لم يكن ليخلف الاستعمار والاحتلال إلا الدولة الطائفية القائمة على الشقاق الداخلي والنزاع والصراع، وإذا كانت مثل هذه الدولة هي ترتيب أمريكي مستمر للعراق فيما بعد الرحيل الذي كان في عام ،2011 فها هي أحداث شمال العراق تكشف عن المحدودية الشديدة للدولة الطائفية وعجزها عن أداء أقل وظائفها المتوقعة، ومن ثم محدودية المشروع الأمريكي في العراق بل وإنهياره الواضح للعيان .
لم يكن خافياً مدى خيبة الإدارة الأمريكية في حكومة المالكي وفي عراق خسرت عليه وفيه الكثير من الأرواح والمال والجهد، حين عجزت دولته أو حكومته عن مواجهة تحدٍ مثل داعش . ولم يكن العجز أو الفشل عسكرياً بالطبع، بل كان سياسياً ناتجاً عن بنيوية في طبيعة النظام .
إن ضعف الدولة الطائفية الحالية في العراق هو ضعف مكتوب ومحسوب، وذلك لئلا يكون العراق مستقبلاً كياناً سياسياً قوياً يملك استقلاله وقوته بالنسبة لمحيطه الإقليمي والدولي .
لقد بني العراق الجديد أمريكياً ورسم مصيره على أن يكون بيد القوى الأكبر إقليمياً . وفي الداخل تأسست تركيبته التي صاغها بول بريمر على ضعف المؤسسات والوحدة الوطنية، وكذلك على إعادة إنتاج الصراعات الطائفية وتوليدها بمرور الزمن . فالطائفية هي لون العراق وصيغة لغته السياسية وهويته الأولى .
لقد كان لهذه الصيغة النتيجة الحتمية في أن تكون الدولة هي التعبير عن الانشقاق الطائفي والانقسام المجتمعي لا أن تكون اللحمة والعامل الموحد . فضعفت مؤسسات الدولة ومن بينها الجيش المجهز بأحدث الأسلحة الذي أثبتت داعش وتنظيمات مسلحة أخرى قوتها أمامه . ليست داعش بالقوية، فهي محدودة العدد والعدة، ولكن الطرف الأضعف منها، كما ذكر بعض المحللين، هو الجيش الذي هزم أمامها في شمال العراق . هل غريب إذاً أن يؤخذ التهديد باقتحام بغداد العاصمة مأخذ الجد؟
ليس الضعف مؤسساتياً فحسب بعدم الولاء للدولة والوطن بقدر الولاء للطائفة، بل إن هنالك ما تولده السياسات الطائفية من هوية طائفية مقابلة ومعاكسة ومن شعور جمعي بالغبن السياسي .
التركيبة الطائفية هي توالد مستمر وتلقائي للانقسام والشقاق حتى ضمن الطائفة نفسها، ولذلك فإن نوري المالكي يجد من يناوئه ويعارضه من زعماء الطائفة نفسها من مثل مقتدى الصدر والحكيم اللذين يشككان بشرعية وحكمة قراراته التخوينية والاتهام قائم على أشده لدى الطرفين في داخل الفصيلين الطائفيين .
إن العراق الذي وضعه الاحتلال على قضبان السكة الطائفية يعيد تأجيج وإنتاج النيران الطائفية وتبعاتها الكبرى في كل ما يحدث من تطورات وتداعيات تعيد اشتباك وارتباط المشهد العراقي بالمشهد الطائفي الكلي في المنطقة واشتعال جبهة المشاعر الطائفية مع تغيرات الأحداث وتصاعدها .
ليست الطائفية، كما أثبتت أحداث الأيام الأخيرة خياراً شديد المحدودية من حيث الفاعلية السياسية والديمومة، بل هي كذلك أفق مسدود وهاوية تخلف وارتداد سيق إليها العراق غير مختار . إن قوى الخارج التي اشعلت الجحيم الطائفي العراقي وأحرقت به المحيط العربي، من حوله هي التي تسارع متحالفة إلى إبقائه في الحفرة النارية نفسها، ولكن التبعات هذه المرة هي خطرة للغاية .
--------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 15/6/2014.