لا ينافس جرائم المجتمع الدولي ممثلاً في هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة بحقوق العرب عامة والشعب الفلسطيني خاصة غير جرائم العرب بحق أنفسهم . فمنذ اعتراف الأمم المتحدة بالكيان الصهيوني بذلك القرار المشؤوم الصادر في 15 مايو/أيار عام 1948 لم يتوقف انحياز هذه المنظمة الدولية للكيان الصهيوني بدعم وضغوط من الدول الغربية دائمة العضوية في مجلس الأمن خاصة الولايات المتحدة، حيث أجهضت كل القرارات التي صدرت عن المنظمة الدولية لمصلحة الشعب الفلسطيني ولم ينفذ أي منها حتى الآن، ومن أشهرها بالطبع القرار 242 الصادر عقب عدوان يونيو/حزيران عام 1967 . فالقرار الذي جرت صياغته بغموض متعمد ودعا إلى الانسحاب "الإسرائيلي" من أراض احتلت عام ،1967 واعتبر مرجعية أساسية للتسوية لم ينفذ حتى الآن، ولم تنفذ القرارات الخاصة بحق عودة اللاجئين أو رفض الاستيطان وغيرها أيضاً، وعندما تجرأت منظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة بوصف "الصهيونية" ب"العنصرية" أقامت الولايات المتحدة وقبلها الكيان الصهيوني ومؤسسات الإعلام الغربي الدنيا ولم تقعدها إلا بعد إلغاء القرار، واستخدمت الولايات المتحدة معوناتها المالية لهذه المنظمة التي تعنى بشؤون الثقافة كورقة ضغط لإجبارها على التراجع عن قرارها وعدم التورط مرة أخرى في شؤون السياسة وبالتحديد كل ما لا ترضى عنه واشنطن .
وفي المقابل لم يفعل العرب أي شيء له معنى لتغيير هذا الواقع، ولم يتمكنوا حتى الآن من تحرير الأرض التي احتلت عام ،1967 وعندما نجحوا في تحرير أجزاء منها عام ،1973 أهدروا بالسياسة ما كسبوه بالحرب .
وإذا كانت مصر السادات قد أخذت الدور الرائد في هدر المكاسب والتفريط في الثوابت بتوقيع معاهدة السلام عام 1979 مع الكيان الصهيوني، فإن النظام العربي كله ومنذ عام 1982 بالتحديد، أعلن انحيازه لما سمي ب"خيار السلام" كخيار استراتيجي وجرى بند "خيار المقاومة" بل جرى أيضاً بند "خيار المقاطعة" للكيان كما جرى توقيع معاهدات سلام موازية للمعاهدة المصرية (وادي عربة وأوسلو) ودخلت دول عربية في أنشطة تطبيع منظورة أو سرية مع الكيان الصهيوني .
رغم كل ذلك لم يكن أحد يتوقع أن يصل أمر التفريط في المبادئ لدى الأمم المتحدة والدول العربية إلى حد هذا التضليل غير المسبوق للعالم كله المتمثل في انتخاب الكيان الصهيوني بكل ما يمثله من ذروة الاستعمار الاستيطاني نائباً لرئيس اللجنة الرابعة التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بالمسائل الخاصة بتصفية الاستعمار بترشح من المجموعة الإقليمية لدول غرب أوروبا حتى إعلان هذا الترشح المشؤوم كان الكيان الصهيوني يصنف باعتباره آخر رموز الاستعمار وبالذات الاستعمار الاستيطاني بعد سقوط رمزه الأول في جنوب إفريقيا، لكن بهذا الترشح، الذي يعد عنواناً لأسوأ أنواع الدراما السوداء، سيكون على أسوأ أشكال الاستعمار أن يباهي بدوره المنتظر في تصفية الاستعمار وربما قيادة حركة التحرر في العالم، على نحو ما يفعل فعلاً في محاولة قيادة معركة أخرى مشابهة وهي معركة الحرب على الإرهاب من خلال الترويج إلى أن الحروب لم تعد بين الدول ولكنها أصبحت بين الدول ومنظمات الإرهاب، وأن الإرهاب هو التحدي الأول والأهم الذي يواجه دول العالم والذي يجب أن يحظى بأولوية أممية .
هل سيصمت العرب على هذه الجريمة؟
حتى الآن الصمت هو سيد الموقف، وربما لم تعرف معظم وزارات الخارجية العربية بهذا الأمر، ولا الجمعيات الأهلية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني العربية باستثناء تلك الرابطة المحترمة "للنساء معيلات الأسر" في موريتانيا وحدها هذه الرابطة النسائية الموريتانية هي التي عرفت وأدانت وتحركت ضد هذا الترشح الذي رأته يتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة، وخصوصاً مع مصداقية اللجنة المعنية بتصفية الاستعمار التي كان يجب أن يكون على رأس أولوياتها تصفية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة . فهذه اللجنة وفي ظل هذا الترشح لن تكون قد أنهت وللأبد مهمة تصفية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بل ستكون قد أعطت صك البراءة للكيان وربما تصدر اعتذاراً علنياً وأسفاً على أي إساءة قد تكون قد تسببت بها سهواً أو عمداً لهذا الكيان .
هل كان أحد يتصور حدوث ذلك من الجمعية العامة للأمم المتحدة؟
رغم كل المرارات فإن السؤال الأسوأ هو: هل كان أحد يعتقد أن العرب سوف يصمتون على هذه الجريمة؟
والإجابة نعم، كل هذا ليس غريباً طالما أن بعضهم اعترف بالكيان، ودخل معه في شراكات منظورة أو غير منظورة، وقبل بالسلام معه، وتجاهل كل جرائمه وجعل الصراع معه تاريخاً مضى زمنه وقلصّ هذا الصراع إلى مجرد نزاع فلسطيني - "إسرائيلي" لم يعد طرفاً فيه، والأسباب كثيرة لم تعد مجهولة لأحد، وهي ذاتها الأسباب التي تدفع قادة الكيان الصهيوني الآن إلى الإصرار على تحويل الكيان إلى "دولة يهودية" ووطناً لكل يهود العالم، وفرض ذلك على الفلسطينيين والعرب، وهي أيضاً الأسباب نفسها التي تشجع هؤلاء القادة على العبث بكل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وتراثه الوطني وتحفزه على التعامل مع الضفة الغربية ليس باعتبارها أرضاً محتلة خاضعة لقرارات معاهدة جنيف وقواعد القانون الدولي ولكن باعتبارها "أرض "إسرائيل"" لقد فعلوا ذلك أولاً مع القدس والآن بدأوا في السعي لفرضه على الضفة الغربية أيضاً .
دليلنا على ذلك أن الحكومة "الإسرائيلية" بدأت باعتماد إجراءات من شأنها عرقلة مهمة طرد المستوطنين عنوة لتسهيل البناء الاستيطاني في الضفة الغربية . هذه الإجراءات بدأتها الحكومة رغم أنها لم تقر رسمياً أخذاً بتوصيات لجنة القاضي المتقاعد "إدموند ليفي" التي تقضي بإقامة محاكم خاصة للبت بالنزاعات التي تنشأ حول الأراضي في الضفة الغربية وتقليص استخدام أوامر الإخلاء ضد المستوطنين، حسب ما أوردته صحيفة "هاآرتس" التي ذكرت ذلك في موقعها الإلكتروني (27-5-2014)، ووفق هذه الإجراءات الجديدة لن يكون من حق الفلسطينيين التوجه إلى ما يسمى "الإدارة المدنية"، بل إلى المحكمة المختصة التي ستقام لهذا الغرض، فضلاً عن تقليص استخدام الأمر القضائي الذي يخول رئيس الإدارة المدنية سلطة طرد مستوطنين قاموا بالغزو والسيطرة على أراض خاصة حتى لو لم يتقدم أصحاب الأرض بشكوى وخلفية هذا كله ما نصت عليه توصيات لجنة ليفي المذكورة وخاصة ما تقرره هذه التوصيات من أن "الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة" .
وإذا كان العالم يتآمر مع الكيان في هذه الجريمة منذ إعلان تأسيسه وإذا كانت معظم أنظمة الحكم العربية قد أرهقت هي الأخرى بأعبائها، وإذا كانت أطراف عربية قد انشغلت بهمومها فإن الشعب الفلسطيني سيظل يبث الأمل على أرض فلسطين، بدليل أن الكيان وهو يجتاح الضفة ويعتقل المئات بحثاً عن ثلاثة إرهابيين استعماريين اختطفوا، نجد الشعب الفلسطيني على الطرف الآخر يعّد ويرتب لانتفاضة جديدة ستكون أرض فلسطين هي ساحتها في صورة بليغة تكشف ذروة المتناقضات التي تجري على تلك الأرض
---------------------
* نقلا عن دار الخليج، الثلاثاء، 1/7/2014.