تهديد المغرب بالمضي في تنفيذ الحكم الذاتي في الصحراء، سواء أحرزت جهود الأمم المتحدة تقدماً في التسوية السلمية أو استمرت الخلافات التي تكبحها، ليس أكثر من إنذار بنفاد الصبر، فالواقع على الأرض لن يتغير كثيراً والسكان الذين شاركوا في الاستحقاقات الدستورية والاشتراعية والمحلية التي عرفتها البلاد في إمكانهم التدليل على أنهم غالبية في العدد والاختيار.
غير أن الذهاب إلى صناديق الاقتراع للاستفتاء على حكم ذاتي متقدم يمنح السكان صلاحيات واسعة في تدبير شؤونهم المحلية في التعليم والصحة والسياحة وتقوية المرافق الإنتاجية وتطوير الأداء الاقتصادي والإفادة من ثروات الإقليم، سيكون أقوى من منطلقين على الأقل، إيجاد حل سياسي لنزاع طال أمده بمرجعية وفاقية تعتمد حكمة لا غالب ولا مغلوب، وتعميق تجربة المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية، ما يعني الحاجة إلى دمج كافة السكان المتحدرين من أصول صحراوية، وفي مقدمهم المنتسبين إلى جبهة «بوليساريو» المقيمين في مخيمات تيندوف.
العقبة الكأداء تكمن في هذا الجانب، فكيف السبيل لمنح سكان المخيمات فرصة التعبير عن إرادتهم الحرة لجهة دعم هذا الاختيار الذي يعتبر حلاً وسطاً بين الضم أو الانفصال الكامل؟ منهجية المفاوضات التي حرصت قرارات الشرعية الدولية على اعتمادها من دون شروط مسبقة، تبقى الخيار البديل. وعلى افتراض أن المفاوضات بمنطق التنازلات المتبادلة لا يمكن أن ينجم عنها فرض الأمر الواقع، فإن الإعلان عن قيام «الجمهورية الصحراوية» من طرف واحد يعتبر جزءاً من المعضلة.
ولا يمكن الحديث عن تقرير المصير في ظل استباق نتائج التعبير الحر عن الإرادة، ما يرجح صيغة الحكم الذاتي على غيرها من مقاربات الحلول المتداولة، خاصة أن مجلس الأمن استبدل خطة الاستفتاء بمفهوم «الحل السياسي» الذي رهنه بخلاصات وفاقية لا تفرض أي تصور، من دون قبول الأطراف كافة.
انزعاج المغرب من تعيين «الاتحاد الأفريقي» موفداً له إلى الصحراء يتماشى والموقف المبدئي القائل بأن الاتحاد أبعد نفسه عن المشاركة في البحث عن التسوية، طالما أنه اعترف بـ «الجمهورية الصحراوية». ومن التناقض أن يكون خصماً وحكماً في الوقت ذاته. لكن خلفيات الانزعاج التي أعادت الخلاف المغربي الجزائري إلى الواجهة، مصدرها أن لدى الرباط قناعة متجذرة بأن استمرار المأزق الراهن في تعاطي الأمم المتحدة مع ملف الصحراء، إنما يراد لترحيل القضية إلى المنظمة الإفريقية، كونها سبقت إلى إدارة الأزمة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى حل نهائي، لولا منعطف الاعتراف الذي أزاح عنها طابع الحياد.
على طاولة المفاوضات التي يرعاها الموفد الدولي كريستوفر روس وضعت صيغة جديدة محورها البحث في إمكان حدوث اختراق ثنائي يشمل المغرب و «بوليساريو»، ثم ينطلق لاحقاً في اتجاه إقليمي، عبر امتزاج رأي الجزائر وموريتانيا. ولا يصبح الاتفاق كاملا إلا في غضون دعم الأطراف كافة. لكن هذه الصيغة تميل إلى تكريس ثنائية النزاع، ولا يوجد ضمن أجندتها ما يكفل انخراط باقي الأطراف، ما يناقض كل الطروحات التي اهتمت بتلمس البعد الإقليمي للنزاع. والظاهر أن تهديد المغرب بتنفيذ خطة الحكم الذاتي من طرف واحد إنما يكشف البعد الغائب في مسار التسوية، أي معاودة بناء الثقة بالتزام مشترك وثابت لكل الأطراف.
في طريق عودته إلى نقطة الصفر، يراوح نزاع الصحراء مكانه. بينما الواقع يشير إلى أن ثمة أجيالاً فتحت عيونها على واقع منكسر، حياة المخيمات في تيندوف، وحدود مغلقة بين المغرب والجزائر، وخلافات تتعدى الرقعة الضيقة للتوتر نحو المواقف من إشكالات إفريقية، كما في حال منطقة الساحل وتداعيات الوضع في مالي. أضيف إلى ذلك عطل الاتحاد المغاربي الذي لا يبدو أنه في وارد الخروج من محنة الخلافات والاصطفافات.
بيد أن العودة إلى المنطلق لن تكون مفيدة إلا في حال قدرة الأطراف المعنية على استيعاب الدروس المريرة التي علقت المصالح الاستراتيجية لمنطقة الشمال الأفريقي، فتراجع نفوذها إقليمياً وعربياً إلى درجة أن أحداً لم يعد يهتم بما ستكون عليه المبادرة المغاربية في التعاطي مع أي أزمة أو صراع. لكن من يعجز عن حل مشاكله عبر الحوار والتفاهم كيف سيتأتى له أن يصبح عنصراً داعماً في صراعات أخطر؟
للمغاربة تجربة متميزة في استرداد الساقية الحمراء ووادي الذهب من الاستعمار الإسباني. ولعلهم بصدد تجريب رهان الاعتماد على النفس في إقرار خطة الحكم الذاتي، وبعدها يصير لكل حادث حديث. وما أفلحت الأمم المتحدة أو غيرها في إنهاء أزمات ازداد عمقها تعقيداً.
---------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الأحد، 13/7/2014.