عندما تحقق مسرحية ما نجاحاً جماهيرياً لافتاً فإن عرضها يستمر لسنوات، إلا أننا الآن أمام مسرحية مملة بل سخيفة تُعرض منذ عقود مع أن الجمهور قد انصرف عنها منذ زمن، ولكن معظم أصحاب الأدوار بل بالأحرى جميعهم عدا البطل صاحب الدور الرئيس راضٍ عن أدواره قانع بها لأنها لا تريق ماء وجهه ظاهرياً. أما البطل فهو الوحيد الذى لا يرضى عن دوره، وهو يحاول جاداً من حين لآخر أن يغيره، ولكن ما إن تبدأ بوادر نجاحه في ذلك التغيير حتى يتكالب عليه أصحاب باقي الأدوار جميعهم ويحاولون إحباط ما يفعله وينجحون عادة في ذلك، لأن إعادة صياغة دوره ستطيح بهم جميعاً، أو على الأقل ستضع أدوارهم في الموقع الذي تستحقه.
تبدأ أحداث المسرحية بفعل يأتي به البطل الذي يشعر في قرارة نفسه بظلم عميق وغضب مكبوت. قد يُختلف حول هذا الفعل كثيراً: مشروعيته أو لامشروعيته، جدواه أو عبثيته، ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها أن الواقع الذي يعيشه البطل لا يمكن أن يدوم أو يُحتمل، فقد سُلبت أرضه وطُرد أباؤه وأجداده منها، وتشتتوا خارج الوطن أو بقوا يعيشون في جزء يسير منه. حقوقهم غائبة أو مستباحة، وحياتهم في كل لحظة مهددة. والأصل فيما قام به البطل أنه رسالة إلى من اغتصبوا أرضه وحقوقه مفادها أنهم لن يكونوا في مأمن طالما استمر ضياع الأرض وغياب الحقوق وهو يعلم أن رسالته هذه ستستغرق وقتاً قد يطول حتى تؤتي ثمارها، وأنها ليست كافية بحد ذاتها لاسترداد الأرض واستعادة الحقوق ولكنه يدرك أن أحداً لابد أن يبدأ.
يدرك المغتصب خطورة الرسالة ولاسيما إن تكررت فيرد بالعنف الذي اعتاد عليه، وهو بذلك يرسل رسالة بدوره: لن يكون بمقدور صاحب أي أرض أو حق أن يحاول تغيير الوضع الراهن وإلا لقي سوء المصير، ويتفنن المغتصب في العنف وتنويعاته من المداهمات والاعتقالات لكل من يشك في أنهم يناصرون البطل إلى غض النظر عمن يقوم من قطعانه بأعمال القتل في أصحاب الحق، إلى القصف الوحشي لأي مكان يظن أنه يضم من يناصرون البطل ويحذون حذوه، ويرد أنصار البطل بقصف لا يتناسب مع وحشية العدو ولكنه يوجع فضلاً عن أنه يمثل رسالة صمود. وليس وارداً في قاموس المغتصب أن يصيبه ضرر من أصحاب الحقوق وأن يقبل منطق عدم الاستسلام لإرادته، ويطالب المتطرفون في معسكر المغتصب بإبادة أعدائهم غير مدركين أن هذا وحده كفيل بإذكاء إرادة الصمود.
يقع أهل البطل في حيرة بالغة فيمسكون بالعصا من منتصفها، فهم لا يملكون بسبب ما يربطهم بالمغتصب من علاقات أن يؤيدوا البطل وأنصاره فيما فعلوه، ولكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون أن يقبلوا السلوك الوحشي للمغتصب، ولذلك فإن لسان حالهم هو إدانة الطرفين معاً، وهم يتذكرون في هذه المواقف عادة أن لهم جيراناً من المناسب أن يلجأوا إليهم حتى يظهروا جديتهم في مواجهة الموقف الصعب عليهم والمحرج لهم لأن أغلب الظن أنهم يعلمون أن هؤلاء الجيران لن يقدموا لهم سوى كلمات التأييد والدعم اللفظي على نحو روتيني، وحتى عندما تخرج هذه الكلمات والألفاظ عن المألوف فإنها لا تتطور أبداً إلى فعل، والطريف أن هؤلاء الجيران يستجيبون بنفس راضية لمطالبة جارهم لهم بالاهتمام لأن هذه الاستجابة تجعلهم يبدون وكأنهم جزء مؤثر من المشهد دون أن يكلفهم هذا سوى عدد من الخطب الموجزة المؤيدة للجار والمتعاطفة معه دون أن تهم إلى مساعدته مساعدة فعلية.
وعادة ما يتميز أحد هؤلاء الجيران بمبادرة تسعى إلى تهدئة الموقف بين الطرف المظلوم ومغتصب حقوقه مستغلاً في ذلك علاقته بالطرفين معاً، وكذلك من المعتاد أن تنجح جهود التهدئة هذه ولو بعد حين، لأنه بعد أن يتعقد الموقف وتتصاعد وتيرة العنف فيه يدرك المغتصب على رغم ثقته بقوته أن لهذه القوة حدوداً، وأنه لا يستطيع أن يصعّد عنفه بلا نهاية لأن من شأن هذا التصعيد أن يحمله تكلفة سياسية وربما مادية وبشرية. كما أن أصحاب الحق يعانون من وطأة الاستخدام المفرط للقوة، وعندما تنجح جهود التهدئة يهلل الجميع وتعلن كافة الأطراف انتصارها، فالبطل المقاوم أجبر المغتصب على وقف العنف، وكذلك فعل المغتصب مع من يقاومونه فضلاً عما أوقعه بهم من أضرار، وأهل المقاومين وجيرانهم أدوا واجبهم وهبّوا لنصرتهم، مع أن قليلاً من إمعان النظر يظهر بوضوح وللوهلة الأولى أن أحداً لم يحقق أي إنجاز جديد جوهري، بل لعل العكس هو الصحيح فقد خسر الجميع ولو جزءاً من صدقيتهم وعادوا إلى نقطة الصفر من جديد.
يُسدَل الستار وتُضاء الأنوار فلا يصفق أحد، فقد تكررت الأحداث نفسها عبر العقود مرات عدة دون أن يعتبر أحد. وربما شهدت تلك الأحداث أحياناً خروجاً على النص الممل، ولكن الأمور لا تلبث أن تعود سيرتها الأولى، بل لعل الجمهور يكون قد غادر القاعة قبل انتهاء العرض وربما لم يحضر أصلاً. وهكذا تتابعت الأحداث الأخيرة في فلسطين الحبيبة من خطف مستعمرين إسرائيليين تعبيراً عن حالة الاحتقان التي يعاني منها الشعب الفلسطيني أو على الأقل المقاومة، إلى ردود الأفعال الإسرائيلية الوحشية من مداهمات واعتقالات إلى قتل وتمثيل بجثامين الشهداء إلى قصف جوي إلى رد مقاوم في قطاع غزة يضرب إسرائيل بصواريخ يستخف الكثيرون بها مع أنها باتت توجع إسرائيل إلى حد أن يشترط رئيس وزرائها وقف إطلاقها مقابل وقف العنف من جانبه بعد أن كان يتحدث بزهو أنه ماضٍ في العنف إلى نهايته.
يحتاج البطل مزيداً من الجسارة كي يحدث تغييراً جذرياً في دوره معتمداً في ذلك على مخزون الغضب الشعبي من الاستباحة المستدامة للحقوق والعيش غير الآمن والمذلة المهينة التي يحاول المغتصب فرضها على أصحاب الحقوق، ويحتاج أهل البطل وأنصاره وجيرانهم إلى أن ينظروا فى أنفسهم كي ينصروا أبطالهم حق النصرة دون أن يخشوا انتهاكاً لقانون أو خروجاً على التزامات، فالحق بيّن ونصرته واجبة، وعندما تحدث المراجعة من الجميع سيكون بمقدورنا أن نعيد رفع الستار عن مشهد جديد يعيد الحق ويحفظ الكرامة.
-------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 8/7/2014.