تشهد المنطقة العربية تحولات عميقة بعد الثورات طالت أثرها الدولة العربية، حيث بدأ البعض يطرح سيناريو تقسيم المنطقة إلى دويلات متناحرة، استنادا إلى أسس طائفية وعرقية تقضي على فكرة الدولة القومية التي تأسست في مرحلة ما بعد الاستعمار، لاسيما بعد بروز مؤشرات على انهيار سلطة الدولة القومية على أراضيها ولعل ما حدث في العراق، حيث سيطرت " داعش" على بعض المناطق يعيد الحديث عن احتمال السيناريو الأسوأ لتفكك المنطقة العربية.
في هذا السياق، عقد مركز بحوث الشرق الأوسط ندوة بعنوان "المخططات الغربية لتقسيم دول العالم العربي". ورأس الندوة دكتور جمال شقرة، مدير المركز، وتحدث فيها اللواء الدكتور طلعت موسى، المستشار بأكاديمية ناصر للعلوم العسكرية.
المصالح والأهداف:
في بداية الندوة، أشار الدكتور جمال شقرة، مدير مركز بحوث الشرق الأوسط، إلى أن هناك من ينكر الفكر التآمري، أو ما يعرف بنظرية المؤامرة، لكن ما تشهده المنطقة حالياً، سواء في ليبيا، أو العراق، أو السودان، أو سوريا، من أحداث دموية وعمليات تقسيم، يجعل هذه النظرية أمراً واقعياً ملموساً، وهو ما يتطلب معرفة مراحل تطور مشاريع التقسيم الغربية للمنطقة، وتهديدها للأمن القومي العربي عامة، والمصري خاصة، وسبل مواجهتها.
وفيما يتعلق بأهداف الدول الغربية من تقسيم المنطقة العربية، أشار اللواء الدكتور طلعت موسى، المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية، إلى تعدد هذه الأهداف وفقاً لمصالح كل دولة كالآتى:
أولاً- الولايات المتحدة الأمريكية:
أشار موسى إلى أن أبرز أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط تتمثل في الآتي:
1. السيطرة علي منابع البترول بالمنطقة، والتي تحوي أكثر من 68% من الاحتياطي العالمي.
2. الحفاظ علي بقاء وأمن إسرائيل بالمنطقة.
3. تعظيم دور إسرائيل وهيمنتها علي دول المنطقة، وأن تلعب دوراً مركزيا بين دول الإقليم.
4. استمرار وضمان سير الملاحة البحرية العالمية فى قناة السويس.
5. تعد المنطقة سوقا رئيسا كبيرا لتصريف المنتجات الأمريكية، حيث يزيد عدد سكان الدول العربية لأكثر من 400 مليون نسمة.
6. إشعال الصراعات المسلحة بين دول المنطقة لترويج تجارة بيع السلاح.
7. الحد من دور القوي الإقليمية، كي لا تؤدي دورا مؤثرا في السياسة العربية.
ثانياً- دول الاتحاد الأوروبي:
كما رصد "موسى" أهداف ومصالح دول الاتحاد الأوروبي في المنطقة، والتي انطوت على ضمان استمرار الإمداد بالنفط والثروات المعدنية كسلعة استراتيجية تقوم على أساسها الدول الصناعية، ومحاولة ضم المنطقة ضمن التوجه المتوسطي لتعظيم دور المجموعة الأوروبية، وضمان حرية الملاحة في الممرات الدولية ( قناة السويس)، مع الاحتفاظ بعلاقات قوية ومستدامة مع إسرائيل.
ثالثاً- مصالح إسرائيل بالمنطقة:
وتجسدت المصالح الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط، كما وصفها اللواء طلعت موسى، في استمرار تنفيذ السياسة الأمريكية بالمنطقة، ولعب دور قيادي في الشرق الأوسط، والحفاظ على التفوق النوعي والكمي في مواجهة الدول العربية من خلال منع تسليح دول المنطقة بالأسلحة الحديثة، بالإضافة إلى اختراق المجتمعات العربية، واستمرار العمل على تفريقها، وتوطين الفلسطينيين في الدول المجاورة.
ثالثا- آليات تحقيق المصالح الغربية بالمنطقة العربية:
وفيما يتعلق بآليات الدول الغربية لتحقيق استراتيجياتها في منطقة الشرق الأوسط، أشار "موسى" إلى اتباع هذه القوى لعدد من الآليات الممنهجة والمتبعة في معظم ملفات وقضايا المنطقة، وهي كالآتى:
1. نشر مبدأ الفوضى الخلاقة بين دول المنطقة: من خلال تفكيك المؤسسات الرسمية، ومنظمات المجتمع المدني، وإثارة الخلافات العرقية، والطائفية، والدينية بين أبناء الدولة، لكي يتحقق إسقاطها من الداخل باستخدام القوى الناعمة دون تدخل خارجي.
2. إقامة علاقات مزدوجة مع نظام الحكم الرسمي وغير الرسمي :بحيث يتم دعم سياسات الحكومة الرسمية، وفي الوقت نفسه إقامة علاقات مع جميع العناصر المناوئة لنظام الحكم الرسمي من أحزاب معارضة، ومنظمات المجتمع الرسمي، وذلك من خلال الزيارات المتبادلة، وإقامة دورات تدريبية لهذه العناصر في معاهد أجنبية، ودعمها مادياً بتقديم مساعدات مالية مباشرة، أو تسهيل القروض.
3. استخدام سياسة القوى الناعمة: أي عدم الاعتماد على القوة العسكرية فقط في حسم القضايا، وإنما توظيف آليات أخرى لا تقل تأثيراً مثل الإعلام، والمجتمع المدني، وشبكات التواصل الاجتماعي، وتنظيم التظاهرات.
4. سياسة ازدواجية المعايير: أي استخدام معيارين للحدث نفسه. ففي الوقت الذي ضربت فيه الولايات المتحدة مبادئ حقوق الإنسان عرض الحائط، إبان تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وراحت تنادي بإغلاق منظمات المجتمع المدني، وطرد الجمعيات الإسلامية من الولايات المتحدة، وتبني معاملة خاصة للعرب والمسلمين في المطارات والموانئ، إلا أنها تبنت سياسة مغايرة تجاه تفجيرات قصر العيني في مصر عام 2011، وهددت الولايات المتحدة بقطع المعونة، موازاة مع الهجوم الإعلامي المكثف على المجلس العسكري آنذاك.
5. سياسة العصا والجزرة (المكافأة والعقاب): فعلى سبيل المثال، تعمل السياسات الغربية على حصر مستوى التقدم والتنمية للدول النامية بين خطين:
- إذا ما حدث ارتفاع لمعدلات النمو في الدول العربية، فإن ذلك يستتبعه بالضرورة ارتفاع في الدخل القومي، ومستوى المعيشة، مع حدوث تقدم علمي وتكنولوجي، ينتج عنه استقلال في القرار السياسي. وهنا، تقوم القوى الغربية بقطع المساعدات والمعونات، وفرض قيود على استيراد التكنولوجيا، وإذكاء الخلافات العرقية والطائفية، ومهاجمة منشآت اقتصادية بعينها، بالإضافة إلى تفجير دور للعبادة، والمنشآت السياحية، لإعطاء انطباع عام بعدم الاستقرار.
- أما إذا انخفض المستوى عن الحد المسموح به لمعدل النمو، فإن ذلك يؤدي إلى انتشار البطالة، والتطرف، والإرهاب الذي يقود إلى الجريمة المنظمة، الأمر الذي تراه القوى الغربية تهديداً لأمنها القومي، بحسبانه يعمل على تصدير التطرف والإرهاب إلى الدول الغربية، وزيادة معدلات الهجرة غير الشرعية إليها، مع انخفاض السوق الشرائية للدول العربية. وعندئذ، تقوم هذه الدول بتقديم تسهيلات، وعقد اتفاقيات تعاون، ومنح القروض للتغلب على هذه الظواهر، طبقا لمصالحها الخاصة.
المشروعات الشرق أوسطية لتقسيم المنطقة العربية:
أوضح اللواء موسى تعدد وتنوع مشروعات تقسيم الشرق الأوسط، مؤكداً قدم هذه المشاريع، والتي ترجع إلى الثمانينيات، من خلال مشروع الدكتور "برنارد لويس" الذي وافق عليه الكونجرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية عام 1983، وتمَ تقنينه واعتماده وإدراجه في ملفات استراتيجية السياسة الأمريكية للسنوات المقبلة.
وفي عام 1994 ، قام شيمون بيريز بتأليف كتاب بعنوان "الشرق الأوسط الجديد" عقب توقيع اتفاقية السلام في أوسلو عام 1994، يعرض فيه تصوراً لنظام إقليمي جديد بعد حلول السلام في المنطقة، يعتمد علي انفراد إسرائيل بالهيمنة على المنطقة، من خلال إنشاء بنية تحتية للاتصالات والمواصلات، وتطوير السياحة، والانتقال من اقتصاد الصراع إلى اقتصاد سلام، يقوم على عدة أركان كالآتى:
- إنشاء شبكات طرق وخطوط سكك حديدية تربط دول المشرق العربي بالمغرب العربي، تكون إسرائيل مركزاً لها.
- إنشاء عدد من المطارات الضخمة لربط آسيا بأوروبا عبر إسرائيل.
- إنشاء قناة إسرائيلية- أردنية مشتركة تربط البحر الأحمر بالبحر الميت.
- إقامة نظام إقليمي يعتمد على مد خطوط أنابيب نقل المياه.
- تطوير البنية التحتية السياحية، والتركيز على غزة لتكون مدينة سياحية.
- إنشاء مشروعات ضخمة لتحلية مياه البحر.
أما المشروع الثالث لتقسيم المنطقة، فقد تمثل في مشروع الشراكة الأورو-متوسطية، كما أوضح اللواء طلعت موسى، والذي اقترحته إسبانيا عام 1995 خلال مؤتمر برشلونة الأورو-متوسطي، الذي نظمه الاتحاد الأوروبي بهدف تعزيز العلاقات بين البلدان المطلة علي البحر المتوسط، والمتمثلة في دول غرب آسيا، ودول شمال إفريقيا.
وأخيراً، يأتى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته إدارة الرئيس، جورج بوش الابن عام 2004 في مؤتمر قمة الدول الصناعية الكبرى، حيث تم توزيع 114 مشروعا على الدول الصناعية الثماني لتختص كل دولة منها بتنفيذ هذه المشروعات فى عدد من الدول المعنية، مع تخصيص الميزانيات اللازمة لتنفيذ هذه المشروعات، وتم تحديد ما يخص كل دولة من منطقة الشرق الأوسط من المشروعات.
وانطوى المشروع على عدد من المحاور، أهمها: تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح، ومبادرة الانتخابات الحرة، وعقد زيارات متبادلة وتدريب على الصعيد البرلماني، وإنشاء معاهد للتدريب على القيادة، خاصة بالنساء، بالإضافة إلى طرح مبادرة وسائل الإعلام المستقلة، وتشجيع منظمات المجتمع المدني.
وألمح "موسى" إلى أن أغلب المشاريع الغربية لتقسيم المنطقة استندت إلى أن يكون التقسيم بناء على أسس عرقية وطائفية ودينية لضمان عدم نهوض أي من دول المنطقة.
مستقبل المنطقة في ظل السياسات الغربية:
أكد اللواء طلعت موسى أن الدول العربية اعتمدت، خلال العقود السابقة، على سياسة رد الفعل والتسكين على المشاكل، وهو ما جعل المنطقة فريسة لما يحاك لها من مخططات. لكنه يرى أن المستقبل ينبئ بأن هذه الاستراتيجية قد تغيرت، وبدأت تضع ردود فعل الشعوب في الحسبان، مشيراً إلى أن هناك توازن قوى جديدا يعد له الآن في المنطقة، وسيأخذ مبدأ المقاومة في العديد من القضايا مثل مكافحة الإرهاب، وإعادة القومية العربية، والالتفاف حول زعيم عربي ليكون بمنزلة رمز لهذه القومية.
وفي إجابة على مداخلة للإعلامية حياة عبدون بخصوص حقيقة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، أكد اللواء طلعت موسى عدم وجود تعارض بين الدولتين، مشيراً إلى وجود محادثات سرية بين الولايات المتحدة وإيران حول اتفاق (5+1) جرت في إحدى دول الخليج العربي، وهي عمان، موضحاً أن الاتفاق يعد بمنزلة اعتراف ضمني بامتلاك إيران للسلاح النووي، واصفاً ما يروج له إعلامياً من عداء بين الولايات المتحدة وإيران بأنه مجرد تمثيلية، وما وراء الكواليس شىء آخر.
وأكد موسى أنه لا تعارض بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، لأن الدول الثلاث لديها هدف واحد في المنطقة، هو عد قيام الدولة العربية الموحدة. وأوضح أن من يريد من الدول العربية إقامة علاقات مع إيران، سوف يضع نفسه أمام ثوابت السياسة الإيرانية، وهي: الاستعلاء، والاستكبار، ونشر المذهب الشيعي، والتوسع (احتلال الجزر الإماراتية، والمطالبة بأن تصبح البحرين المحافظة رقم 14 الإيرانية).
أما بخصوص الموقف القطري المعادي لمصر، فقد وصف موسى قطر بالتي تغرد خارج السرب، مشيراً إلى أنها أكبر ممول للإرهابيين في العالم كله، ظناً منها بأن ذلك سوف يجعلها قوة كبرى في المنطقة توازي قوة إسرائيل.
وفي ختام الندوة، أشار الدكتور جمال شقرة إلى أن مصر واجهت في التاريخ القديم ما هو أسوأ مما تمر به حالياً، وتجاوزته، كما أن الوثائق الأمريكية المفرج عنها أخيرا كشفت حجم المؤامرات التي تعرض لها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي لم يتوان حتى بعد الهزيمة، وقام بتوجيه ضربات قاصمة لإسرائيل في حرب الاستنزاف، والتي قالت بشأنها جولدا مائير: " إنني على استعداد لأن أذهب لأبعد مكان في الدنيا، ولو كانت القاهرة ذاتها لإيقاف حرب الاستنزاف"، وهو ما يؤكد أن مصر ستخرج منتصرة من محنتها الحالية، وستكون القشة التي ستكسر ظهر الإمبراطورية الأمريكية، مثلما كانت القشة التي كسرت ذيل الإمبراطورية البريطانية.