أسهم وصول تيار الإسلام السياسي في العديد من دول الثورات العربية في تزايد المخاوف لدى المسيحيين العرب، تمت ترجمته في شكل حالات محدودة من الهجرة. إلا أنه بعد توسع الجماعات التكفيرية، وسيطرتها على مساحات من الأراضي السورية والعراقية، أدى ذلك إلى حدوث حالات– تستحق الدراسة - من التهجير القسري لمئات الأسر المسيحية، مصحوبا بتدمير التراث الثقافي المسيحي، وكان أبرزها ما حدث في معلولا بسوريا، وفى مناطق الموصل، وسهل نينوى بالعراق، وذلك حينما أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) إقامة ما يسمى بدولة "الخلافة الإسلامية" في شمال سوريا وشرق العراق يوم 10 يونيو 2014.
تزامن ذلك مع موقف غربي لم يتجاوز حدود الإدانة، مع ترحيب وتشجيع لفتح باب الهجرة، ومنح حق اللجوء السياسي أمامهم، بدلا من معالجة الأزمة، والتصدي لإرهاب داعش، والسعي لإبقائهم داخل مجتمعاتهم العربية.
وعند تحليل تلك الظاهرة، يجب تأكيد أن إشكالية تهجير المسيحيين من العراق تعد جزءا من أزمة التهجير المنظم التي يعانيها الشعب العراقي بكافة مكوناته، حيث إن الغرب، وفى مقدمته الولايات المتحدة، يسعى للترويج بأن ذلك التهجير ضد الأقلية المسيحية فقط، وليس ضد الشعب العراقي بأكمله، وبأن المسيحي لا يمكنه أن يتعايش بجانب المسلم، نظرا لوجود تصادم بين الأديان، وذلك بهدف تطبيق نظرية صراع الحضارت التي تحدث عنها صموئيل هنتنجتون.
وعلى الرغم من أن التهجير صار ظاهرة عامة تعانيها شعوب المنطقة العربية، فإن انعكاساتها على الأقليات، ومن بينهم المسيحيون، تكون أكثر خطورة، لأنه في حالة عدم توقف التهجير المستمر، فإن ذلك يعنى تصفية واختفاء المكون المسيحي، والقضاء على التنوع الديني، الذي يعد إحدى سمات ومميزات المجتمعات العربية.
وقد لجأ المسيحيون في العراق إلى الهجرة الطوعية لأسباب اقتصادية نتيجة الحصار الدولى المفروض عليها، ثم اتسعت إلى حد ما، نظرا لتردى الأوضاع الأمنية مع بدايات الغزو الأمريكى للعراق عام 2003. إلا أن بعض الأماكن فى العراق بدأت تشهد حالات تهجير، بعد سقوط نظام صدام حسين، واستهداف الأقليّة المسيحيّة بسلسلة تفجيرات إرهابيّة، حيث تشير الإحصاءات العراقية الرسمية إلى أن عدد المسيحيين في العراق، قبل عام 2003، كان يقدر بنحو مليون وخمسمائة ألف شخص، وقد تقلص بعد الغزو الأمريكي للبلاد ليصل إلى أقل من خمسمائة ألف نسمة.
ومن الملاحظ أن ذلك العدد أخذ في التناقص بسبب اتساع ظاهرة التهجير القسري مع ظهور داعش في العراق، حيث أعادت تلك العمليات الإقصائية إلى الأذهان الذاكرة الأليمة لعمليات التهجير الواسعة التي حدثت عام 1933 ، والتي أطلق عليها مجزرة سميل، والتي وقعت بحق أبناء الأقلية الآشورية (المسيحية)، حيث تم تهجيرهم إلى كل من سوريا، والولايات المتحدة، فضلا عن العديد من دول العالم.
أبعاد متداخلة
وتعد ظاهرة تهجير المسيحيين العرب ذات أبعاد متداخلة، ومن الصعوبة أن يقتصر التحليل على أحد جوانبها دون الإشارة- ولو بإيجاز- إلى امتداداتها عبر المنطقة، خاصة حينما يتلاقى مشروع داعش الإقصائي فكراً ومنهجاً - من خلال فتاوى كاذبة تتعمد تشويه الدين الإسلامي - مع أهداف ومصالح العديد من الأطراف الإقليمية والدولية.
فبالنسبة لواشنطن، فإنها تتحمل الجانب الأكبر من المسئولية لما حدث، ولا يزال يحدث، في العراق، سواء بحسبانها المسئولة عن تداعيات احتلالها للعراق، أو صمتها ( المتعمد) على انتشار الجماعات الإرهابية هناك، وكان آخرها داعش، وما تقوم به من إقصاء وتهجير للأقليات، فضلا عن المسلمين الشيعة والسنة غير الملتزمين بفكرهم المتطرف. وهذا ما كشف عنه الدبلوماسي الأمريكي السابق، مايكل سبرينجمان، عن دور الخارجية الأمريكية، ووكالة الاستخبارات الأمريكية في إنشاء تنظيمات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة، مبينًا أن "آخر منتجات واشنطن في العراق وسوريا هى تنظيم دولة العراق والشام الإرهابي، داعش" وذلك خلال لقائه مع روسيا اليوم.
ويتفق ذلك الرأي مع تسريبات نشرت أخيرا عن الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية، إدوارد سنودن، بشأن دور مخابرات كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وإسرائيل لخلق تنظيم داعش الإرهابي، من أجل استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد، وذلك وفقا لخطة تعرف بـ "عش الدبابير" لحماية إسرائيل، تتضمن إنشاء تنظيم شعاراته إسلامية، يتكون من مجموعة من الأحكام المتطرفة التي ترفض أي فكر مغاير، ويكون سلاحه موجها نحو الدول الإسلامية الرافضة لوجوده. واتضح ذلك فى عدوان إسرائيل الأخير على غزة، وصمت ذلك التنظيم عن انتهاكات إسرائيل، وعدم قيامه بأي دور دعما لأهل غزة، بما يعد امتدادا لدور القاعدة التي لم تكن مصدرا لتهديد أمن إسرائيل منذ نشأتها.
أما إسرائيل، فإنها تقوم بالدور ذاته الذي يقوم به تنظيم داعش من خلال إخراج المكون المسيحي من فلسطين، في محاولة لإظهار الصراع بأنه ديني يهودي- إسلامي. ومن أجل تحقيق ذلك، فإنها تحظى بتأييد التيار الديني (الصهيو – مسيحى) في أمريكا الذي يستند إلى منطلقات عقائدية وأيديولوجية، تفسر الكتاب المقدس بطريقة تبرر الاحتلال الإسرائيلي، بحسبان دولة إسرائيل هي أرض الميعاد التي وعد بها الله، ومن ثم يبرر ذلك التيار الأهداف الصهيونية الاستيطانية لدولة إسرائيل. ويتعارض ذلك التيار مع معتقدات مسيحيي الشرق الذين يرفضون تحريف الكتاب المقدس لمصلحة الأهداف الصهيونية.
ومن ثم، فإن المصالح المشتركة بين كل من الصهيونية العالمية، و تيار المسيحية الصهيونية يقتضى ليس فقط إخلاء فلسطين من الحضور المسيحي الذي يؤثر فى مخططاتهم الاستعمارية، بل ومن الدول العربية جميعها، حيث ينظر ذلك التيار إلى المسيحيين الشرقيين، بحسبانهم حصنا منيعا ضد تقسيم المنطقة إلى كيانات طائفية أو مذهبية, نظرا لكونهم مكونا أصيلاً للعالم العربي، فضلا عن دفاعهم عن القضية الفلسطينية.
وتكمن المصلحة الإسرائيلية في تهجير مسيحيي الشرق، في سعيها لإظهار الصراع في المنطقة وكأنه صراع بين إسرائيل ( الدولة اليهودية) والمسلمين، تطبيقا لنظرية صراع الحضارات، حيث يصبح الإسلام هو العدو المشترك لكل من اليهود والمسيحيين، وذلك من خلال الدور الذي تقوم به داعش من تشويه صورة الإسلام، وتصويره على أنه دين إرهابي يستخدم العنف ضد غيره من الديانات الأخرى.
ويمكن إرجاع أسباب الصمت الأوروبي تجاه ما يحدث من تهجير لمسيحيي العراق إلى المصالح الأوروبية من وراء تلك الظاهرة، حيث تستفيد الدول الأوروبية، التي أصبحت تعانى الأصولية الإسلامية المتنامية، والتي كادت تؤثر فى الهوية المسيحية لأوروبا، من خلال تصدير هؤلاء المتطرفين إلى الدول العربية من أجل محاربة الجيوش العربية، مثلما حدث في سوريا، من خلال استقطابهم داخل الجماعات التكفيرية، وفى الوقت نفسه العمل على تشجيع هجرة مسيحيى الشرق إلى أوروبا، على الرغم من أن العرب المسيحيين ليسوا جزءاً من الحضارة الغربية، بل هم ركن أصيل من أركان الحضارة العربية والإسلامية.
التداعيات المحتملة
قبل حدوث الثورات العربية، حذرت الكثير من الدراسات من خطورة تداعيات تهجير مسيحيي الشرق، خاصة في كل من لبنان، و فلسطين، والعراق. ومع مجئ فوضى الثورات (المتزامنة) مع (تطبيق) مشروع الشرق الأوسط الكبير، استمر مسلسل إفراغ الشرق من مسيحييه. ولكن حينما حدثت الإفاقة والتنبه لمخاطر وأبعاد الظاهرة، صارت الأمور خارج السيطرة، نظرا لتمدد نفوذ تنظيم داعش، والجماعات التكفيرية الأخرى، خاصة أن مشروع "داعش" يعتمد على فكرة التمدد، وفتح الحدود، مما يعد مؤشرا على حدوث تغيير ديموغرافي خطير في المناطق المسيطر عليها من قبل داعش، نظرا لاستهدافه للأقليات العرقية والدينية.
ومن ثم، فإن معالجة تلك الظاهرة تعانى محدودية، وربما الافتقاد إلى آليات المواجهة من قبل الأنظمة الحاكمة التي تتحمل المسئولية في انتظارها إلى حدوث الظاهرة على أرض الواقع واستفحالها، دون المعالجة الأولية لها، سواء من خلال تنامي الفكر الديني المتطرف، وعدم مواجهته بالحوار من خلال الفكر الإسلامي الوسطى، أو من خلال الاعتماد على الحل الامنى فقط، مما أسهم في زيادة التطرف الديني في البلاد العربية. وقد كانت تلك هي الأرضية الخصبة التى لولاها لما تحققت المخططات الخارجية من توظيف جماعات متطرفة تسهم فى إفراغ الشرق الأوسط، ليس فقط من المكون المسيحى، بل من جميع الأقليات.
ويأتى في مقدمة تداعيات التهجير المتواصل للمسيحيين العرب، ومن بينهم العراقيون، التأثير فى التركيبة الديموغرافية للمنطقة، من خلال تعرض النسيج العرقي والاجتماعي لبلدان المنطقة لخطر التقسيم والطائفية، فضلا عن مخاطر طمس الهوية العربية عن المنطقة، نظرا لكون المسيحية إحدى ركائزها. وبدلا من الاستفادة من المكون المسيحي الداعم للعروبة، تتم إثارة محور جديد للصراع الطائفي مع المسيحيين.
وأخيرا، فإنه من المتوقع ألا يقتصر الخطر على المسيحيين العرب، بل إن أداة القتل الداعشى ستحمل المزيد من الدمار الذي سيعم المنطقة، وذلك في حالة افتراض دخول الصراع مرحلة التصادم مع الشيعة في العراق، ليأخذ بعدا خارجيا من خلال جر أطراف إقليمية نحوه، وفى مقدمتها (إيران، وسوريا، وحزب الله) بهدف مواصلة استنزاف قدرات ذلك المحور.