تتعرض الأقليات فى المشرق العربى لتهديدات لم يسبق لها مثيل منذ نشأة الدولة الحديثة فيه فى العقود الأولى من القرن العشرين. والمقصود بالمشرق العربى عادة هو بلاد الشام، أى سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، بالإضافة إلى العراق. فى هذا البلد بالذات تجسدت التهديدات فى محنة غير مسبوقة، فقد طرد ما يناهز المائتى ألف من العراقيين المسيحيين من الموصل وهى موطنهم منذ ما قبل ظهور الإسلام ووصوله إلى العراق، ثم هرب خمسون ألف مسيحى آخرين من مدينة قراقوش. وبعد المسيحيين، حوصر عشرات الآلاف من أقلية اليزيديين فى الجبال التى لجأوا إليها هربا من تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» الذى أعاد تسمية نفسه كتنظيم «الدولة الإسلامية» وأعلن الخلافة فى الأراضى التى أصبح يسيطر عليها فى العراق وسوريا. تهديد الأقليات ومحنتها مرتبط إذن بتقويض أسس هاتين الدولتين والسيادة المفترضة لكل منهما.
المحلل العربى الحريص على قيم الدولة الحديثة والمتطلع إلى أن تتجاوز هذه الدولة فى العالم العربى برمته عثراتها وإخفاقاتها، سواء تعلقت هذه العثرات والإخفاقات بالتحرر الوطنى أو بالتنمية والتقدم، كان يتفادى دوما اللجوء إلى مفهوم «الأقلية» فى تحليلاته. هذا المحلل الذى كان يشدد على قيم التنوع والتعدد وعلى مبدأى المساواة وعدم التمييز وحدها كسبل لتحقيق العدالة والتقدم والتنمية، صار وللأسف، لا يستطيع أن يتجنب الحديث عن «الأقليات» بالرغم مما فى هذا المفهوم من جرح له. التنوع يكمن فى صلب تاريخ الدولة الإسلامية العربية وغير العربية. انظر إلى الأقاليم التى حكمتها دولة إسلامية فى الشرق العربى وشمال إفريقيا وفى أوروبا، ستجد تنوعا دينيا وعرقيا ولغويا لا وجود لمثله فى الدول الأوروبية. هذا التنوع فخر لتاريخ المسلمين وما يفعله تنظيم «الدولة الإسلامية» عار يسىء إلى العرب والمسلمين وإلى تاريخهم.
فى عدد من التقديرات، هوى حجم المسيحيين فى العراق مما يقرب من المليونين فى سنة 2002 إلى أربعمائة الف فى الوقت الحالى. هجرة العراقيين المسيحيين إفقار للمنطقة كلها وسبّة فى حق ثقافتها وتاريخها كما هى إفقار وسبّة هجرة المسيحيين والأقليات من أى دولة عربية تحت ضغط الاضطهاد أو التمييز.
غير أن المدهش حقا هو أن ردود الفعل فى العالم العربى على أفعال تنظيم «الدولة الإسلامية» فى حق الأقليات كان ضعيفا، إن وجد أصلا. هذا شىء مخجل فى حد ذاته، ناهيك عن خطره على الدول القائمة. فى مصر، صدر عن مفتى الديار تنديد بإخراج العراقيين المسيحيين من الموصل واعتبار أن هذا الإخراج لا علاقة له بالإسلام ولا يمكن أن ينسب إليه. وهنا وهناك صدرت استنكارات من رجال الدين، فى العراق بالذات، ولكن لم يرتق أى منها للمستوى المتوقع لمواجهة الاعتداء الصارخ على حقوق مجموعتين من المواطنين العراقيين، من جانب، ولا الانتهاك الفاضح لتاريخ العرب والمسلمين وسمعتهم أمام العالم، من جانب آخر.
لم تصدر عن أى دولة عربية إدانة صريحة لا لبس فيها لاضطهاد «الدولة الإسلامية» للمسيحيين واليزيديين فى العراق. إن قال قائل وما لأى دولة بما يحدث فى العراق، ففى كل دولة ما يكفيها من مشكلات، فإن الرد البسيط هو أن كل دولة فى المشرق العربى وفى مصر، الجائز إضافتها إلى المشرق، متنوعة عرقيا ودينيا، وأن ما جرى فى العراق يهدد مجتمعات كل هذه الدول، خاصة أنه لا مراء فى أن ما يحدث فى أى دولة عربية يؤثر فيما عداها من الدول وبالذات فى منطقة المشرق. اتخاذ موقف واضح وصريح من اضطهاد الأقليات هو دفاع عن المجتمع والدولة فى البلد المعنى. وهذا الدفاع لا يكتمل إلا بالتأكيد على الاحتفاء بالتنوع وبالمساواة وعدم التمييز، ليكون الدفاع بذلك تعبيرا حيا عن نموذج المجتمع والدولة الذى يراد بناؤه. هذا النموذج هو الذى يمكن تجميع المواطنين حوله من أجل تحديث بلدانهم والمنطقة برمتها. أى قعود عن بناء هذا النموذج والترويج له وتنميته هو تيسير للأغراض التدميرية لقوى التطرف. المسألة ليست أفرادا يفرض عليهم الصمت أو تنزع ألسنتهم وإنما مسألة النموذج هى فعل إيجابى ومثال وانفتاح.
غريب أنه لم تلجأ الدول العربية إلى جامعتها لتتخذ كلها معا موقفا واحدا وصريحا ومدويا فى الدفاع عن مواطنين فى إحدى الدول الأعضاء فيها، يتعرضون هم وتتعرض هى، أى العراق، لاعتداءات من قبل تنظيم يهددها جميعا! أم إن الدول العربية مرتاحة ومكتفية بالضربات الجوية التى تكيلها الولايات المتحدة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وبالمواد الغذائية والمياه التى تسقطها الطائرات الأمريكية والبريطانية على اليزيديين الجوعى المحاصرين فى جبل سنجار؟ وهل تكتفى الدول العربية بالمعونات التى تقدمها فرنسا للمسيحيين اللاجئين فى كردستان العراق وترتاح إلى عروضها بمنحهم حق اللجوء إليها؟ بعبارة أخرى، هل تقبل الدول العربية بشرعية أن تمارس ما تسمى «بالدول الغربية» حماية المسيحيين والأقليات فى العالم العربى؟ بفعل تنظيم «الدولة الإسلامية» وبسلبية الدول العربية وبغيبة النموذج الحى للتنوع والتعايش فيها نكون قد عدنا إلى عصر بدايات الاستعمار فى بلداننا، ولكن هذه المرة برضائنا عن تحمله لمسئولية الدفاع عن البعض منّا.
أليس عيبا وتخليا من النظام العربى عن مسئوليته أن يدع لمجلس الأمن الدولى إصدار بيان يدعو فيه الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة إلى مساعدة العراق على مواجهة الأزمة الإنسانية التى يواجهها؟ هل من حسن السياسة أن يكتفى النظام العربى بأن يصدر نفس المجلس قرارا بمقتضى الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة بفرض عقوبات على الأفراد والمجموعات والكيانات التى تساند «الدولة الإسلامية»؟ هل من الملائم أن يترك النظام العربى لمجلس الاتحاد الأوروبى أن يتداول بشأن مساندة العراق وإقليم كردستان؟
ألا يجدر بالدول العربية أن تتخذ مجتمعة موقفا معلنا حازما من مسألة الأقليات فى المنطقة، خاصة الأقليات المسيحية، وهى فى صلب تاريخ العرب وفى القلب من دعوتهم السياسية؟ يمكن أن يصدر هذا الإعلان عن دورة خاصة لمجلس جامعة الدول العربية أو عن مؤتمر يدعى إليه خصيصا لهذا الغرض.
يا ليت محنة الأقليات تكون فرصة ليبث النظام العربى فى روحه نفحة يحتاج إليها.
-------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأحد، 17/8/2014.