تحليلات - شرق أوسط

تأثيرات مشروطة:|هل تستطيع "عملية حفتر" تغيير موازين الصراع في ليبيا؟

داخلي
طباعة

21 مايو 2014

أثارت عملية "حملة الكرامة" التي تخوضها قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر ضد الجماعات الإسلامية الجهادية في بنغازي شرق ليبيا استفهامات عديدة حول دوافعها، ودلالاتها، وتأثيراتها المحتملة في موازين الصراعات الداخلية، خاصة أنها صدرت من قوات ليست تحت إمرة السلطات الانتقالية. ولكنها في المقابل نالت تأييدًا من قبل بعض القبائل، وقوات عسكرية عديدة تنتمي للجيش الوطني، رأت فيها بارقة أمل في تجاوز مأزق الوهن الشديد للدولة الليبية، والمسار الانتقالي المتعثر بعد الثورة.

ورغم أن حفتر أقدم في فبراير الماضي على تعليق عمل السلطات الانتقالية، فإن تلك المحاولة لم تؤت أكلها، بسبب غياب دعم لها على الأرض، وهو ما يجعل عمليته "حملة الكرامة" في مايو 2014 تكتسب أهمية في التأثير في ديناميات الصراع، خاصة أنها دفعت السلطات الانتقالية للمبادرة بطروحات لحل الأزمة، تتضمن وقف عمل المؤتمر الوطني العام إلى حين إجراء الانتخابات العامة المقبلة، وذلك في مؤشر على تراجع نسبي لتحالف "الإسلاميين – مصراتة"، المهيمن على السلطة الانتقالية ومؤسساتها الرخوة.

أهداف عملية حفتر

وفقًا لما صرح به حفتر، فإن عمليته في شرق ليبيا تستهدف تطهير الدولة من الجماعات الإسلامية المسلحة التي تصاعد خطرها في الشرق الليبي، بسبب عدم قدرة الدولة على نزع سلاحها، وبالتالي، امتدت تأثيراتها إلى الجوار الإقليمي لليبيا عبر نسج علائق عابرة للحدود مع تنظيمات جهادية في مصر وتونس والجزائر، كما أن تلك الجماعات، من جانب آخر، باتت تشكل خطرًا على المصالح الغربية التي تعرضت للاستهداف المتكرر، وكان من أبرزها قتل السفير الأمريكي في بنغازي في 2012، إثر هجوم أُلقي فيه باللائمة على جماعة "أنصار الشريعة" ذات الامتدادات الإقليمية.

ومن هنا، تستهدف "حملة الكرامة" أطرافًا محددة في شرق ليبيا، وهي جماعات إسلامية مسلحة تشكل في مضمونها استنساخًا لأفكار "القاعدة"، كـ"أنصار الشريعة" و"كتيبة شهداء بوسليم" و"ألوية الشهيد عمر عبد الرحمن"، و"جماعة التوحيد والجهاد"، و"قوات 17 فبراير". وبالتالي، فقد تشكل حال نجاحها نقطة لجذب تأييد إقليمي ودولي.

واستطاع حفتر -الذي ينتمي لإحدى قبائل مدينة سرت- عبر عمليته أن ينسج مجموعة من الاصطفافات الجديدة على الساحة الليبية، مستثمرًا ليس فقط شعبيته كقائد عسكري وسط الجنود والضباط السابقين في الجيش الليبي، ولكن امتلاكه علاقات إقليمية ودولية وخاصة مع الولايات المتحدة التي مكث فيها 20 عامًا بعد تمرده على القذافي إبان الحرب الليبية التشادية في الثمانينيات، قبل أن يعود إلى بنغازي مع انطلاق الثورة، حيث عُين قائدًا لسلاح البر من قبل المجلس الوطني الانتقالي (الذراع السياسي للثوار السابقين). غير أن اختلافه مع السلطات الانتقالية في طريقة بناء الجيش دفعت لاستبعاده وتهميشه، برغم تأييد ضباط له في صراعه على رئاسة الأركان.

لقد أظهرت عملية حفتر مجموعة من الاصطفافات الجديدة تجلت ملامحها، في التالي:

- دعم قبلي لعملية الكرامة: حيث نال حفتر تأييد العديد من قبائل بنغازي التي سئمت هيمنة الجماعات الإسلامية وتهديدها للسلم الاجتماعي من خلال جولاته التي قام بها في مدن الشرق خلال الشهرين الماضيين، فضلا عن الدعم الذي تلقاه من الزنتان في الغرب، عدا قبائل مدينة مصراتة التي لا تزال عصية عليه. في الوقت نفسه، فهو يملك دعمًا من قبائل التبو في جنوب ليبيا التي عانت من انحياز السلطات الانتقالية لغريمتها قبائل الزوي.

- مساندة الصواعق والقعقاع في طرابلس: فبموازاة عملية بنغازي، أعلنت ميليشيات "الصواعق" و"القعقاع" المقربة من الزنتان تأييدهما لعملية حفتر في إطار الصراع مع الإسلاميين ومصراتة، مما دفعهم إلى تجديد مطالبتهم -مع العملية- بحل المؤتمر الوطني العام الذي تعرض لهجمات في نفس التوقيت الذي نشبت فيه أزمة بنغازي.

- اجتذاب قوات من داخل الجيش الوطني نفسه: فقد كشفت معارك بنغازي، التي استُخدمت فيها طائرات حربية من قبل قوات حفتر، أن هناك انقسامًا في القوات الجوية، وأن فريقًا منها يؤيد حفتر، وخاصة كتيبة طبرق الجوية، علاوة على إعلان قائد القوات الخاصة في بنغازي وقائد الشرطة العسكرية في طرابلس دعمهما لحملة "الكرامة"، فيما لا تزال المعلومات غير مؤكدة حول تأييد بعض كتائب الجيش الوطني له في الجنوب، وقائد الدفاع الجوي في طرابلس.

- استقطاب دعم الجناح المسلح في برقة المؤيد للفيدرالية: حيث نالت عملية حفتر دعم إبراهيم الجضران -رئيس ما يُعرف بالمكتب السياسي لإقليم برقة- الذي يبسط سيطرته على مرافئ نفطية منذ الصيف الماضي، في محاولة لإجبار طرابلس على منح حقوق فيدرالية أكبر لمنطقة برقة بشرق البلاد. ومع أن الجضران قد اتفق مع السلطات الانتقالية على رفع تدريجي للحصار الذي يفرضه على أربعة موانئ رئيسية، إلا أنه رفض رئيس الوزراء الجديد، وجمد اتفاقه، وأيد حفتر.

وبالرغم من أن تلك الاصطفافات البازغة التي استطاعت عملية حفتر اجتذابها دعمته تصريحًا وليس مشاركة في القتال؛ فإنها تشير إلى محاولة حفتر، عبر عمليته في بنغازي، قيادة "تحالف فضفاض" يتوحد على مواجهة الإسلاميين، ويجمع تحت سقفه المعارضين المسلحين والقبليين في الشرق، وكذلك التيارات الليبرالية بزعامة محمود جبريل المتحالفة مع الزنتان والورفلة في الغرب، والقوى الجهوية كالتبو والطوارق.

وعلى ذلك، فإن عملية حفتر -باعترافه ومن خلال تصريحات مؤيديه- اتسعت لتشمل أهدافًا منها: تعليق عمل السلطات الانتقالية، وبرامج المصالحة، ونقل صلاحيات المؤتمر الوطني إلى الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، بل والإعلان صراحة عن مواجهة جماعة الإخوان؛ إذ قال حفتر -في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط، في 20 مايو 2014- إن هدف عمليته ليس فقط تطهير ليبيا من المتطرفين، ولكن أيضًا من جماعة الإخوان، متوعدًا بتقديمهم للمحاكمة.

تحالف مصراتة - الإسلاميين

وفي الوقت الذي تنطوي فيه محاولة حفتر بناء ذلك التحالف الواسع على تعقيدات لجهة تناقض أهدافه ومصالح الأطراف التي يحتمل أن تنضوي تحته، فإن عملية حفتر لعبت دورًا مؤثرًا في ردود فعل التحالف المضاد (الإخوان، مصراتة، الإسلاميون الجهاديون المنخرطون في العمل السياسي) الذي يسيطر على الحكومة الانتقالية والمؤتمر الوطني.

فبينما وصفت فيه السلطات الانتقالية عملية حفتر بالانقلاب، وتوعدت بملاحقته؛ تم طرح مقترحات لحل الأزمة، تضمنت وقف عمل المؤتمر الوطني العام (البرلمان) إلى حين إجراء الانتخابات العامة المقبلة، وإعادة انتخاب رئيس الوزراء المثير للجدل المقرب من الإسلاميين، والذي عرض هو الآخر الحوار لحل الأزمة.

بموازاة ذلك، وكنوع من الاستعداد لاحتمال نشوب معركة مسلحة واسعة، أصدر نوري أبو سهمين رئيس المؤتمر الوطني المحسوب على تحالف "الإسلاميين - مصراتة"، قرارًا بتكليف "قوة درع ليبيا الوسطى" التي تضم مقاتلين إسلاميين ومقربين من مصراتة، بالتمركز داخل العاصمة، وتأمين مداخلها ومخارجها، خشية تصاعد المعارك مع الميليشيات التابعة للزنتان.

عوامل محفزة لعملية حفتر

ثمة عوامل عدة قد تشكل محفزات لتلك التحالفات البازغة المؤيدة لحملة "الكرامة"، لعل أبرزها، رفض تصاعد هيمنة تحالف (الإسلاميين - مصراتة) على مؤسسات الدولة الانتقالية، حيث نجحت جماعة الإخوان المسلمين، عبر حزبها العدالة والبناء، وقوى جهادية سابقة منخرطة في العمل السياسي (الجماعة الليبية المقاتلة السابقة) في بناء تحالفات قبلية وميليشياوية مع مصراتة والقوى الأمنية في طرابلس، لضمان هيمنتها على السلطة السياسية، مدعومةً بقوى إقليمية بات من الصعب إنكار دورها، وخاصة قطر التي اتهمها محمود جبريل بلعب دور في دعم الإسلاميين، كجزء من محاولتها صياغة محاور إقليمية مع الإسلاميين بالتعاون مع تركيا.

واستطاع التحالف تقليص المساحة السياسية التي حازها تحالف القوى الوطنية ذو التوجه الليبرالي بزعامة محمود جبريل ومن خلفه الزنتان وتيارات مدنية أخرى في انتخابات يوليو 2012، عبر الضغط بالقوة المسلحة لتطبيق قانون العزل السياسي الذي أحدث خللا في موازين القوى السياسية لصالح الإسلاميين في المؤتمر الوطني. وفي الوقت ذاته، تغلغل التحالف في المؤسسات الوليدة للدولة الليبية، إذ بدا أن هناك جهاديين سابقين يتولون مناصب محورية، وخاصة في وزارة الدفاع، كما تم تمديد ولاية المؤتمر الوطني العام حتى ديسمبر 2014، علمًا بأنها انتهت في فبراير من العام الجاري، لكن سرعان ما تراجع المؤتمر عن قراره، وأعلن إجراء انتخابات مبكرة دون أن يحدد موعدها.

لقد هيمن التحالف على الحكومة الانتقالية بإزاحة رئيس الوزراء السابق علي زيدان عبر ضغوطات متنوعة من الإسلاميين، وتولى عبد الله الثني وزير الدفاع حكومة مؤقتة، ثم اختيار أحمد معيتيق القريب من الإسلاميين كرئيس للوزراء، لكن هذا الاختيار قوبل بالرفض، وأثار جدلا قانونيًّا حول دستورية اختياره في المؤتمر الوطني العام.

هذه المحاولات للسيطرة على السلطة الانتقالية، لم يرافقها في المقابل علاج للمشكلات المزمنة التي تعانيها ليبيا بعد سقوط القذافي، إذ بدا أن تحالف "الإسلاميين - مصراتة"، الذي يسعى للاستئثار بالسلطة، يتكيف مع وضعية انتشار الميليشيات المسلحة التي يتقاضى بعضها أجورًا من الحكومة، بل ويتم اللجوء إليها لفض نزاعات قبلية مسلحة، كما حدث في الكفرة. في الوقت نفسه، لا تزال عملية بناء جيش وطني بطيئة.

يُضاف إلى ذلك، أن ليبيا نفسها باتت على شفا التفكك، بفعل تنامي النزعات الانفصالية سواء في الشرق أو الجنوب، وتصاعد حالة الاستقطاب السياسي بين التيارات البازغة بعد الثورة، بما عمق من تعثرات المسار الانتقالي. هذا بخلاف، تردي الأوضاع الاقتصادية بفعل توقف بعض مرافئ النفط عن الإنتاج في الشرق الذي يحوز النسبة الأكبر من الثروة البترولية في هذا البلد.

بيئة إقليمية ودولية.. قلقة وغامضة

عَمَّق من أزمة البيئة الداخلية، تأثرها بطبيعة التغيرات الإقليمية، خاصةً في مصر بعد ثورة 30 يونيو؛ إذ إن سقوط نموذج حكم الإخوان المسلمين عبر مساندة المؤسسة العسكرية للخروج الجماهيري ضد حكم مرسي؛ لم يمنع فقط خطوط الاستقواء الإسلامي الإقليمي لتحالف "الإسلاميين - مصراتة"، ولكنه شكل أيضًا محفزًا على أن إسقاط حكم الإسلاميين قد يستلزم صيغة "تحالفات اجتماعية - عسكرية"، مع أهمية إدراك أن السياق الليبي مختلف نظرًا لغياب قوة مركزية أو مؤسسة وطنية عسكرية تسيطر على مقاليد الأمور في هذا البلد.

وهنا بدا الموقف المصري الذي تأثر بعدم الاستقرار في الداخل الليبي مترقبًا لنتائج العملية نفسها، خاصة مع تصاعد التهديدات في الشرق الليبي عبر تسريب الأسلحة، والتواصلات الجهادية، واستهداف العمالة المصرية. وبالتالي كان رد الفعل الأولي هو تشديد الإجراءات الحدودية لمنع امتداد المعارك إلى غرب مصر، وهو أمر صارت على نهجه تونس والجزائر.

ودوليًّا، بدت المواقف الغربية من عملية حفتر تنطوي على قدرٍ من الغموض والقلق، وذلك استمرارًا لسياسة رفض التدخل على الأرض بعد مشاركة الناتو في إسقاط القذافي، نظرًا للتكلفة الباهظة التي يُمكن أن تدفعها في بلد تعج بالميليشيات المسلحة. ولعل ذلك قد يشكل محفزًا لمنطق تداولته تحليلات المراقبين الغربيين بأن ليبيا تحتاج قوة مركزية لإقرار الأمن، ومواجهة التهديدات المتصاعدة في الداخل والمؤثرة على المصالح الإقليمية والدولية. ومن هنا، اقتصرت ردود فعل الولايات المتحدة والناتو على شجب أعمال العنف، ونفي أي اتصالات مع قوات حفتر، بالتوازي مع استعداد واشنطن بقوات محدودة في جزيرة صقلية قبالة ليبيا تحسبًا لأي طارئ.

ويبدو أن المواقف الغربية تنتظر نتائج العملية نفسها على الأرض حتى تحسم توجهاتها إزاء ليبيا، لا سيما أنه إذا ما تم النظر لحملة "الكرامة" على أنها تستهدف جماعات إسلامية مسلحة هددت مصالح الولايات المتحدة، وقتلت سفيرها في بنغازي في سبتمبر 2012، ودفعتها لاعتقال أبو أنس الليبي العضو بـ"القاعدة" من داخل ليبيا - فقد يتم التوصل إلى استنتاج محتمل مفاده أن واشنطن ستتعامل مع من يحمي مصالحها، ويسيطر على الأرض.

تأثيرات مشروطة

ويظل أن هناك مجموعة من التأثيرات لحملة "الكرامة"، لعل أبرزها محاولة إعادة بناء العلاقات الصراعية في الداخل الليبي، عبر بزوغ اصطفافات واسعة لحفتر قد تُحدث قدرًا من توازن القوة مع تحالف "الإسلاميين - مصراتة"، بما قد يكبح جماح معضلات بنيوية باتت ضمن هيكل الصراع في ليبيا كالجماعات الإسلامية المتشددة، وانتشار تأثيراتها على الجوار الإقليمي.

على أن هناك تأثيرات أخرى لا تزال قيد الاحتمال، وهي مشروطة بنتائج ملموسة للعملية على الأرض، ومدى قدرة حفتر على صياغة إطار سياسي يساهم في تمتين التحالفات البازغة حوله، وطبيعة الدعم الإقليمي والدولي لمعركته ضد الإسلاميين. فبدون توافر تلك الشروط، فإن ليبيا، على الأرجح، ستظل ضمن معادلة توازن الضعف اللا مركزي؛ حيث يملك تحالف "الإسلاميين – مصراتة" من الأدوات الميليشياوية ودعم بعض القوى الإقليمية، ما يجعله قادرًا على خوض معركة ممتدة على النفوذ داخل ليبيا.

طباعة

تعريف الكاتب

د. خالد حنفي علي

د. خالد حنفي علي

باحث في الشئون الإفريقية