ما زلنا نتعرض بين حين وآخر لعدوان إسرائيلي همجي على الشعب الفلسطيني لأتفه الأسباب، وإذا صح أن «حماس» مسؤولة عن مقتل المستوطنين الإسرائيليين الثلاثة في الضفة الغربية فإن هذا أمر يستوجب التحقيق والمحاكمة وإنزال العقوبة المناسبة بالفاعلين بافتراض التغاضي عن أننا إزاء حالة استعمارية استيطانية مزمنة وضحيتها من شعب طال شوقه وانتظاره لاستعادة ولو جزء من حقوقه. غير أن هذا الأمر لا يبرر بأي حال جريمة الإقدام على إبادة شعب. وما زلنا نؤمن بأن المخرج الوحيد من هذه الحالة هو تغيير ميزان القوى لصالحنا، ولن يحدث هذا الإ بالمقاومة، وهي ليست نموذجاً نمطياً يتكرر دون وعي أو إدراك لدروس الخبرة الماضية وإنما تعودنا عبر التاريخ أن نشاهد استراتيجيات وأساليب متنوعة تُبدعها الشعوب انعكاساً لظروف كل حالة من حالات الاستعمار، وهكذا آمن ثوار الجزائر ونجحوا في خمسينيات القرن الماضي بأن النضال المسلح هو الأسلوب الوحيد الكفيل بتحقيق الاستقلال، ولكن مانديلا اكتشف بعدهم بقليل وبعد أن جرب النضال المسلح من خلال «رمح الأمة» أن الخلاص يتطلب نضالاً مدنياً عارماً، وقد كان وحصلت جنوب أفريقيا على استقلالها في تسعينيات القرن الماضي بعد أن شكك كثيرون في إمكانية تحقيقه. ولكن مشكلتنا الآن في فلسطين، ولم تكن كذلك دوماً، أننا لا نمارس نضالاً مسلحاً إلا على سبيل رد الفعل ولا نتبنى استراتيجية للنضال المدني أصلاً مع أن الشعب الفلسطيني كانت له إبداعاته التي ستُسجل باسمه في تاريخ حركات التحرر الوطني كما في انتفاضتي 1987 و2000.
بدأت المعضلة الفلسطينية الراهنة باستدراج «فتح» كبرى الفصائل الفلسطينية إلى فخ «أوسلو» في 1993، وعلى رغم الوضوح الكامل لانسداد آفاق التسوية السلمية بعد سنوات قليلة فإن «فتح» لم تملك جرأة الاعتراف بعقم هذا المسار. وفي هذا الإطار تصاعد حضور النهج المقاوم لـ«حماس» وظهرت إنجازاته وصولاً إلى إجبار إسرائيل على إخلاء قطاع غزة وتفكيك المستوطنات القريبة منه في 2005. غير أن «حماس» ارتكبت خطأً استراتيجياً فادحاً عندما تحولت من حركة تحرر وطني تكر وتفر وتحقق الإنجازات إلى نظام حكم معرض للهجوم وتلقي الضربات في أي وقت بعد فوزها بالانتخابات التشريعية في 2006 وتشكيل الحكومة الفلسطينية قبل الصدام الدموي مع «فتح» في 2007 وحدوث الانقسام التعيس بين أهم فصيلين فلسطينيين. ومن يومها تتكرر الاعتداءات الإسرائيلية وتنتهي عادة بتهدئة بعد أن يكون الشعب الفلسطيني قد دفع ثمناً باهظاً من دماء أبنائه وممتلكاته ومنشآته وبنيته الأساسية. ثم عادت «حماس» فارتكبت خطأً استراتيجياً ثانياً عندما وقفت ضد ثورة الشعب المصري وتخلصه من حكم «الإخوان» في مصر فهي جزء من حركة «الإخوان المسلمين»، ولاشك أنه كان من حقها أن تراهن على أن هذا الحكم وانتشاره خارج مصر سيحدث تغييراً استراتيجياً لصالحها، ولكن لم يكن من مصلحتها بكل تأكيد أن تغض الطرف عن أخطائهم في مصر وتتجاهل غضبة الشعب المصري عليهم وتساهم في محاولات إجهاض نظام الحكم الجديد في مصر.
وقد ترتب على هذا الخطأ الموقف غير المحسوب وغير المبرر لـ«حماس» من مبادرة التهدئة المصرية، فنجاح المبادرة يعزز شرعية النظام المصري، ولذلك فإن «حماس» سواء من تلقاء نفسها أو بوحي من حلفائها، رفضت المباردة المصرية، وألمح ناطق غير رسمي باسمها في القاهرة إلى أن الحركة عاتبة على الدوائر المصرية المسؤولة أنها لم تتصل بها قبل إعلان المبادرة، ولو صح هذا لكان عتاباً في محله، غير أنه يتعين على «حماس» في الوقت نفسه أن تدرك أن مناخ علاقتها بمصر منذ سقوط حكم «الإخوان» في يونيو 2013 لا يُشجع على هذا. ووفقاً للناطق غير الرسمي نفسه فإن «حماس» لها تحفظات على المبادرة منها مثلاً ما يتعلق بوقف العدوان وفك حصار القطاع والالتزام باتفاق 2012 والإفراج عن المعتقلين ومنهم من كان قد أٌفرج عنه في صفقة مبادلة الجندي جلعاد شاليط وأعادت إسرائيل اعتقالهم على رغم تعهدها بغير ذلك. والحق أن هذه التحفظات تثير الدهشة -ولا استخدم لفظاً أكثر قسوة- فما الذي تتحفظ عليه «حماس» بخصوص وقف العدوان ونص المبادرة المصرية الأخيرة يكاد يتطابق في هذا الصدد مع اتفاق 2012؟ بل إن المبادرة المصرية تزيد عن هذا الاتفاق في تأكيدها على عدم تنفيذ أي عمليات اجتياح بري لقطاع غزة او استهداف المدنيين. أما بخصوص فك حصار القطاع فقد نصت المبادرة المصرية على فتح المعابر وتسهيل حركة عبور الأشخاص والبضائع في ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض، وهو النص المستخدم بحذافيره في اتفاق 2012 فيما عدا أن هذا الاتفاق قد تضمن بدلاً من العبارة السابقة عبارة غامضة نوعاً تقول «والتعامل مع إجراءات تنفيذ ذلك بعد 24 ساعة». أما المطالبة بالإفراج عن المعتقلين فهو هدف نبيل وعادل ولكنه ليس من طبيعة الأمور أن تتناول تفاهمات وقف إطلاق النار مثل هذه القضايا، كما أن ميزان القوى الراهن في غزة لا يسمح حالياً بفرض مطالب على إسرائيل.
ولكن «حماس» اختارت أن تحارب معركة «الإخوان» بدلاً من إدارة صراعها مع إسرائيل، وأعلت هدف تقويض نظام الحكم في مصر أو على الأقل إضعافه على حماية أرواح الفلسطينيين وصون دمائهم، وهو خطأ من المؤكد أن شعبها سيحاسبها عليه مستقبلاً، وأنه للأسف يضيف مع أخطاء أخرى سابقة عليه مزيداً من التعثر لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. وقد آن الأوان لكسر حلقة الاعتداءات الإسرائيلية المفرغة: عدوان همجي يوقع بالفلسطينيين خسائر أكثر من فادحة يُقابل بقدر من المقاومة للأسف غير كافٍ للرد على المعتدي. ومع أن كافة حركات التحرر الوطني قد بدأت ضعيفة للغاية ثم أخذت في التطور والتصاعد حتى أصبحت حملاً على العدو لا قبل له بتحمله عسكرياً أو على الأقل سياسياً فُأجبر على التسليم بمطالب هذه الحركات فإن الملاحظ للأسف أن حركة التحرر الفلسطيني بعد أن حققت إنجازات يُعتد بها قد أخذت في التراجع من المقاومة إلى التسوية، دون أن يكون هناك أفق لهذه التسوية، وعندما توارت المقاومة العسكرية أو على الأقل ضعفت كثيراً لم يُعوض هذا نضال مدني عارم واسع النطاق فبتنا عاجزين عن كسر الحلقة المفرغة. إن النصر التاريخي لحركة التحرر الفلسطيني آتٍ لا ريب فيه، ولكن أفعالنا يمكن أن تؤجل طويلاً ساعة هذا النصر فلنتق الله في الشعب الفلسطيني ولتنظر الفصائل الفلسطينية في أنفسها ولتضع نصب أعينها التوصل إلى رؤية مشتركة واستراتيجية سليمة تعيد النضال الفلسطيني إلى مساره الصحيح.
-------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 22/7/2014.