عندما خرجت كوندوليزا رايس عام 2005 لتطرح "الفوضي الخلاقة" كصيغة وتصور مناسب لمستقبل الشرق الأوسط، قوبل طرحها هذا بمزيج من التحفظ والترقب على المستوي العربي، وبدا جليا أن الطرح الأمريكي ليس واضحا بما يكفي لاستثارة رد فعل عربي رافض بحسم، أو مصحوب بإجراءات محددة لمواجهته أو الحيلولة دون تحققه. لذا، غلب على المواقف العربية في ذلك الوقت هدوء وتحفظ ورفض غير جاد. فصارت كل دولة تتحدث عن الخصوصية والتدرج، وأخري تقول إنها لا تحتاج إلي نصائح أمريكية، بينما ثالثة تجاهلت الأمر برمته كأنه غير موجه لها.
وفي كل الأحوال، لم تترجم ردود الفعل العربية إلي تحركات فعلية، ليس لمواجهة التصور الأمريكي، بل حتي لسبر أغواره واستكشاف أبعاده. واكتفت بعض الحكومات العربية بإطلاق أبواقها الإعلامية للتشويش على طرح رايس والتقليل من شأنه، بل وأحيانا انتقاده بتهكم، ومن ذلك: التساؤل حول كيفية أن تكون "فوضي"، وفي الوقت ذاته "خلاقة"، مما جسد عدم فهم أبعاد ومقتضيات ذلك المفهوم.
وفضلا عن التقاعس في الإدراك والاستجابة للطرح الأمريكي، غاب عن الذهن العربي أن "الفوضي الخلاقة" ليست سوي حالة مؤقتة. حراك واحتكاك سياسي واجتماعي، ليس بذاته غاية أو صيغة مطلوب إيجادها، ثم تثبيتها، وإنما هو فقط مدخل مرحلي لترتيب الوضع الإقليمي بشكل وطبيعة معينة، بعد أن تكون المنطقة قد خضعت لعملية فرز للأقدر على البقاء والتماسك مع التوافق والديناميكية في الوقت ذاته.
والمقصود هنا ليس الدول ككل فحسب، بل أيضا النظم والقوي الاجتماعية والتكوينات تحت الوطنية التي تتشكل منها تلك الدول، مما يعني أحيانا بقاء الدولة كما هي بتكوينها، ومكوناتها، وأطرافها، أو سقوط بعض تلك المكونات، وصعود أخري، وتغير جزئي في تركيبة أو شكل وطبيعة الدولة، أو حتي انهيار الدولة بأكملها سواء بالتفكك والتقسيم، أو بالاحتراب الأهلي، أو بالضعف الشديد، والالتئام الشكلي.
الواضح أن هذا التسلسل ينطلق من شواهد التاريخ القريب، حيث لم يعد هناك مجال لشك في أن دول المنطقة ترفض بكل الوسائل إجراء تغيير أو إحداث تطوير حقيقي في بنية الدولة، وبالتالي سياساتها واتجاهات حركتها داخليا وخارجيا.
ومما يؤكد ذلك التحليل، أن الطرح الأمريكي المسمي "الفوضي الخلاقة" جاء في توقيت دقيق له دلالته. فواشنطن ظلت بعد احتلالها العراق في أبريل 2003 تسعي إلي استكشاف حقيقة المواقف العربية من إمكانية التغيير السياسي والاجتماعي الداخلي. لذا، تبنت علنا دعوة دول المنطقة إلي اتخاذ خطوات جدية في ذلك الاتجاه. بيد أن الاستجابات العربية كانت محدودة، وجزئية، وشكلية. ولم يكن لدي واشنطن دافع لإجبار الدول العربية على التغيير والإصلاح ما دام هناك شرطان متوافرين: استقرار الأوضاع الداخلية، ولو نسبيا، وعدم تبني سياسات مضادة لمصالح واشنطن. وذلك في ضوء المعروف من أن دعم وتأييد الولايات المتحدة للديمقراطية وحقوق الإنسان ليس ذات أولوية قصوي، مقارنة بالمصالح الاستراتيجية.
غير أن المأزق الذي واجهته واشنطن في العراق، بالإضافة إلي ظهور إشارات التقدم الإيراني في البرنامج النووي، فضلا عن اتجاه بعض النظم العربية إلي تكريس احتكارها للسلطة، بل وتوريثها، كل ذلك حدا بواشنطن إلي طرح فكرة "الفوضي الخلاقة" كوسيلة غير مباشرة لتعديل الأوضاع التي باتت تنذر بمخاطر على مصالح واشنطن، خاصة مع مستجدات مفاجئة ومربكة، مثل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وهو الحدث الذي مثل نقلة نوعية في التفاعلات، بل والتوازنات الإقليمية، فكانت المحصلة أن التطورات -داخليا وإقليميا- في المنطقة تدعو إلي التغيير بمداخل مبتكرة "خلاقة".
قد يفهم مما سبق أن الولايات المتحدة الأمريكية تقف وراء ما شهدته المنطقة من تحولات واضطرابات داخلية، عرفت باسم (الربيع العربي). غير أن هذا التفسير التآمري لا ينطبق بدقة هكذا على إطلاقه لعدة أسباب منها: أن فكرة أو آلية "الفوضي الخلاقة" تبلورت، وكشف عنها علنا الجانب الأمريكي بلسان كوندوليزا رايس في أبريل 2005، أي قبل هبوب رياح في الثورات العربية بست سنوات. كما أن واشنطن لم تتخل يوما عن دعم الأنظمة التي قامت ضدها الثورات، وذلك حتي اللحظات الأخيرة من عمر كل نظام.
ومن ثم، فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد هو: هل ما يجري في المنطقة الآن هو التطبيق العملي لفكرة "الفوضي الخلاقة"؟ وإذا كان ذلك صحيحا، فمن المسئول عن أيلولة الأوضاع إلي هذا الحال المتردي؟ وإذا أعلنت واشنطن تأييدها، أو دعوتها للفوضي الخلاقة صراحة، أو علنا وبشكل رسمي، فلماذا لم تتحرك دول المنطقة للحيلولة دون الانزلاق إلي تلك الحال الراهنة سواء كانت تجسيدا للتصور الأمريكي، أو تجري بمعزل عنه؟
لا شك في أن النظم العربية، سواء التي سقطت رءوسها أو تلك الباقية، مسئولة بشكل مباشر ورئيسي عن تدهور الأوضاع في دولها. فبينما كانت الشعوب تتطلع إلي قدرا ولو يسير، من الحرية والكرامة والحياة الآدمية، قابلت النظم تلك التطلعات بمزيد من القمع والامتهان والتشبث بالسلطة أيا كان ثمنها. وبالتالي، من غير المؤكد ما إذا كانت واشنطن متآمرة بشكل مباشر على الدول العربية، رغم الإتساق والتشابه بين التطورات السلبية الجارية ومضمون "الفوضي الخلاقة". لكن المؤكد أن الدول العربية -حكومات وشعوبا- قد أسهمت من حيث لا تدري في الاقتراب بالمنطقة من التصور الأمريكي المعلن منذ عدة سنوات، والمسئولية بينهما مشتركة، ولا تقع على النظم وحدها. فالشعوب، والقوي الاجتماعية والسياسية التي كان يفترض فيها العقل والرشادة قد لعبت دورا فاعلا في الانحراف بمسار الربيع العربي عن جوهره الإيجابي. فاختنق في منعطف ضيق لا يختلف كثيرا عن الدائرة الضيقة التي تتحرك فيها النظم، وهي دائرة الاستحواذ على السلطة، واعتبارها غاية وليست وسيلة لخدمة الشعوب، فضلا عن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه الثورات العربية، وهو عدم القضاء عمليا على نظم الحكم السابقة.
وعليه، فإن لم تكن الفوضي التي تعيشها المنطقة حاليا، هي ذلك النموذج المسمي "الفوضي الخلاقة"، فهي على الأقل تتسق معها وتقوم مقامها. ليس بالضرورة عن عمد أو تآمر من أي طرف، لكن -علي الأرجح- عن ضيق أفق، وخلل في قيمة ومفهوم الوطن عند الطرفين، ونظم الحكم السابقة، وكذلك القوي والجماعات المناوئة لها. أما الشعوب، ففي كل الأحوال هي الطرف المتضرر سواء في ظل نظم فاسدة مستبدة، أو بعد ثورات غير مكتملة، آلت إلي فوضي داخلية وإقليمية، إلا أنها -علي الأقل حتي الآن- لا دلائل على أنها بالفعل فوضي "خلاقة".