يمثل الوضع الأمني المتفاقم في العراق القلق الأكبر في الوقت الحالي بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي. ففي غضون أيام معدودة، سيطر تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش"- على ثاني كبرى المحافظات العراقية، وهي محافظة الموصل، إضافة إلى سيطرته على عدة أماكن أخرى، وسط تقارير تحذر من احتمالات اتجاهه نحو العاصمة العراقية، بغداد، ما لم تتوحد الفصائل العراقية المختلفة خلف الجيش العراقي في التصدي لتمدد التنظيم، واستعادة السيطرة على محافظة الموصل وغيرها من الأماكن التي استولى عليها.
وبعيداً عن تعقيدات المشهد العراقي الداخلي، والذي لا يزال مفتوحا على الاحتمالات كافة، فإن هذا التحليل يناقش البعد الإقليمي للأزمة الأمنية المتفاقمة في العراق، وتحديداً التداعيات المحتملة لها على دول مجلس التعاون الخليجي، من خلال الوقوف على أبعاد القلق الخليجي مما يجري في العراق، وكذلك التعرف على الملامح العامة للموقف الخليجي مما يحدث في الأخير.
أولاً- أبعاد القلق الخليجي من الوضع الأمني في العراق:
على الرغم من أن الأزمة الأمنية المتفاقمة في العراق لا تزال محصورة في الداخل العراقي بالأساس، فإنه يمكن رصد عدة مؤشرات رئيسية توضح أبعاد القلق الخليجي مما يحدث في العراق على النحو الآتى:
- إثارة النعرات الطائفية والمذهبية في المنطقة:
إن أول مخاطر ما يحدث في العراق بالنسبة لأمن دول مجلس التعاون الخليجي يكمن بشكل أساسي في الخطر الطائفي الذي تكرسه هذه الأزمة، ليس فقط في العراق، وإنما في منطقة الخليج ككل، بالنظر إلى العديد من التحليلات التي تُرجع نشأة الأزمة الجارية في العراق إلى عوامل طائفية بالأساس ترتبط بسياسات التهميش والإقصاء الطائفي التي اتبعتها حكومة المالكي في العراق، وهي بيئة مثالية تنشأ فيها التيارات المتطرفة، مثل تنظيم داعش.لذلك، ظهرت في الأيام القليلة الماضية تقارير أمنية تحذر من أن احتمالات دخول المنطقة في نوع من الحرب المذهبية تظل قائمة، بما يحمله ذلك من مخاطر فعلية على أمن دول الخليج العربية التي توجد بها أقليات شيعية تختلف نسبتها من دولة إلى أخرى.
وتبدو المشكلة أيضاً في أن الجهود المبذولة حتى الآن في التعامل الأزمة تكرس الخطر الطائفي أكثر من معالجتها للأزمة. فرئيس الحكومة العراقية، نوري المالكي، عندما فشل في فرض حالة الطوارئ، نتيجة عدم اكتمال النصاب القانوني اللازم لعقد جلسة للبرلمان، نادى بتكوين جيش رديف من الميليشيات للدفاع عن العراق أمام تنظيم داعش. أما إيران، فأرسلت – وفق العديد من التقارير- عناصر من "الحرس الثوري" الإيراني لدعم المالكي، والإسهام في تأسيس الميليشيات الجديدة وتدريبها، كما فتحت مراكز التسجيل للمتطوعين الذين يريدون الذهاب للقتال في العراق، تحت شعار سمته "الدفاع عن المراقد الشيعية في كربلاء، والنجف، وبغداد، وسامراء".
الأسباب الطائفية في نشوء الأزمة، وكذلك السياسات الطائفية في معالجتها – وفق بعض التقديرات الأولية- تبدو كافية لتحريك عدد من مواطني الدول الخليجية من الطائفتين السنية والشيعية للذهاب إلى العراق، تحت شعار الدفاع عن المقدسات الدينية، وهو أمر ليس بجديد على دول الخليج. فقد برزت خلال الفترة الأخيرة، بشكل لافت، قضية توجه مواطني بعض الدول الخليجية للقتال في سوريا، ويمكن أن يتكرر ذلك الآن مع العراق، لتتكرر أيضاً مع دول الخليج مأساة أخرى مشابهة لما حدث بعد احتلال العراق في مارس 2003، وما سمي فيما بعد بـ "العائدين من العراق"، وما يحدث حالياً في الأزمة السورية، وما يسمى أيضاً بـ "العائدين من سوريا". فتقديرات وزارة الداخلية السعودية، على سبيل المثال، تشير إلى أن نحو 1200 سعودي انضموا إلى متشددين إسلاميين في المعارك الدائرة في سوريا، من ضمن نحو 11 ألف مقاتل أجنبي ينتمون لنحو 70 دولة.
- تنظيم داعش واستهداف دول الخليج:
إضافة إلى الخطر الطائفي، ثمة مؤشرات واضحة بدت، خلال الفترة الأخيرة، تؤكد أن مخاطر تنظيم داعش لا تقتصر على الداخل العراقي فقط، وإنما قد تمتد إلى دول المنطقة، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، على نحو ما تعكسه الخريطة الجديدة للعراق التي نُشِرت أخيرا من قبل التنظيم، والتي شملت حدودها دولة الكويت، مما دفع وكيل وزارة الخارجية الكويتي، خالد الجار الله، إلى التعليق قائلاً ''لقد أشرنا إلى خطورة الموقف في العراق سابقا، وداعش لا تستهدف الكويت فقط، وإنما المنطقة بأكملها، والخريطة التي نشرت تؤكد هذا الكلام''، مؤكدا أن ''الخطر موجود، وعلينا الحذر، وعلينا التحرك بشكل جيد على مستوى التنسيق الأمني بما يحصن جبهتنا الداخلية في دول التعاون''.
الفكرة الرئيسية التي يتبناها الموقف الكويتي هنا مفادها أن قوى الإرهاب لا تستهدف دولة دون أخرى، وإنما مخططها يشمل المنطقة برمتها. وفي إطار ذلك، تتحرك بشكل تكتيكي مستغلة بعض الاضطرابات في بعض المناطق لبناء قواعد انطلاق إلى كل أنحاء المنطقة. والبعض يستذكر هنا التهديد الذي أطلقته، في مايو الماضي 2014، مجموعة من مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام - داعش"- بالتمدد إلى الدول الخليجية، ردا على الإجراءات الأخيرة التي أقرتها بعض الدول الخليجية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، لمكافحة الإرهاب بشأن العائدين من سوريا.
في هذا الإطار، ظهرت أخيرا تحذيرات أمنية بأنه يتم التخطيط والتنسيق مع عدد من "المجاهدين" القادمين من دولهم من الملتحقين بتنظيم "داعش" بأن يقوموا بعمل تفجيرات في المؤسسات الحكومية في دول الخليج، وضرب هذه المناطق الآمنة، حتى إن أحد نواب مجلس الأمة الكويتي، وهو النائب صالح عاشور، حذر من أن ما لا يقل عن عشرين ألف مقاتل خليجي وعربي اتخذوا القرار بالانتقال إلى الكويت.
- مخاطر انتقال العدوى إلى مناطق أخرى:
ما قام به تنظيم داعش في العراق يمثل نموذجا واضحا لسعى بعض الجماعات الدينية الراديكالية لفرض سيطرتها على مناطق جغرافية بعينها عبر تطبيق الشريعة الإسلامية، وفقًا لتفسيراتها المتشددة، على نحو يجعلها مناطق خارج سيطرة الدولة. ووفق بعض التقديرات، "فإن انتشار هذا النمط في العراق يفرض تهديدات عديدة، ليس فقط بسبب تداعياته السلبية على بنية الدولة الوطنية التي تنشأ فيها، وإنما أيضًا بسبب الأثر الانتشاري الذي قد يحدث نتيجة نجاح تجربة تأسيس إمارة ما دون تمكن الدولة من مواجهتها".
وبديهي أن نجاح هذا "النموذج العراقي"، وعدم التصدي لتنظيم داعش، يحملان مخاطر أمنية عديدة على دول مجلس التعاون الخليجي.وعلى الرغم من أن أيا من هذه الدول ليست مرشحة بالطبع لاستنساخ السيناريو العراقي- إذ يمكن أن يُطرح ذلك فقط في حلقات النقاش الأكاديمية، وإدارات التقييم في المؤسسات الرسمية، كسيناريو سيئ يرتكز على تصورات نظرية أكثر مما يرتبط باحتمالات واقعية- فإن عدم وضع حد سريع وعاجل لتنظيم داعش في العراق سيجعل التداعيات بالنسبة لدول الخليج المجاورة مفتوحة على احتمالات عديدة، قد يكون من بينها سعي هذا التنظيم إلى خلق ظهير قوي له في إحدى هذه الدول، عبر آلية التجنيد عن بعد.
ورغم استبعاد البعض هذا السيناريو بالنظر إلى الإجراءات الأمنية الاحترازية التي اتخذتها دول المجلس أخيرا بشأن انخراط المواطنين في القتال بالخارج، أو بشأن عودة المقاتلين في الخارج، سواء من سوريا أو غيرها، فإنه يظل سيناريو قائما وغير مستبعد بشكل نهائي. فالطريقة التي سيطر من خلالها تنظيم داعش على ثاني كبرى المدن العراقية، وبعدد قليل جدا من القوات في مواجهة أضعاف هذا العدد من القوات الحكومية، تنبه إلى ضرورة أخذ جميع الاحتمالات الممكنة في الحسبان، وتوضح أن ثمن تجاهل احتمالات حدوث ما لا يمكن تصديقه منطقياً قد يكون هائلاً، خاصة أن الأمر هنا يتعلق بجماعات مسلحة تتبني نهجا طائفيا في أكثر مناطق العالم التي عانت ويلات الطائفية، وهو أمر يحمل معه تداعيات محتملة خطيرة على أمن دول الخليج إلى درجة لا يمكن معها تحمل تكلفة خطأ التقدير.
الأمر الآخر الأكثر أهمية وخطورة على هذا الصعيد يتمثل في أن نجاح نموذج داعش في العراق يمكن أن يغري بتكراره في دولة أخرى مهمة بالنسبة لدول الخليج، هي اليمن، من قبل تنظيم القاعدة، الذي يمتلك نفوذا واسعا في هذه الدولة، وتتوافر في الأخيرة شروط تكرار التجربة العراقية، والتي يُجملها البعض في "ضعف قدرة الدولة على بسط نفوذها على المناطق الطرفية والحدودية، والفراغ السياسي والأمني الناتج عن اتساع النطاق الجغرافي للمناطق التي تسيطر عليها بعض الميليشيات داخل الدولة التي تشهد صراعات داخلية، وزيادة معدلات التوظيف السياسي للشعارات الدينية، وانتشار المد القاعدي الأصولي، بالتوازى مع ضعف الخطاب الديني الوسطي". ولا شك في أن تكرار هذا النموذج في اليمن يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي للمملكة العربية السعودية تحديداً بحكم الجوار الجغرافي، وتماس الحدود بين الدولتين.
- تثبيت وضع داعش في مجريات الأزمة السورية:
المملكة العربية السعودية صنفت أخيرا تنظيم داعش في سوريا كجماعة إرهابية– ضمن جماعات أخرى شملها هذا التصنيف- وحاولت من خلال سياساتها تجاه الأزمة السورية إضعاف هذا التنظيم في الداخل السوري في مواجهة جماعات المعارضة السورية الأخرى "الأكثر اعتدالاً". إلا أن نجاح التنظيم في السيطرة على عدة أماكن استراتيجية في العراق سيعمل على تثبيت وضعه ونفوذه في مجريات الصراع العسكري الدائر في سوريا.
وتبدو المشكلة الكبرى هنا في أن سقوط محافظة نينوى، على وجه الخصوص، في أيدي التنظيم يعد حدثا بالغ الأهمية، سواء من الناحية الاستراتيجية، أو من الناحية السياسية، ليس فقط لمساحة المحافظة الجغرافية، أو لموقعها القريب من كردستان، ولكن لكونها تساعد على خلق ممر يربط بين الموصل والأنبار والحدود السورية، مما يسهل تسلل المقاتلين، والسلاح، والأموال بين الدولتين، بما يصب في مصلحة دعم التنظيم في كلتا الجبهتين العراقية والسورية.
- مشكلة اللاجئين العراقيين:
إضافة إلى الأبعاد السابقة، ثمة بعد أمني وإنساني آخر يبدو أنه يسبب قلقا للكويت أكثر من أي دولة خليجية أخرى بحكم الجوار الجغرافي مع العراق، ويتمثل في أزمة اللاجئين أو النازحين من المناطق التي استولى عليها تنظيم داعش في العراق، حيث تشير بعض التقارير الأولية إلى أن أكثر من150,000 شخص قد غادروا مدينة الموصل وحدها.
ثانياً- قراءة في المواقف الخليجية الأولية تجاه ما يحدث في العراق:
حتى الآن، لا يمكن القول إن موقفا خليجيا واضحا تبلور تجاه ما يحدث في العراق، فالكويت دعت إلى تنسيق أمني بين دول مجلس التعاون الخليجي لتحصين الجبهة الخليجية الداخلية ضد احتمالات تمدد التنظيم داخل دول الخليج، فيما عبرت المملكة العربية السعودية عن أسفها البالغ للأحداث الجارية في العراق، ودعت إلى تنسيق دولي لمواجهة ظاهرة الإرهاب، ورأت أن الإرهاب يعد من أخطر التحديات التي تواجه المجتمع الدولي، وطالبت في السياق ذاته المجتمع الدولي بسرعة اتخاذ الإجراءات المناسبة لإنهاء الأزمة السورية، بحسبانها السبب الرئيسي في خلق العديد من البؤر الإجرامية.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة، فاستنكرت على لسان الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية ،ما ترتكبه العناصر الإرهابية من ترويع الأهالي ،وتدمير الممتلكات في العراق، ودعت إلى التصدي له ،والتعاون الإقليمي والدولي الفاعل في التحرك.
هذه المواقف الأولية تعكس بشكل أو بآخر أن هناك إدراكا خليجيا لمخاطر التنظيم على دول الجوار، فالحدود بين العراق ودول الخليج قد تسمح بتسلل عناصر من ذلك التنظيم إلى تلك الدول، خاصة دولة الكويت، والمملكة العربية السعودية. غير أن هذا الإدراك لم تتم ترجمته بعد في موقف واضح بشأن التعامل مع التداعيات المحتملة الأزمة.
فعلى سبيل المثال، لم توضح دول المجلس بعد موقفها النهائي بشأن تقديم مساعدات أمنية للجيش العراقي في التصدي للتنظيم، خاصة أن هناك وسائل إعلام عراقية أشارت أخيرا إلى أن الحكومة العراقية طلبت من الكويت ودول الخليج مساعدات عسكرية سريعة لمواجهة "داعش"، رائية أن خطر التطرف ليس محصورا في منطقة دون أخرى، وأن أمن واستقرار العراق هو مصلحة إقليمية بالدرجة الأولى. أيضاً، لم توضح دول الخليج موقفها بشأن قيام أطراف إقليمية أخرى، مثل إيران أو تركيا، بتقديم مساعدات عسكرية للعراق.
دول الخليج حتى الآن ربما تكون مكتفية بالإجراءات الأمنية الاحترازية في التعامل مع انخراط مواطنين خليجيين في أعمال قتالية في الخارج. فالمملكة العربية السعودية سنت قانونا ينص على عقوبات مغلظة لمن يتوجه للمشاركة في أعمال قتالية خارج البلاد، كما شن الإعلام حملة على من يحرض الشباب على ذلك، خصوصا من الدعاة.
وفي دولة الكويت، ثمة تنسيق قائم بين وزارتي الداخلية والدفاع في رصد أي أشخاص لديهم ارتباط بصورة أو بأخرى مع تنظيم داعش، واتخاذ ما يلزم من إجراءات حيال هؤلاء. وهناك إجراءات أخرى مماثلة في دول مجلس التعاون الأخرى.
الارتكان إلى مثل هذه الإجراءات يبدو أمرا غير كاف في التعامل مع أزمة أمنية بحجم تلك التي يشهدها العراق، فالأمر يتطلب اجتماعات عاجلة لمسئولي الأمن والدفاع في دول مجلس التعاون الخليجي للتنسيق فيما بينهم، والاتفاق على البدائل المختلفة في التعامل مع التداعيات المحتملة لتطور الأوضاع في العراق، وضرورة أن يتم تقييم تلك البدائل بشكل منتظم، وفقاً لما تشهده الساحة العراقية من مستجدات. فالأزمة العراقية مرشحة لأن تأخذ منحنى إقليميا أكثر عمقاً، نظراً لمخططات داعش الإقليمية، وسعيها لإقامة إمارة إسلامية.
وكما سبقت الإشارة، يكمن الخطر الإقليمي الكبير للأزمة في أبعادها الطائفية المرشحة للتفاقم، إذا سُمح لتنظيم داعش بأن يتقدم ويسيطر على مناطق أخرى في العراق، وهو ما يمكن أن يُدخل العراق في دائرة الحرب الأهلية الطائفية، وما قد يحمله ذلك من تهديدات مباشرة لأمن دول مجلس التعاون الخليجي.