أوصلت إستراتيجيات العبث التي يمارسها بعض الأطراف الإقليمية، وسياسات اللامبالاة الدولية، المنطقة الى نهايات مفتوحة على كل الاحتمالات، وبعض تلك الاحتمالات صار ينفذ على ارض الواقع بوصفه سيناريوات قابلة للتنفيذ يجري اختبارها ومعرفة ممكنات تحولها الى أمر واقع، من حدود وتخوم، على مساحة جغرافية سائبة.
في العراق وسورية، سقطت الدولة الوطنية تحت ضغط عوامل داخلية وخارجية. بالأصل بنيت الدولة فيهما على أسس غير سليمة، لا من حيث البنية الدستورية المتشكلة على عجل بقصد تثبيت أوضاع آنية لصالح الطرف السلطوي، وبالتالي أنتجت عمليات سياسية مشوهة كان من نتيجتها أن تحولت الدولة إلى ماكينة كبيرة من الإقصاء والتهميش، انتهت إلى نمط من الدولة الفاشلة، وإن استمرت في أداء وظيفتها القمعية، وفي البناء الإيديولوجي كانت الحالة متضخمة، ولو على المستوى اللفظي الشكلي، بحيث ابتعدت عن كل منطق وطني، وانزاحت إلى حالة من جمهوريات انتقالية ولكن الى مرحلة لن تأتي أبداً، خليط من دولة الوحدة ودولة المقاومة والجدار العربي، مرة كبوابة شرقية في وجه الفرس ومرة كقلعة صمود وتصدّ في وجه المشروع الصهيوني.
في قلب تلك الدولة، تشكّلت الجذور الأولى لحالة التفسخ الوطني، وكان أن عملت صدمة الحراك الربيعي على تظهير تلك الحالة، وفي ظل انهيار الدولة البوليسية لجأت المكونات الاجتماعية المشكّلة لها للنكوص الى التشكيل الما قبل دولتي، أمام انغلاق كل المسارب للخروج من الأزمة معطوفاً على قناعة الأطراف الوطنية بعدم وجود حلول سياسية ممكنة، وبخاصة في ظل حالة الاستقطاب التي حوّلت الأزمة إلى نوع من الاحتراب الأهلي. في هذا المناخ رسخت المكونات ثقافتها وإيديولوجياتها وتطلعاتها المستقبلية، وقد أتاح لها عامل التدخل الخارجي تثمير رهاناتها، التي بدت غير معقولة في كثير من جوانبها، وإن بدت مشروعة في مدرك تلك المكونات وممكنة أيضاً.
ولعل أغرب تلك الرهانات، ما تعلق منها بتشكيل كيانات على أسس طائفية وعرقية، وهذا الأمر على ما يتضمنه من لامعقولية سياسية، غير أنه يؤشر الى حقيقتين مهمتين في مآلات الحدث المشرقي: الأولى الانهيار الكامل للبيئة السياسية، وليس فقط الجغرافيا السياسية، المتشكلة بعد الاستقلال، ما يعني انهيار تلك الصيغة التي على أساسها جرى بناء دول المشرق واستحالة عودتها الى الحياة، بل أن استمرار التمسك بها لن يعني سوى المزيد من سفك الدماء ما بين طرفين احدهما يسعى الى استمرار تلك الصيغة بهدف استعمالها للهيمنة على الأطراف الأخرى وليس بدوافع وطنية، وطرف يرفضها لأنها باتت تشكل خطراً على مصالحه ووجوده، أما الحقيقة الثانية فهي نهوض الطائفية والقبلية كفاعل سياسي جديد ومحرك لإنشاء الكيانات عوضاً عن الوطنية بشكلها التوليفي الذي ساد في الدولة المشرقية منذ مرحلة الاستقلال. ونتيجة ذلك، أن المنطقة مقبلة عاجلاً أم آجلاً على خريطة سياسية جديدة متصالحة مع هذا التغيير.
غير أن هذا التشكل المرتسم، في المخيال المكوناتي، يتجاوز ترسيمة «سايكس - بيكو»، بوصفها خريطة طريق كيانية، قضت بتقسيم المنطقة على أساس المصلحة الاستعمارية، ولكنها راعت بدرجة كبيرة العلاقات التاريخية داخل كل حيز بما يضمن استمرار التفاعلات القائمة أصلاً داخل الإقليم، وبما يحقق الفعالية المستقبلية وذلك من خلال تأمين شروط استمرار كل كيان جغرافي وإمكانات تطوره من حيث الواجهات البحرية وطرق التجارة وعلاقة مناطق الإنتاج بالأسواق والعكس، فيما تستند الخريطة الجديدة إلى أساس إيديولوجي، يسعى إلى إيجاد نظائر جغرافية صعبة التحقق على الأرض، عبر ربط خطوط التواصل الإثني والطائفي ضمن ثنائية الانغلاق والتواصل، الانغلاق على الشركاء الوطنيين الحقيقيين ومناطقهم وفتح قنوات تواصل مع الجزر الطائفية والاثنية لشركاء افتراضيين.
لم تكن ترسيمة «سايكس - بيكو» مجرد لعبة مشارط على خرائط، كما يحلو للكثيرين وصفها، وبخاصة أتباع نظرية التحليل القومي ونظريات المؤامرة، بقدر ما كانت عملية جيوسياسية معقدة، اختلطت فيها تقنيات صناعة الدولة الحديثة وتوطينها في بيئة فوضوية وبنى سياسية تقليدية، مع مراعاة الواقع والشروط الموضوعية لقيام الكيانات الوطنية في المنطقة، إضافة الى كونها إرادة دولية تمثل إرادة القوى المهيمنة والمقررة في النظام الدولي في حينه، ولا شك أن العيب في تلك الترسيمة يتجسد في الخبث الاستعماري الذي حوّل تخوم المنطقة إلى هامش للمساومة مع القوى الإقليمية، والى عامل ضغط دائم على الكيانات الجديدة، وهو ما حصل عندما قامت إسرائيل وإيران وتركيا بالعبث بتلك التخوم وتحريك حدودها أكثر من مرة، كما ساهم تغلغلهما في الدواخل بزيادة تفجيرها.
والحاصل أن الضغط الإقليمي المقصود والمكثّف، وحالة التفسخ الوطني والسيولة الجغرافية الناتجة عنها، أوجدا نمطاً من أشكال كيانية متحركة، ومن المقدّر لهذه التشكيلات أن تصطدم بالمشاريع الدولية، على اعتبار أنها تشكيل محتمل لإقليم جديد ومتكامل، وبالتالي تغيير قواعد اللعبة الدولية في المنطقة بمجملها، وهذا الأمر يشترط لحصوله تغييرات مقابلة في منظومة القوى في النظام العالمي برمته، وهي حالة لم تتبلور بعد رغم ظهور بعض ارهاصاتها.
ذلك التصادم سيفرض تعديلات معينة على هذا التشكّل، وبين الرهانين والإرادتين وتحت ظلالهما، يتوقع إدارة حرب طويلة حتى تتبلور تماما الصيغة الصحيحة والمناسبة. عملانيا يتوقع حصول توازن في ساحات وميادين وهجوم في أخرى إلى أن يتم إنضاج جميع الأطراف للحل الأمثل، غير أن استقراء التوجهات الدولية يشير إلى أن الفيدرالية تبدو الخيار المفضل لدول فاعلة على المستوى العالمي، ذلك أنها تضمن تحقيق المصالح للأطراف المحلية عبر ضمانها درجة عالية من الاستقلالية للمكونات حتى في علاقاتها الخارجية، كما تضمن تحقيق التوازن في مصالح الأطراف الخارجية وترسيخ علاقاتها مع مكونات وأقاليم جغرافية معينة، ويبقى السؤال عن مدى إمكانية اختراق الصراع بمثل هذا النمط من الحلول؟
-----------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الخميس، 10/7/2014.