من البلاد العربية. وما مأساة الإيزيديين الذين نصب لهم إرهابيو تنظيم «داعش» مصيدة موت فوق جبل سنجار مؤخراً إلا دليل واحد على ذلك. كما أن المسلمين في العراق وبلاد عربية أخرى ليسوا في وضع أفضل.
غير أن لمحنة المسيحيين بطبيعة الحال طابعاً نوعياً. وتبدو هذه المحنة في العراق الآن أكبر من أي وقت منذ ما عرف بـ«النكبة الآشورية» عام 1933، وقد اشتدت هذه المحنة بعد الغزو الأميركي عام 2003. ولكن عهد صدام حسين لم يخل من معاناة مسيحية بسبب حملات الترحيل التي شنَّها على بعض الفئات في المجتمع. كان الكرد هم الأكثر تعرضاً لهذه الحملات، لكن بعض المسيحيين نالهم نصيب صغير منها، فضلا عن معاناتهم مع غيرهم من العراقيين آلام القهر في «جمهورية الخوف».
وكم من بلدات كان المسيحيون جزءاً لا يتجزأ من نسيجها منذ نهاية القرن التاسع عشر، صارت خالية منهم في ثمانينيات القرن العشرين تحت ضغط حملات الترحيل. ومنها مثلا مدينة خانقين التي أضفى المسيحيون الكلدان عليها تنوعاً جميلًا لعقود طويلة. فقد رحلوا عنها، وباتت كنيستها الوحيدة التي أقيمت عام 1948 مهجورة منذ ثلاثة عقود على الأقل.
غير أنه منذ عام 2003، بات المسيحيون الكلدان والآشوريون هدفاً لهجمات عمياء بدعوى تعاون بعضهم مع قوات الاحتلال قبل انسحابها، أو بحجة عدم ارتداء نسائهم الحجاب أو بيع الخمور، أو غيرها من الذرائع الواهية. كما تعرض عدد متزايد من الكنائس والمنتديات المسيحية إلى عمليات تخريب وهجمات مسلحة متنوعة. لذلك، أخذوا في ترك بيوتهم والهجرة إلى بلدان مجاورة، وخاصة سوريا والأردن، أو إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية تريد مساعدتهم. لكنها لا تعرف، أو ربما تعرف، التداعيات الخطيرة لتفريغ المنطقة من مسيحييها الذين يعطيها وجودهم فيها معنى إنسانياً واسعاً.
وصارت محنة مسيحيي العراق هي الأكبر في المنطقة خلال السنوات العشر الأخيرة، بعد أن صاروا هدفاً لمتطرفين في مقدمتهم تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين»، الذي اندمج مع مجموعات أخرى في إطار تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق» عام 2006، ثم تحول اسمه إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» عام 2013.
لذلك فقد العراق معظم مسيحييه الذين عاشوا فيه وعاش فيهم لقرون طويلة. فقد عاش الكلدان والآشوريون في العراق منذ أكثر من خمسة آلاف عام. وكانوا من أولى الفئات التي اعتنقت المسيحية وأعطتها نكهة خاصة بها في المشرق عموماً.
كان في العراق نحو مليون مسيحي قبل الغزو الأميركي. ويستحيل اليوم الوصول إلى إحصاء دقيق لعدد الباقين منهم. لكن المصادر الأكثر جدارة بالثقة تقدر هذا العدد بثلاثمائة ألف على الأكثر. ومن هؤلاء نحو 25 ألفاً في الموصل، التي هُجروا منها عقب استيلاء تنظيم «داعش» عليها في يونيو الماضي، و حوالي 40 ألفاً في قرقوش التي كانت تُعتبر أكبر بلدة مسيحية في العراق قبل أن يجتاحها مسلحو هذا التنظيم.
لكن محنة المسيحيين ليست مقصورة على العراق؛ فهي آخذة في التفاقم في سوريا منذ عسكرة الانتفاضة ثم تنامي دور التنظيمات المتطرفة والأكثر تطرفاً وسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على جزء كبير من المناطق الشرقية. غير أنه مازال صعباً تقدير حجم هذه المحنة في ظل الأوضاع المتغيرة والمتداخلة في سوريا. لذلك لم نعرف بعد عدد المسيحيين الذين غادروا سوريا بدقة. لكننا نعلم أن فلسطين فقدت معظم مسيحييها الذين كانت نسبتهم عام 1948 نحو 17 في المائة، وكانوا ينتمون إلى ثمان طوائف هي الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك واللاتين والأرمن الأرثوذكس والأقباط والأحباش والسريان والبروتستانت. فقد أخذت تلك النسبة في التراجع حتى صارت أقل من 5 في المائة الآن. وفقدت مدن معروفة بطابعها المسيحي تاريخياً هذا الطابع، مثل بيت جالا وبيت ساحور، وكذلك بيت لحم بدرجة أقل نسبياً. فالمسيحيون ينقرضون في «بلد المسيح».
وبينما هرب معظمهم من قهر سلطة الاحتلال وتعسفها وما أدت إليه سياساتها من تدهور الأوضاع الاقتصادية، فقد هاجر بعضهم من جرّاء الشعور بالاغتراب في ظل تنامي دور حركات أصولية.
وتأخذ محنة المسيحيين في لبنان شكلا آخر. فبعكس العراق وفلسطين حيث يعتبر المسيحيون من أضعف فئات المجتمع، كان الموارنة فئة قوية للغاية في لبنان. لذلك اقتسموا السلطة مع المسلمين في إطار صيغة أُقيمت على الطائفية السياسية. وهم مازالوا أقوياء بما يكفي رغم ما لحق بهم من تهميش فعلي خلال مرحلة الهيمنة السورية، وهجرة عدد كبير منهم إلى الخارج منذ نشوب الحرب الأهلية في أبريل 1975.
وكان مفترضاً أن يؤدي انتهاء الهيمنة السورية على لبنان إلى إنعاش دور مسيحييه مجدداً. غير أنهم انغمسوا في صراع بينهم، بدلا من أن يقدموا نموذجاً متقدماً ويساهموا في إنقاذ لبنان المهدد من جرّاء الحروب المذهبية المشتعلة في جواره.
وهاهو منصب رئاسة الجمهورية المخصص لهم في إطار نظام الطائفية السياسية بات شاغراً، فيما يستهين بعض زعمائهم المتصارعين على هذا المنصب بمخاوف بسطائهم من الإرهاب الذي وصل بلدة عرسال بعد أن كان مقصوراً على عمليات تفجير متنقلة، أو يستخدمون هذه المخاوف في مزايدات سياسية. لكنهم لا يرتفعون إلى المستوى اللازم لمواجهة الخطر الذي يهدد لبنان الدولة والمجتمع، وليس مسيحييه وحدهم.
ومع ذلك مازال بإمكان قادة المسيحيين الموارنة أخذ زمام المبادرة عبر التوافق على رئيس جديد مستقل والتعاون معه لإنقاذ بلدهم. وحينئذ قد يستطيع هذا البلد العربي الوحيد الذي يتولى مسيحي رئاسته القيام بدور مهم حتى وإن بدا صغيراً في السعي إلى وضع حد لمحنة المنطقة.
ليست محنة المسيحيين إلا واحدة من مكونات محنة عربية أكبر، وأحد عوامل تفاقمها في الوقت نفسه، فتفريغ العالم العربي من مسيحييه يحرمه من أهم مصادر تنوعه ويحيله بالتالي صحراء قاحلة ثقافياً وحضارياً على نحو يفتح المزيد من الأبواب أمام التطرف والإرهاب. لذلك تعد مقاومة تهجير المسيحيين وغيرهم من الأقليات إحدى أهم وسائل الخلاص من هذه المحنة التاريخية على قاعدة المواطنة والحداثة والديمقراطية بلا تمييز ديني أو مذهبي أو عرقي.
--------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 31/8/2014.