عرض: طارق راشد عليان، باحث في العلوم السياسية
عادت المنافسات الجيوسياسية لمركز الصدارة في العلاقات الدولية، وظهر ذلك جليًا في عام 2014 حتى الآن، سواء أكانت القوات الروسية تستولي على شبه جزيرة القرم، أم تبدي الصين مطالبات عدوانية في مياهها الساحلية، أم ترد اليابان باستراتيجية أكثر حزمًا من تلقاء نفسها، أم تحاول إيران استخدام تحالفها مع سوريا، وحزب الله للسيطرة على الشرق الأوسط.
وتثير هذه الاتجاهات قلق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الأقل. في الواقع، كان الهدف الأكثر أهمية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة هو تحويل العلاقات الدولية بعيدًا عن القضايا التي لا بد فيها من رابح zero-sumنحو تلك التي يربح فيها كل الأطراف win-win. والانجراف مرة أخرى إلى أن الصراعات القديمة مثل تلك الموجودة في أوكرانيا لا تحوّل الوقت والطاقة بعيدًا عن تلك الأسئلة المهمة فحسب، وإنما تغيّر أيضا من طابع السياسة الدولية.
في هذا السياق، نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية المتخصصة في السياسة الخارجية تحليلًا للكاتب والمحلل السياسي "والتر راسيل ميد"، أستاذ الشئون الخارجية والعلوم الإنسانية، والمحرر بمجلة "ذي أمريكان إنترست"، تناول فيه عودة منافسات الجغرافيا السياسية مرة أخرى إلى ساحة السياسة الخارجية بعد ركون الغرب إلى التفسير السهل لما أُطلق عليه "نهاية التاريخ" بعد انتصاره في الحرب الباردة.
تفسيرات خاطئة
يلوم والتر راسيل ميد الغربيين على توقعاتهم باختفاء الجغرافيا السياسية القديمة، مؤكداً أنهم قد وقعوا في هذا الخطأ، لأنهم أساءوا تفسير ما عاناه انهيار الاتحاد السوفيتي: الانتصار الأيديولوجي للديمقراطية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية، وليس زوال القوة الصلبة. لم تقنع الصين، وإيران، وروسيا أبدًا بالتسوية الجيوسياسية التي نتجت عن الحرب الباردة، وتبذل محاولات قوية ومتزايدة لإلغائها. هذه المحاولات لن تكون سلمية. وسواء نجحت هذه القوى التعديلية Revisionist Powers(التي تحاول نسف النظام الدولي الراهن لإقامة آخر جديد بقيادتها أو بمشاركة دول أخرى)، أو لم تنجح في جهودها، فقد أحدثت جهودها هزة فعلية في ميزان القوى، وغيرت من ديناميات السياسة الدولية.
شعور زائف بالأمان
يرى الكاتب أن العديد من الأمريكيين والأوروبيين اعتقدوا على ما يبدو في أن الأسئلة الجيوسياسية الأكثر إرباكًا قد استقرت إلى حد كبير بنهاية الحرب الباردة. وباستثناء حفنة من المشاكل البسيطة نسبيًا، مثل فظائع يوغوسلافيا السابقة، والنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، افترضوا أن أكبر القضايا في السياسة العالمية لن تتعلق مرة أخرى بالقواعد العسكرية والوطنية في تقرير المصير أو مناطق النفوذ.
ويعتقد والتر راسيل ميد أن الغرب كان مدفوعًا بأسباب وجيهة، كلها أمل بعد الحرب الباردة، حيث كان من الصعب عليهم تخيل انتشار السلام في العالم دون استبدال المنافسة الجيوسياسية ببناء نظام عالمي ليبرالي.
في أوروبا، تضمنت تسوية ما بعد الحرب الباردة توحيد ألمانيا، وتقطيع أوصال الاتحاد السوفيتي، ودمج دول حلف وارسو السابقة وجمهوريات البلطيق في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والاتحاد الأوروبي. وفي الشرق الأوسط، تضمنت هيمنة القوى السُنيّة التي كانت متحالفة مع الولايات المتحدة (السعودية وحلفاؤها في الخليج ومصر وتركيا)، والاحتواء المزدوج لإيران والعراق. في آسيا، كانت التسوية تعني "هيمنة بلا منازع" للولايات المتحدة من خلال سلسلة من العلاقات الأمنية مع اليابان، وكوريا الجنوبية، واستراليا، وإندونيسيا، وحلفاء آخرين.
يؤكد الكاتب أن هذه التسوية تعكس واقع القوة اليوم، مشيرًا إلى أن كثيرا من المراقبين قد خلطوا بين الظروف الجيوسياسية المؤقتة من عالم ما بعد الحرب الباردة، والنتيجة النهائية المفترضة للصراع الأيديولوجي بين الديمقراطية الليبرالية والشيوعية السوفيتية. فقد كانت الجملة الشهيرة للعالم السياسي فرانسيس فوكوياما بأن نهاية الحرب الباردة عنت "نهاية التاريخ" بيانًا عن الأيديولوجية. ولكن رأى كثير من الناس أن انهيار الاتحاد السوفيتي لم يعن فقط نهاية النضال الأيديولوجي للبشرية، وإنما نهاية الجغرافيا السياسية أيضا.
للوهلة الأولى، يبدو هذا الاستنتاج وكأنه استقراء لحجة فوكوياما بدلًا من أن يكون تشويهًا لها. برغم كل شيء، ارتكزت فكرة نهاية التاريخ على العواقب الجيوسياسية للصراعات الإيديولوجية منذ عبر عنها الفيلسوف الألماني هيجل لأول مرة في بداية القرن التاسع عشر. رأى هيجل "معركة يينا"، في 1806 كحرب حول الأفكار، معتقدًا أن تدمير نابليون بونابرت للجيش البروسي يشكّل انتصارًا للثورة الفرنسية على أفضل جيش يمكن أن تخرجه أوروبا في ذلك الوقت. قال هيجل إن هذا هو نهاية التاريخ، لأنه لن تبقى على قيد الحياة أو تنافس إلا الدول التي تعتنق مبادئ الثورة الفرنسية وأدواتها.
وبتطبيق ذلك على عالم ما بعد الحرب الباردة، تطورت هذه الحجة لتعني أن الدول يتعين عليها اعتناق المبادئ الرأسمالية الليبرالية لتتمكن من العيش في المستقبل. وظهر أن المجتمعات الشيوعية المغلقة، مثل الاتحاد السوفيتي، غير مبدعة وغير منتجة بدرجة لا تمكنها من منافسة الدول الليبرالية اقتصاديًا وعسكريًا.
في البداية، بدا كل شيء على ما يرام. وبمرور الوقت، تحول التركيز من الجغرافيا السياسية إلى اقتصادات التنمية، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وركز الجزء الأكبر من السياسة الخارجية على مسائل مثل تغير المناخ والتجارة. وراقت هذه الرؤية، حسبما يؤكد الكاتب، لكل من الليبراليين والمحافظين في الولايات المتحدة. فقامت إدارة الرئيس بيل كلينتون، على سبيل المثال، بتخفيض ميزانيتي وزارتى الدفاع والخارجية. وقال الجمهوريون الانعزاليون الجدد، مثل النائب السابق رون بول من ولاية تكساس، إنه نظرًا لعدم وجود تحديات جيوسياسية خطيرة، فإن على الولايات المتحدة أن تخفض بشكل كبير من الإنفاق العسكري والمساعدات الخارجية، مع الاستمرار في الاستفادة من النظام الاقتصادي العالمي.
بعد أحداث 11 سبتمبر، ركّز الرئيس جورج دبليو بوش سياسته الخارجية على الاعتقاد بأن الإرهابيين في الشرق الأوسط يشكلون خصمًا فريدًا خطيرًا، وأطلق ما وصفه بالحرب الطويلة ضدهم. بدا العالم وكأنه يتراجع تاريخيًا في بعض النواحي. ولكن اعتقاد إدارة بوش بإمكانية زرع الديمقراطية بسرعة في الشرق الأوسط العربي، بدءًا من العراق، أثبت عن قناعة راسخة بأن المد العام للأحداث كان يعمل لمصلحة أمريكا.
بنى الرئيس باراك أوباما سياسته الخارجية على الاقتناع بأن "الحرب على الإرهاب" كان مبالغًا فيها، وأن التاريخ انتهى حقًا، وأن أهم الأولويات الولايات المتحدة- كما كان الحال في سنوات كلينتون- يتمثّل في تعزيز النظام العالمي الليبرالي، وليس الاهتمام بالجغرافيا السياسية الكلاسيكية. ووضعت الإدارة جدول أعمال طموحا للغاية لدعم هذا النظام، تضمن: إعاقة وصول إيران إلى السلاح النووي، وحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، والتفاوض على معاهدة تغير المناخ العالمي، وإبرام الصفقات التجارية عبر المحيط الهادى والمحيط الأطلسي، وتوقيع معاهدات الحدّ من التسلح مع روسيا، وإصلاح الولايات المتحدة العلاقات مع العالم الإسلامي، وتعزيز حقوق المثليين جنسيًا، واستعادة الثقة مع الحلفاء الأوروبيين، وإنهاء الحرب في أفغانستان. في الوقت نفسه، عزم أوباما خفض الإنفاق الدفاعي بشكل كبير، وتخفيض انخراط الولايات المتحدة في المسارح العالمية الرئيسية، مثل أوروبا والشرق الأوسط.
محور القوى الوسطى؟
يقول الكاتب إن كل هذه القناعات المريحة خضعت للاختبار بعد خمسة وعشرين عامًا على سقوط جدار برلين. وبالنظر إلى حالة التنافس بين الاتحاد الأوروبي، وروسيا على أوكرانيا، وهو ما أدى بموسكو للاستيلاء على شبه جزيرة القرم، أو المنافسة المكثفة بين الصين واليابان في شرق آسيا، أو الصراع الطائفي في المنافسات الدولية والحروب الأهلية في الشرق الأوسط، يجد المرء أن التاريخ لم ينتهِ بعد. وتقاوم الصين، وإيران، وروسيا التسوية السياسية التي نجمت عن الحرب الباردة بطرق وأهداف مختلفة جدًا.
ويشدد الكاتب على وجود علاقات معقدة بين تلك القوى التعديلية الثلاث. تخشى روسيا من صعود الصين على المدى البعيد، وتكاد لا توجد قواسم مشتركة بين رؤية طهران الأيديولوجية، ورؤية بكين أو موسكو. وتعد إيران وروسيا من البلدان المصدرة للنفط، وتفضلان بقاء سعره عاليًا. أما الصين، فمستهلك للنفط، وتريد سعره منخفضًا. يمكن أن يكون عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط في مصلحة إيران وروسيا، لكنه يشكّل مخاطر كبيرة بالنسبة للصين.
ويستبعد الكاتب إقامة تحالف استراتيجي بين تلك القوى، ويقول إنه من المرجح أن يزيد التوتر بينها على مر الزمن، خاصة إذا ما نجحت في تقويض نفوذ الولايات المتحدة في أوراسيا.
ومع ذلك، تتفق هذه الدول على ضرورة إعادة النظر في الوضع الدولي الراهن. تريد روسيا إعادة تجميع أكبر قدر من دول الاتحاد السوفيتي. ليس لدى الصين قناعة بالقيام بدور ثانوي في الشئون العالمية، كما أنها لن تقبل بالنفوذ الحالي للولايات المتحدة في آسيا، والوضع الإقليمي الراهن هناك. وتود إيران أن تستبدل بالنظام الحالي في الشرق الأوسط- بقيادة المملكة العربية السعودية والدول السنّيّة –آخر مركزه طهران.
يتفق قادة البلدان الثلاثة على أن قوة الولايات المتحدة هي العقبة الرئيسية أمام تحقيق أهدافهم التعديلية. ويبدو عداؤهم تجاه واشنطن ونظامها هجوميًا ودفاعيًا على حد سواء: فهم لا يأملون في تراجع قوة الولايات المتحدة بما يجعل من السهل عليهم إعادة ترتيب موازين القوى في المناطقة التابعة لهم، لكنهم قلقون أيضًا من أن تحاول واشنطن الإطاحة بهم، إذا ما اندلعت اضطرابات داخل بلدانهم. ويتجنب هؤلاء القادة المواجهات المباشرة مع الولايات المتحدة إلا في حالات نادرة، عندما يكون هناك احتمال قوي لمصالحهم (كما في اقتحام روسيا لجورجيا في 2008 ، واحتلالها لشبه جزيرة القرم هذا العام). وبدلا من تحدي الوضع الراهن، فإنهم يسعون إلى محو المعايير والعلاقات التي تدعمه.
منذ أن هبت رياح أوباما، واصلت كل من هذه القوى استراتيجيةً واضحةً في ضوء نقاط قوتها وضعفها. ورغم أن الصين هي أكبر الدول الثلاث من حيث القدرات والإمكانات، فقد حظيت مخططاتها بأكبر قدر من الإحباط، فالجهود التي بذلتها لفرض نفسها في منطقتها أدت إلى قيام الولايات المتحدة بتوثيق علاقاتها مع حلفائها في آسيا، وارتفاع المد القومي في اليابان.
ووفقًا للتحليل، فإنه على الرغم من أن إيران هي أضعف الدول الثلاث، فقد حققت أكبر عدد من النجاحات. فقد أدى غزو الولايات المتحدة للعراق، ومن ثم انسحابها السابق لأوانه منه، إلى أن تعزز طهران علاقات عميقة ودائمة مع مراكز القوة عبر الحدود العراقية، وهو التطور الذي أحدث تحوّلًا في موازين القوى السياسية والطائفية بالمنطقة. في سوريا، استخدمت إيران ذراعها العسكرية، حزب الله، في دعم حكومة بشار الأسد في مواجهة معارضة قوية من الحكومة الأمريكية. ويرى والتر راسيل ميد أن الربيع العربي أضعف الأنظمة السُنيِّة، وأمال ميزان القوى لمصلحة إيران في جميع أرجاء المنطقة.
في غضون ذلك، ظهرت روسيا كدولة تعديلية وسطى، فهي أقوى من إيران، ولكن أضعف من الصين، أكثر نجاحًا من الصين في الجغرافيا السياسية، ولكن أقل نجاحًا من إيران. كانت روسيا فعالة بشكل معتدل في إيقاع الشقاق بين ألمانيا والولايات المتحدة، ولكن لم يتمكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من إعادة بناء الاتحاد السوفيتي لعدم قدرته على دفع الفواتير الاقتصادية التي يتطلبها ذلك.
وبرغم ذلك، حقق بوتين نجاحًا ملحوظًا في إحباط المشاريع الغربية على الأراضي السوفيتية السابقة. فقد أوقف الخطط التوسعية لحلف الناتو، وقطّع أوصال جورجيا، ووضع أرمينيا في مداره، وشدّد قبضته على شبه جزيرة القرم، وكانت مغامرته الأوكرانية مفاجأة غير سارة ومهينة للغرب. يرى الغرب أن بوتين يسوق بلاده إلى مستقبل أكثر قتامة، وفقرا، وتهميشا عن أي وقت مضى. ولكن بوتين لا يعتقد أن التاريخ قد انتهى، ويرى أنه عزز سلطته في الداخل، وذكّر القوى الأجنبية المعادية بأن الدبّ الروسي لا يزال لديه مخالب حادة.
القوى البازغة
ويرى والتر راسيل ميد أن القوى التعديلية تمتلك هذه الخطط والقدرات الكبيرة التي تمكّن دولة، مثل روسيا، من إبداء هذه المقاومة العالمية. ونتيجة لذلك، كان هناك بطء لدى الأمريكان في إدراك أن هذه الدول قد قوضت النظام الجيوسياسي للمنطقة الأوروبية الآسيوية بطرق تعمل على تعقيد الجهود الأمريكية والأوروبية لبناء عالم يربح فيه جميع الأطراف في فترة ما بعد نهاية التاريخ.
وتناول الكاتب في تحليله آثار نشاط الدول التعديلية في كثير من الأماكن. ففي شرق آسيا، لم يسفر موقف الصين الصارم من المنافسات الوطنية والإقليمية، والمغامرات البحرية عن الكثير من التقدم الجيوسياسي. وبزغت صحوة قومية في اليابان كرد مباشر على جدول الأعمال في الصين، وهو ما ينذر بتوتر أكبر، والاتجاه نحو منافسة لابد لها من رابح.
وفي أوروبا، تلاشت آمال تحويل الاتحاد السوفيتي السابق إلى منطقة ما بعد التاريخ. ولم يكن الاحتلال الروسي لأوكرانيا سوى أحدث حلقة في سلسلة من الخطوات التي حولت أوروبا الشرقية إلى منطقة صراع جيوسياسي حاد، وجعل الحكم الديمقراطي متعذرًا خارج دول البلطيق وبولندا.
في الشرق الأوسط، يبدو الوضع أكثر حدة، حيث تلاشت الأحلام بأن يقترب العالم العربي من نقطة التحول الديمقراطي، وهي الأحلام التي شكّلت سياسة الولايات المتحدة تحت قيادة كل من بوش وأوباما. وبدلًا من بناء نظام ليبرالي في المنطقة، تشبث واضعو السياسات الأمريكية بتفكيك نظام الدولة الذي يعود تاريخه إلى اتفاق سايكس- بيكو 1916 الذي قسّم منطقة الشرق الأوسط الخاضعة للإمبراطورية العثمانية، حيث ضَعُفت أنظمة الحكم في العراق، ولبنان، وسوريا.
وقد بذل أوباما قصارى جهده لفصل المسألة الجيوسياسية لقوة إيران المتزايدة في جميع أنحاء المنطقة عن امتثالها لمعاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية. ولكن المخاوف الإسرائيلية والسعودية بشأن طموحات إيران الإقليمية أعاقت هذه الجهود. وشكّلت روسيا عقبة أخرى أمام إبرام اتفاق مع ايران، حيث استخدمت مقعدها في مجلس الأمن الدولي، ودعمت الأسد لتقويض أهداف الولايات المتحدة في سوريا.
ترى روسيا نفوذها في الشرق الأوسط رصيدًا مهمًّا في إطار منافستها مع الولايات المتحدة، وهذا لا يعني أن موسكو ستعارض بالغريزة أهداف الولايات المتحدة في كل مناسبة، وإنما ستصبح النتائج المربحة لكل الأطراف التي يسعى الأمريكيون لتحقيقها رهينةً للمصالح الجيوسياسية الروسية في بعض الأحيان. على سبيل المثال، للبتّ في كيفية الضغط على روسيا في الأزمة الأوكرانية، لا يمكن أن يتجنب البيت الأبيض تقديره لتأثير ذلك فى موقف روسيا بشأن الحرب السورية، أو البرنامج النووي الإيراني. لا تستطيع روسيا أن تجعل نفسها أكثر ثراءً، ولكنها جعلت من نفسها عاملًا أكثر أهمية في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة، ويمكنها استخدام هذا النفوذ لانتزاع تنازلات مهمة.
ويقول الكاتب إنه إذا اكتسبت هذه القوى التعديلية أرضيةً، فستعمل على تقويض قوى الوضع الراهن. سيكون التدهور على أشده في أوروبا، حيث عملت كارثة العملة الموحدة على إحداث انقسام في الرأي العام، وتحويل اهتمام الاتحاد الأوروبي إلى ذاته. ومع أن الولايات المتحدة لم تتعرض للمتاعب الاقتصادية التي مرّت بها أوروبا، فإنها تواجه آثار السياسة الخارجية الناجمة عن حروب إدارة بوش، والدولة الأكثر تطفلًا، والانتعاش الاقتصادي البطئ، وقانون رعاية صحية لا يحظى بالشعبية، وتأزّم المزاج العام. فالأمريكيون، على اليسار واليمين، يشككون في فوائد النظام العالمي الحالي، ومؤهلات القائمين على تشكيله، ولا توجد لديهم رغبة كبيرة في مبادرات جديدة كبيرة في الداخل أو الخارج.
وأشار الكاتب إلى أن أوباما جاء بخطط لخفض الإنفاق العسكري، والتقليل من أهمية السياسة الخارجية في السياسة الأمريكية، مع تعزيز النظام العالمي الليبرالي. وبعد تجاوزه منتصف الطريق بقليل، خلال فترة رئاسته، وجد نفسه مشدودًا إلى أعماق مستنقع المنافسات الجيوسياسية الذي كان يأمل في تجاوزه. إن الانتقام الصيني، والإيراني، والروسي لم يُبطل تسوية ما بعد الحرب الباردة في أوراسيا بعد، وربما لن يتمكن من ذلك، لكن هذه الدول حوّلت وضعًا راهنًا بلا منافس إلى وضع تنافسي. ولم يعد رؤساء الولايات المتحدة لديهم مطلق الحرية في السعي نحو تعميق النظام الليبرالي، وإنما ينتابهم القلق على نحو متزايد نحو دعم أساساته الجيوسياسية.
غروب التاريخ
يقول والتر راسيل ميد إنه من المغري أن نرى الآن عودة الجغرافيا السياسية بحسبانها دحضا نهائيا لأطروحة فوكوياما التي نشرها قبل 22 عامًا في كتابيه "نهاية التاريخ"، و"الرجل الأخير"، مشيرًا إلى أننا نعيش فترة غروب التاريخ، وليس في نهايته الفعلية.
ويؤكد الكاتب أن شمس التاريخ لا تزال تشرق على واقع الحياة الشخصية والسياسية في مجتمعات مثل الصين، وإيران، وروسيا. فهذه المجتمعات المختلفة لا تُخرِج لنا شخصيات وقيما مختلفة، وتضعها في الواجهة فحسب، بل تعمل مؤسساتها بشكل مختلف، وتتشكّل جماهيرها بأفكار مختلفة أيضًا.
قد يتدفق تيار التاريخ بلا هوادة في اتجاه الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية، وربما تختفي شمس التاريخ في الواقع وراء التلال. ولكن حتى مع تمدد الظلال، وبزوغ أول نجم في السماء، لا تزال شخصيات، مثل بوتين، تخطو على خشبة المسرح العالمي، وستغضب بشدة، حال انحسار الأضواء عنها.