محمد بسيونى عبد الحليم، باحث فى العلوم السياسية
شكل امتداد الصراع السوري وتشابكه، وتداخل أطراف خارجية بيئة محفزة لاستدعاء النموذج الأفغاني، إذ إن الصراع تم الترويج له لدى بعض الدوائر على أنه صراع إسلامي، ويحمل طابعا مذهبيا، ومن ثم تدفق على سوريا العديد من المقاتلين الأجانب لتصبح سوريا حلقة جديدة– مثلما كانت أفغانستان من قبل – في منظومة الجهاد العالمي، وهي الظاهرة التي استرعت انتباه مراكز الفكر والرأى الغربية في الآونة الاخيرة.
وفي هذا الصدد، يلقي جيدو ستينبرج Guido Steinberg من خلال مقاله المعنون بـ "قاعدة الشيشان: الجماعات القوقازية والمزيد من تدويل النضال السوري"– والمنشور من جانب المعهد الألماني للشئون الدولية والأمنية في يونيو 2014 – الضوء على المقاتلين الشيشان الموجودين داخل سوريا. ويسعي الكاتب إلى تقديم رؤية تجمع بين الجانب التاريخي، من خلال تتبع نشأة فكرة الجهاد الشيشاني، والجانب التحليلي عبر تقديم خريطة للمجموعات القوقازية المقاتلة داخل سوريا، وينتهي إلى توصيات لكيفية تعاطي الدول الأوروبية مع التهديد المحتمل الذي تمثله تلك المجموعات على المجتمعات الأوروبية.
نشأة الجهاد الشيشاني
يشير ستينبرج إلى أن فكرة الجهاد الشيشاني- وهو المصطلح الذي يستخدمه– ارتبطت تاريخياً بفكرة التحرر، حيث ظل الجهاديون الشيشان وغيرهم من القوقازيين لسنوات يسعون لتحرير إقليمهم من الحكم الروسي. فمع اندلاع الحرب الشيشانية الأولي، خلال الفترة من 1994 إلى 1996 ، بزغت فكرة الجهاد لتحرير الدولة، لاسيما أن القوميين الشيشان لم تكن لديهم القدرة على تحقيق الاستقلال منفردين، وهكذا تدفق المجاهدون على الشيشان باعتقاد راسخ بأن الجهاد أو النضال في القوقاز يعد جزءا من حرب مقدسة لتحرير إقليم مسلم يخضع لاحتلال روسي.
ومع انتهاء الحرب، تزايد الصراع على السلطة بين الرئيس المحسوب على القوى العلمانية القومية، أصلان مسخادوف، والتيارات الإسلامية بزعامة شامل باسييف، الذى كان يكتسب المزيد من النفوذ، خاصة أنه كان الأكثر تواصلاً مع المقاتلين الأجانب الذين وصلوا للشيشان للمشاركة في العمليات القتالية، وكان يتزعمهم السعودى ثامر السويلم، المعروف باسم خطاب. وخلال السنوات التالية، تمكن خطاب بمعاونة باسييف من تأسيس معسكرات لتدريب المقاتلين الشيشان والأجانب على السواء.
وأثناء الحرب الشيشانية الثانية التي اندلعت في 1999 وانتهت في عام 2002 تقريباً، باتت التيارات الإسلامية الجهادية هي التى تتصدر العمليات القتالية ضد القوات الروسية. بيد أن الحركات الجهادية تعرضت لانتكاسات شديدة، عقب مقتل خطاب وعدد من القيادات الأخرى. كما أن روسيا تمكنت منذ عام 2002 من تشديد القيود على العناصر الجهادية، وتجفيف منابع الدعم الخاصة بهم إلى حد كبير، وهذا الأمر أدى إلى تطورين شديدى الأهمية في فكر الجهاديين القوقازيين بوجه عام، أولهما أن العمليات العسكرية انتقلت إلي الدول الأخرى بالجوار ليصل الأمر إلى تنفيذ عمليات داخل روسيا نفسها، من أهمها حادث مسرح دبروفكا في موسكو فى أكتوبر 2002 ، وحادث مدرسة بيسلان بأوسيتيا الشمالة فى سبتمبر 2004.
أما التطور الآخر، فهو أن التيارات الجهادية في الإقليم منذ عام 2007 باتت منضوية تحت لواء تنظيم الإمارة الإسلامية في القوقاز، الذي هو بمنزلة تحالف فضفاض يتكون من جماعات محلية فردية، من أهمها جماعة داغستان. وقد نفذ التنظيم العديد من الهجمات على البنى التحتية، واستهدف رجال الأمن والقضاء وغيرهم بصورة شكلت تهديدا لجمهوريات منطقة القوقاز وروسيا.
خريطة التنظيمات القوقازية في سوريا
لا يمكن إغفال أن الضغوط التى تعرضت لها العناصر الجهادية في منطقة القوقاز أفضت إلى تحول في تفكير تلك العناصر، وتحولت إلى فكرة "الجهاد العالمي" الذى لا يقتصر على المشاركة في عمليات قتالية داخل القوقاز، ولكنه يمتد ليشمل أراضى أخرى. وهكذا، وجدت تلك العناصر في سوريا مقصدا رئيسيا لها. وعزز من هذا التوجه التحالف القائم بين نظام بشار الأسد وروسيا، حيث رأى الجهاديون الشيشان (القوقازيون بوجه عام) أن المشاركة في الحرب ضد النظام السوري يمكن أن تكون بمنزلة حرب غير مباشرة ضد موسكو.
ويذكر ستينبرج أن هناك تقديرات في مستهل عام 2014 تقول إن العدد الإجمالي للمقاتلين في سوريا يتراوح بين 80 ألفا و 100 ألف، منهم ما لا يقل عن ثمانية آلاف مقاتل أجنبي، وإن كانت بعض الجهات الأخرى تقدر المقاتلين الأجانب بـ 17 ألفا. أما الجهاديون، فيقدر عددهم من 10 آلاف إلى 30 ألفا. ويعد المقاتلون القوقازيون كبرى المجموعات غير العربية الموجودة في سوريا، ويترواح عددهم بين عدة مئات وصولاً إلى 1500 مقاتل.
ويرجع ستينبرج بدايات الظهور القوقازى في سوريا إلى منتصف عام 2012 ، وهو ما تزامن مع تحولات جوهرية في بنية حركة التمرد السورية، حيث تعززت وضعية التيارات الإسلامية الجهادية هناك، وتنامت معدلات وصول المقاتلين الأجانب إلى الداخل السوري. وفي السياق ذاته، كانت المعارضة السورية تعاني معضلة حقيقية تتمثل في غياب قيادة مركزية موحدة تضمن وحدة الهدف والتحرك، وسرعان ما حدث الانقسام بين التيارات المقاتلة في سوريا ليتطور إلى صراعات بينية.
وتعد العلاقة بين جبهة النصرة، وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام نموذجا على هذه الصراعات. وبالرغم من أن كلا التنظيمين انبثق عن تنظيم القاعدة في العراق، فإن الصراع بينهما يحمل طابعا أيديولوجيا. ففي حين يتبني تنظيم الدولة الإسلامية أيديولوجية جهادية أكثر تطرفاً لا تتسامح مع أى انحراف عن العقيدة الجهادية السلفية، نجد أن جبهة النصرة تتجنب العنف غير الضرورى، وتتعاون مع مجموعات غير جهادية.
وقد كان لهذا الصراع بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (الذى تطور لصدام مسلح) انعكاساته على المقاتلين القوقازيين بسوريا، حيث كان عليهم أن يفاضلوا بين كلا التنظيمين، خاصة أن أغلبهم (القوقازيين) ينشط في حلب وإدلب، وهما من المعاقل القوية للتنظيمين. وبوجه عام، تنطوى خريطة المقاتلين القوقازيين على أربعة تنظيمات (بحسب المقال) تتباين من حيث حجمها، وإن كانت جميعها تتسم بسمة مشتركة، هى التدريب الجيد على المعارك، فهى بمنزلة قوات النخبة في الحركة الجهادية بسوريا، وهى:
1) جيش المهاجرين والأنصار
يعد من أكثر التنظيمات القوقازية شهرة في سوريا، وكانت النواة الأولى لهذا التنظيم كتيبة المهاجرين التي ظهرت بشكل معلن في سبتمبر 2012 خلال القتال في حلب، ويقودها أبو عمر الشيشاني. وفي الشهور التالية، تم تأسيس جيش المهاجرين والأنصار، وظل أبو عمر قائد التنظيم، وتركزت عمليات التنظيم على الاستيلاء على قواعد الجيش النظامي السوري.
ومن أهم العمليات التي قام بها التنظيم، بالتعاون مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الاستيلاء على القاعدة الجوية بميناغ في أغسطس 2013 ، وكانت هذه العملية المشتركة دليلا على التحالف بين أبى عمر الشيشاني وتنظيم الدولة الإسلامية، خاصة أن بعض التقارير أشارت إلي تعيين أبى عمر كأمير لمنطقة شمال سوريا بتنظيم الدولة الإسلامية.
2) تنظيم صلاح الدين الشيشاني
أثار التحالف بين أبى عمر الشيشاني وتنظيم الدولة الإسلامية حفيظة صلاح الدين الشيشاني الذى يعد من القادة المهمين في تنظيم أبى عمر، وهو ما دفعه إلى الانفصال، وتأسيس تنظيم منافس استخدم أيضاً مسمى "جيش المهاجرين والأنصار"، مع إضافة "الإمارة الإسلامية في القوقاز". وقد ذكر صلاح الدين الشيشاني حينها أنه ترك تنظيم أبى عمر لعدم توافق يمين الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية مع يمينه السابقة لتنظيم الإمارة الإسلامية في القوقاز، وزعيمها دوكو عمروف.
ويضيف ستينبرج أن دعم دوكو عمروف لصلاح الدين الشيشاني أعطى لتنظيمه زخما كبيرا. فمنذ ربيع 2013 ، تحتفي المواقع الإلكترونية لتنظيم الإمارة الإسلامية بمشاركة القوقازيين في القتال بسوريا، والإعلان عن اختيار عمروف لصلاح الدين كممثل لتنظيم الإمارة الإسلامية في سوريا. وقد اختار صلاح الدين التعاون مع جبهة النصرة في تنفيذ العمليات القتالية ضد القوات النظامية.
3) تنظيم سيف الله الشيشاني
كان ثاني الانقسامات التي حدثت، إثر التحالف بين أبى عمر وتنظيم الدولة الإسلامية، خروج مجموعة بزعامة سيف الله الشيشاني الذي كان من القيادات الرئيسية المعاونة لأبى عمر الشيشاني. وتذهب بعض المصادر إلى أن الخلافات بين أبى عمر وسيف الله كان مردها التنافس الشخصي على النفوذ والقوة، فضلا عن اعتراض سيف الله على التطرف الذي يتصف به تنظيم الدولة الإسلامية.
وسعى تنظيم سيف الله الشيشاني إلى التمركز في منطقة حلب بالقرب من الحدود التركية، والتنسيق مع تنظيم جند الشام. ومع نهاية عام 2013، أقسم سيف الله بالولاء لجبهة النصرة، ولقي مصرعه في فبراير 2014 بعد معارك مع القوات النظامية ليخلفه في التنظيم محمد الخراساني الذى حافظ على الولاءات والتحالفات نفسها، سواء مع جبهة النصرة، أو جند الشام.
4) تنظيم جند الشام
يعد التنظيم الوحيد– على خلاف التنظيمات الثلاثة الأخرى – الذى حافظ على الاستقلالية، وابتعد عن شبكة التحالفات التي سعت إليها التنظيمات الأخرى، وإن كان هذا لم يمنعه من التعاون المتكرر مع جبهة النصرة والجبهة الإسلامية. ويدين تنظيم جند الشام بسمعته إلى حد كبير لقائده مسلم أبو وليد، الذي يمتلك خبرة قتالية كبيرة، ويحظى بسمعة جهادية متميزة اكتسبها من خدمته تحت إمرة القائد الجهادى الشهير خطاب أثناء حرب الشيشان الثانية.
وتتركز عمليات التنظيم في شمال محافظة اللاذقية في المنطقة الجبلية بالقرب من الحدود التركية، وقد شارك في عمليات هجومية على قرى علوية بالجبال الساحلية، بالإضافة إلى عمليات في حلب وضواحيها الشمالية، منها الهجوم على سجن حلب في مطلع شهر فبراير الماضي.
المأزق الأوروبي
يفترض ستينبرج أن التنظيمات القوقازية المشاركة في الحرب داخل سوريا ستشكل تهديدا مستقبليا للدول الأوروبية وتركيا، إذ إن العديد من العناصر المنضمة لتلك التنظيمات نشأت في الشتات خارج موطنها الأصلي عقب الحروب الشيشانية. صحيح أن نسبة كبيرة منهم انتقلت لسوريا من جورجيا وتركيا، ولكن هناك أيضاً نسبة لا يستهان بها انتقلت من داخل دول أوروبية مثل النمسا، وألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا، والدول الإسكندنافية.
وفي هذا السياق، فإن استرجاع أرقام المقاتلين الأوربيين في سوريا يشير إلى تصدر النمسا القائمة، حيث إن أكثر من نصف المقاتلين (عددهم الإجمالي نحو 100 مقاتل) القادمين لسوريا من هذه الدولة من ذوى الأصول الشيشانية، كما انتقل من فرنسا نحو 80 مقاتلا من أصول قوقازية، وهناك أعداد أقل من بلجيكا، والدول الإسكندنافية، وألمانيا.
ويكمن التهديد المحتمل للدول الأوروبية في الخبرات القتالية التي سيكتسبها المقاتلون الشيشان (القوقازيون بوجه عام)، وأساليب حرب العصابات، وهو ما سيشكل تهديدا للأمن الداخلى للدول الأوروبية. كما أن القتال في سوريا سيتيح للجهاديين القوقازيين فرصة سانحة لإقامة شبكات اتصال عابرة للحدود الوطنية، يمكن أن تتطور لتستدعي التجربة الأفغانية إبان عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، وما أفرزته من تكوين لتنظيم القاعدة، بيد أنه هذه المرة سيكون تنظيم القاعدة داخل أوروبا.
ويخلص الكاتب إلى ضرورة تبني الدول الأوروبية عددا من الإجراءات لمواجهة هذا التهديد المحتمل، منها التخطيط المشترك بين الأجهزة الأمنية الأوروبية لكيفية مواجهة هذا التهديد، والتنسيق مع تركيا، لاسيما أن الأراضي التركية تعد مصدرا لدعم المقاتلين الشيشان، وهو ما يتطلب إقناع القيادة السياسية التركية بحتمية تخفيض مستوى دعمها للتنظيمات الجهادية الشيشانية. وبالرغم من الخلافات السياسية بين الدول الأوروبية، وروسيا، ونظام بشار الأسد، فإن ستينبرج يتعاطي مع كلتا الدولتين من منظور براجماتي بحت، إذ إن المصلحة تحتم على الدول الأوروبية التواصل مع الطرفين. فمن ناحية، تمتلك روسيا خبرة طويلة في مواجهة الحركات الجهادية القوقازية بصورة يمكن أن تخدم الأجهزة الأمنية الأوروبية. ومن ناحية أخرى، لا يزال نظام بشار الأسد قادرا على تقديم معلومات عن العناصر الجهادية، تستفيد منها الدول الأوروبية.