غلق الصحافي السوري المغامر نذير فنصة صحيفته (الناس). وفر لاجئا إلى إيران الشاهنشاهية (1956)! وفر ثلاثة ملايين عربي من بلدانهم. ولم يفكر أحد منهم في اللجوء إلى إيران، إلا بعد نحو خمسين سنة. فلقد لحقت «حماس» بالراحل فنصة! فلجأت إلى إيران خامنئي والخميني، بعدما صكّت إيران شعار «الممانعة» الذي بات أكثر زيفا. وخداعا. وابتذالا، من شعار «المقاومة» الذي أحرقه بشار في مزايداته الكلامية على العرب.
العرب الآن أمام شعار أشد خداعا وتضليلا. نحن الآن أمام شعار «انتصرنا». الشعار مرفق بحملة بذاءات في الإنترنت على دول عربية بذلت الغالي، من مال وأرواح من أجل فلسطين. نعم، من أجل فلسطين. وليس من أجل «حماس». انتصرنا على مَنْ. وماذا؟! هل انتصرنا على المدنيين الأبرياء؟! لقد قتل ألفان منهم في غزة. وفي عام 2006، قتلت إسرائيل 1200 شيعي مدني في لبنان. فرفع «حزب الله» شعار «انتصرنا»!
نعم، النظام العربي غاضب ومتأثر لأحداث مجتمع غزة المدني. وفاتر إزاء «حماس» التي خالفت عمدا المبدأ الذي توصلت إليه «فتح» محمود عباس: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للنظام العربي. لحماس تاريخ من التدخل. انحازت «حماس» لنظام بشار ضد نظام الأردن الذي أنقذ {مرشدها} خالد مشعل من الموت بالسم الإسرائيلي. وأجبر إسرائيل نتنياهو على الإفراج عن شيخها ومؤسسها الراحل أحمد ياسين. ثم باعها بشار إلى إيران. من أجل حفنة من الدولارات الإيرانية، فناصبت «حماس» دول الخليج العداء.
ثم تخلصت «حماس» بمهارة من صحبة النظام السوري القمعي، لتتورط في عداء مستحكم، مع النظام المصري الجديد. من غزة، تم إلهاب سيناء. ذبح «الجهاديون» الذين انطلقوا من غزة حاميات عسكرية مصرية. الحامية المصرية الصغيرة المرابطة في موقع متقدم على الخطوط مع إسرائيل، ذُبحت في ساعة الإفطار في رمضان!
لماذا هذا العداء لمصر؟! لأن 85 مليون مصري أسقطوا نظام محمد مرسي «الإخواني» الذي يعتبر «حماس» ذراعه العسكرية الطويلة. الأنظمة المصرية المتعاقبة لم تبادر «فتح» و«حماس» بالعداء. لم «تخترع» مصر الملكية والجمهورية تنظيمات فلسطينية موالية لها، كما فعل صدام وحافظ الأسد.
وها هي مصر السيسي ترتفع فوق حملة البذاءات، لوقف المواجهة غير المتكافئة بين «حماس» وإسرائيل. «التهدئة» و«المهادنة» ليسا شعارين مصريين. فهما من ابتكار مخيلة «حماس» السياسية، للف والدوران على شعار الصلح. وهما في الواقع «معاهدة سلام» مع إسرائيل تمكنها من شن حروب متوالية (2008. 2010. 2012. 2014) على شعب غزة المحاصر، كلما أطلقت «حماس» أو التنظيمات «الجهادية» التي تؤويها عندها، صاروخ التنك الذي لم يتقن الوصول إلى الهدف، بعد 15 سنة من اقتنائه!
إسرائيل لا تريد إسقاط «حماس». تريدها أن تظل شوكة في خاصرة النظام العربي، وأداة للمزايدة على عباس وسلطته في الضفة، إمعانا في تمزيق المجتمع العربي. الحرب الأخيرة في غزة لم تعد حربا وطنية. إنها حرب آيديولوجية. حرب «جهادية». باتت «حماس» تنظيما «جهاديا». تماما كـ«حزب الله». و«داعش». و«جبهة النصرة». و«القاعدة». و«إخوان» ليبيا الذين يحاولون السيطرة على هذا البلد الغني بالنفط، لاستخدامه في عمليات قتل وتخريب ضد مصر. وتونس. والجزائر. والمغرب، وصولا إلى دول وأنظمة دول أفريقيا السوداء.
نظرية التضحية بالمدنيين التي طبقتها هذه التنظيمات «الجهادية»، مخالفة لمبادئ «الجهاد» في الإسلام. ومتناقضة مع المبادئ الإنسانية (حقوق الإنسان) التي تكلف النظام مسؤولية حماية مدنييه من التطهير. القتل. الإبادة. مجتمع غزة صغير. متداخل. وقع مأساة أسرة أبيد نصفها. أو معظمها، له تأثير مفجع على ما بقي منها من أحياء. بل قتلت التنظيمات «الجهادية» من المدنيين العرب والمسلمين أكثر مما قتلت من الغزاة الأميركيين!
نعم، نجحت «حماس» في النزول تحت الأرض. بنت شبكة الأنفاق تحت «الحدود». ففاجأت الجنود الإسرائيليين خلف خطوط المواجهة. فتعمدت إسرائيل إجلاء المدنيين بالقوة، لتدمير مبانيهم التي بُنيت تحتها الأنفاق من دون علمهم أو رضاهم.
وتظل المواجهة خاسرة، وغير متكافئة، على الرغم من الشجاعة والمهارة اللتين أبداهما مقاتلو «حماس». فغزة (310 كيلومترات مربعة) طابع بريد تذكاري يحتشد عليه نحو مليوني إنسان هم أصلا مهجرون من مناطق فلسطينية أخرى محتلة. وتمكنت القوات الإسرائيلية من إقامة شريط محايد خال من السكان، على امتداد غزة من الشمال إلى الجنوب لتدمير الأنفاق، وهدمت ما تيسر لها من مبانيهم.
وصل صاروخ «حزب الله» و«حماس» إلى عمق الأرض الفلسطينية المحتلة. لكن، لم يتم تطويره تقنيا لتحديد هدفه. للوصول إلى المراكز العسكرية والاستراتيجية. قتل صاروخ «حزب الله» في المواجهة عام 2006 من الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين. وبحجة إصابة المدنيين، شنت إسرائيل هجومها على المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين.
ليس المجتمع المدني العربي في غزة قميص عثمان للنيل من «حماس» كما يزعم قادتها، تحمل أهل غزة بنبل شجاع عناء القصف. الحصار. ويقولون إنهم مستعدون للتحمل أكثر، إذا كان ذلك مفيدا في إنهاء الحصار. وفتح المعابر. خصوصا معبر رفح مع مصر. «حماس» لم تقم بعملية «إرهابية» واحدة، إلى الآن، خارج الأرض المحتلة، لكي يسكت العالم، خاصة النظام الأميركي والأوروبي، عن قصف مجتمع صغير محاصر. ومخدوع بالشعارات، بخمسة وثلاثين ألف قنبلة أطلقتها إسرائيل عليه باعترافها، منذ أكثر من شهر.
ورط صدام العراقيين في حروب ضد العرب. وإيران. والأكراد. مات نحو مليون عراقي في هذه الحروب. كان لا بد من إزالة نظام صدام بالقوة المسلحة. لكن أميركا بوش أسقطت معه عروبة العراق، وبالزعم أن السنة «أقلية». وكأن العراق مفصول عن سنة الخليج وسوريا. ثم سلمت العراق إلى عملاء إيران!
تدخلت أميركا بالقوة لإنقاذ الأكراد الإيزيديين من حماقة داعش الدموية، ولحماية نظام كردستان شبه المستقل من السقوط. فلماذا لم تتدخل أميركا أوروبا لحماية سنة سوريا وغزة. إذا كان جائزا معاقبة داعش على تدميرها حياة المسيحيين والأكراد الإيزيديين، فهل يجوز تدمير حياة عرب غزة، والسكوت عن نتنياهو وعصابة الأحزاب الدينية والصهيونية الحاكمة معه؟! هل دم العرب أرخص من دم الأكراد؟!
اقتل عربيا تخلق فورا «جهاديا» في العالم العربي والإسلامي. حرب «الإرهاب» التي تشنها أميركا فيها قصور فاضح لدى المثقف باراك أوباما عن إدراك أهمية التربية والتعليم، في وقاية العرب والمسلمين من ثقافة دينية شمولية. تكلف هذه الحرب أميركا تريليون دولار سنويا، لو أُنفق ربع هذا المبلغ على تطوير وأنسنة مناهج التعليم، وتطعيمها بمبادئ الحرية، لما تجرأت داعش و«القاعدة» على ذبح وقتل المؤمنين قبل زندقة وقتل «الكفار» الملحدين.
لو أدركت «حماس» أن فرار الإسرائيليين من غزة (2005) فرصة لاعتماد مبدأ التنمية الاقتصادية استراتيجية بديلة لحرب غير متكافئة مع إسرائيل، لَمَا ضحت بأرواح ودماء نحو مليوني عربي في مواجهة جيش همجي تقوده حكومة فاشية متعصبة. التنمية أيضا حرب. وجهاد، لخلق إنسان فلسطيني قادر اقتصاديا على الاستقلال، وعدم الخضوع «للأوامر» الغربية، للحصول على حفنة من الدولارات.
كانت السعودية صريحة في مطالبة دول منظمة التعاون الإسلامي في مؤتمر جدة، بالتضامن والتعاون فعليا مع العرب: «لسنا في مجلس عزاء» كما قال الأمير سعود الفيصل للمؤتمرين «علينا أن نتغير ونتحرك. فلا وقت للعزاء. واستجداء الحلول... وخاصة أن المنظمة أنشئت أصلا لنصرة القدس والقضية الفلسطينية».
ما زالت هناك دول إسلامية تتردد في التضامن مع العرب، على الأقل، في المحافل الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة. ووقف التعامل التجاري. والأمني. والدبلوماسي مع إسرائيل. هذه الدول يجب أن تستجيب لصالح وعواطف 1.4 مليار إنسان عربي ومسلم، شاهدوا مآسي شعب غزة.
أخيرا، العالم بحاجة إلى عدالة دولية فاعلة. ومحاكم ذات شرعية دولية ملزمة، تحت طائلة فرض عقوبات على الدول والتنظيمات التي تمارس العدوان والعنف ضد المدنيين. دول أميركا وأوروبا التي تفاخر بالدفاع عن «حقوق الإنسان» مطالبة بتطوير النظام القضائي الدولي، ليستطيع جلب نتنياهو. وقادة جيشه. وبشار وقادة جيشه ومخافره الأمنية. وأبو بكر البغدادي وجلادي داعش. والمالكي صاحب سجون التعذيب السرية، للوقوف أمام عدالة دولية تملك فعلا سلطة المحاسبة. وفرض تعويضات باهظة على الدول التي تمارس العدوان المسلح على دول ومجتمعات أضعف. وأفقر.
-------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الثلاثاء، 19/8/2014