عرض: طارق راشد عليان، باحث في العلوم السياسية
تحولت واقعة اختطاف 276 فتاة بالمرحلة المدرسية في نيجيريا من كابوس إلى حقيقة من عدة طرق، ولا توجد سيناريوهات أكثر رعبًا من اختطاف الأطفال من المدارس إلا فيما ندر، فهذه الواقعة تحيي خوفًا دفينًا. وحقيقة أن الفتيات لا يزلن أحياء تجعل الأزمة أكثر بشاعة، وتقلص من فرص إنقاذهن.
"بوكو حرام" مجموعة نيجيرية متطرفة، تركزت عليها الأضواء في الفترة الأخيرة بعد خطفها الفتيات، وبدأ تهديد هذه المجموعة يتزايد في دولة ترى فيها السلطة المركزية ضعيفة، حيث تتباهى مجموعات متطرفة أخرى بأن لديها أجندة أوسع.
في هذا السياق، ترى الكاتبة الصحيفة زيمينا أورتيز، في تحليل نشرته مجلة "ذي ناشونال إنترست" في موقعها على الإنترنت، أن الجماعة التي أعلنت مسئوليتها عن عملية الاختطاف الجماعي (بوكو حرام) وحش يتعذر قتله أو قطع رأسه. وتقول الكاتبة إن الحكومة النيجيرية تعاني الأمريْن، فالحكومة معززة بميزانية أمنية تصل إلى 6 مليارات دولار أمريكي، والوحش استجمع قواه بطريقة أكثر شراسة وعنف. وهذا الوحش الخفي، على حد وصف الكاتبة، يقوم أيضًا بعمليات إرهابية في جنح الليل البهيم.
وبحسب زيمين أورتيز، فإن هذه الأزمة النيجيرية مرعبة وميئوس منها، لكنها ليست مفاجئة كليًا. فكثيرا ما حذر العلماء لسنوات من أن قتل زعماء الجماعات الإرهابية لن يضع حدًا للتهديد الذي تمثله تلك الجماعات. وحقيقة الأمر أن بوكو حرام تحولت إلى ما هي عليه الآن من شكل بربري، بعد أن قامت الحكومة النيجيرية بما بدا أنها عملية الاغتيال الناجحة لرئيسها الأسبق، محمد يوسف عام 2009.
في شكلها السابق، كانت جماعة بوكو حرام تنذر بالخطر، حيث عكفت على تدريب الجهاديين في مركز إسلامي مترامي الأطراف يتضمن مسجدًا ومدرسة. وبعدها، انصب تركيز الجماعة في الأغلب على شن هجمات على مخافر الشرطة وغيرها من المنشآت الحكومية. ومع ذلك، للشرور حدود، والجماعة تحت قيادتها الحالية تدنت إلى أعمال أخرى كاختطاف فتيات المدارس، واستعبادهن واغتصابهن. والواقع أن انعدام الاحترام والإنسانية، وهدم ما بناه الآخرون بتضحياتهم وآمالهم فعل متعمد بشكل مَرَضيّ، برأي الكاتبة.
وأوضحت الكاتبة أن الجيل الجديد من الجماعات الإرهابية الذي يشوه المبادئ الإسلامية لا يلتفت أيضًا إلى السلطة الدينية. فحركة بوكو حرام متطرفة في هذا الشأن، حيث قامت بتصفية عدد من العلماء الإسلاميين. في فبراير الماضي، أعلن أبو بكر شيكاو، زعيم الحركة، عن مسئوليته عن قتل الشيخ آدم ألباني، وقتلت الحركة الإرهابية أيضًا زوجة الشيخ وطفله في الهجوم الذي شنته عليه. والواقع أن الزوجة والطفل قُتِلا قبل الشيخ.
وأكدت أورتيز ضرورة أن تفكر الحكومة النيجيرية في الوقت الحالي مليًّا في كيفية تخليص الطالبات من أيدي مختطفيهن، وهي ليست بالمهمة اليسيرة. قد يكون إنقاذ المختطفات، الواحدة تلو الأخرى، وهن يعملن في الحقول مثلًا، أفضل السيناريوهات السيئة على الإطلاق، منوهةً إلى أهمية أن يمارس النيجيريون والعالم أجمع ضغوطًا متواصلة، مع إعطاء الحكومة الفرصة للتصرف بذكاء.
وترى أورتيز أنه يتعين على الحكومة النيجيرية أن تضع نصب عينيها الغاية طويلة الأجل، الممثلة في وضع معايير محددة لشعبها. "فلن يكون من السهل على نيجيريا أن تقهر الوحش الإرهابي. وإذا تحمل النيجيريون التضحية الممثلة في مواجهته، فلا بد أن يكون لديهم حلم يسعون لتحقيقه على أرض الواقع".
ما وراء بوكو حرام..أصل الجماعة
لفهم عملية الاختطاف، علينا النظر في تاريخ هذه الجماعة الإرهابية، وطريقة تشكّلها، وتطورّ أيديولوجيتها.
وفي هذا الصدد، يشير الباحث الفرنسي، المختص بشئون الإرهاب ماتيو جودير، في تحليل نشره موقع The Conversation، إلى أن بوكو حرام اكتسبت سمعة سيئة لتبنيها حملة طويلة من التفجيرات والقتل الجماعي في جميع أنحاء نيجيريا، بالتنسيق مع الجماعات الإسلامية في كثير من الأحيان.
عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، قام رجل يبلغ من العمر 30 عاما يُدعى محمد يوسف بتأسيس جماعة وعظ ديني جديدة في مايدوجوري، عاصمة ولاية بورنو النيجيرية، وأطلق عليها اسمًا عربيًّا هو "جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد"، وباتت هذه الجماعة تُعرف على نطاق واسع باللغة الهوسية باسم "بوكو حرام" بمعنى "التعليم الغربي حرام".
دَرَسَ يوسف العلوم الدينية في المملكة العربية السعودية، وتحولّ إلى السلفية، وكان مقتنعًا بأن نموذج التعليم الغربي الذي كان سائدًا في جميع أرجاء نيجيريا، كأحد مخلفات الحكم البريطاني، هو المسئول عن مشاكل البلاد، وتعهد بالقتال ضده، وإدخال نموذج مستوحى من نظام التعليم الأفغاني لحركة طالبان.
بدأت الجماعة كتجمع من المسلمين الملتزمين في مسجد، ومقرأة للقرآن. كانت هذه التجمعات تستهدف الأُسر الفقيرة التي ترسل أطفالها لدراسة مناهج مختلفة عن المناهج الدراسية الحكومية، ولكن توازيها، حيث كانوا يعلّمون الأطفال العلوم الإسلامية، والأحاديث النبوية، وترتيل القرآن، وما شابه ذلك. زاد عدد هذه "المدارس"، واجتذبت الطلاب البالغين الذين لم يحققوا النجاح في الجامعات الحكومية. وبعدئذ، بدأوا يطلقون على أنفسهم "طالبان النيجيرية" (والمعنى الحرفي للفظة طالبان هو "طالب العلوم الدينية").
سرعان ما طغت السياسة على الجماعة التي أبرزت عداءها للنظام الحاكم. وفي 31 ديسمبر 2003، اندلعت أعمال عنف في داماتورو، عاصمة ولاية يوبي، واستولت جماعة بوكو حرام على عدد من المناطق المتاخمة للنيجر.
وفي الفترة من عام 2004 إلى عام 2006، اندلعت اشتباكات عنيفة في كثير من الأحيان بين مسلحين من جماعة بوكو حرام، وقوات الأمن لمنع سيطرتهم على مجموعة مختلفة من المدارس والمباني العامة. وفي عام 2006، أعلن محمد يوسف تطبيق الشريعة، بحسبانها الهدف الرئيسي لبوكو حرام، كما اعتُقل عدة مرات وُجهت إليه فيها تُهم مثل "التجمع غير القانوني"، و"الإخلال بالنظام العام"، على الرغم من أنه لم يواجه أي عواقب قاسية في المحكمة. وحدثت نقطة التحول الحقيقية لجماعة بوكو حرام في عام 2009.
امتدادات جهادية
عقد الرئيس عمر يارادوا العزم على القضاء على الحركة الأصولية. وفي 30 يوليو 2009، نجحت قوات الأمن في طرد بوكو حرام من مايدوغوري، واعتُقل الشيخ يوسف، وحُكم عليه بالإعدام في مايدوغوري في ظروف غامضة.
خلال العام التالي، أعادت الجماعة تنظيم نفسها، واتصلت بجماعات جهادية كبرى في إفريقيا، خاصة "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في الشمال، وحركة "الشباب" الصومالية في الشرق. غادر العديد من القادة نيجيريا، وانضموا إلى صفوف تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أو حركة الشباب للتدريب على تكتيكات التمرد، واكتساب الخبرة في الإرهاب.
وفي يوليو 2010، قام أحد هؤلاء القادة، وهو أبو بكر شيكاو، بتسجيل شريط فيديو أعلن فيه نفسه زعيمًا لجماعة بوكو حرام، ودعا إلى الجهاد ضد السياسيين والشرطة، خاصة المسيحيين.
عاد شيكاو إلى نيجيريا. وفي سبتمبر 2010، شنّ هجومًا مذهلًا، واقتحم سجن بوتشي، وحرّر المئات من أعضاء بوكو حرام. وخلال أعياد الميلاد لعام 2010، شنّت جماعة بوكو حرام حملة من الهجمات القاتلة ضد المسيحيين، وقتلت 80 مسيحيا في هجوم واحد في جوس.
وعلى الرغم من رغبة الرئيس الجديد، جودلاك جوناثان، في التفاوض، فقد استمرت جماعة بوكو حرام في شن الهجمات، وأعلنت مسئوليتها عن تفجير انتحاري ضد مكتب الأمم المتحدة في أبوجا في 26 أغسطس 2011، فضلًا عن هجوم على منطقة مسيحية في داماتورو، خلّف 130 قتيلًا في 4 نوفمبر 2011. وأخيرًا، في 25 ديسمبر 2011، أعلنت الجماعة مسئوليتها عن مقتل 27 شخصًا في هجوم على كنيسة سانت تيريزا في مادالا، على مشارف أبوجا.
الإرهاب التكفيري
يقول ماتيو جودير: واصلت بوكو حرام تنفيذ عمليات إرهابية داخل نيجيريا، وهو ما دفع الرئيس النيجيري، جودلاك جوناثان، لإعلان حالة الطوارئ في ثلاث ولايات بشمال شرق البلاد في 14 مايو عام 2013. وبرغم هذا، لم تنس جماعة بوكو حرام مهمتها التي تعطيها الأولوية: مهاجمة "التعليم الغربي الآثم".
وشهد صيف عام 2013 مقتل عدد وافر من الطلاب والمدرسين ضمن سلسلة من المذابح المدرسية، وتم ارتكاب مجموعة أخرى من المذابح طوال الخريف من العام نفسه، أملًا في بدء حرب أهلية. وفي مواجهة عمليات القتل الواسعة هذه، رد الجيش بهجمات ثقيلة ضد معسكرات بوكو حرام.
ونجم عن ذلك وقوع العديد من الضحايا المدنيين، وظهور مشاعر عدائية لدى السكان المحليين ضد قوات الأمن. وبحلول نهاية عام 2013، ساعدت المجازر التي ارتكبها الجيش على جمع الجماعات المنشقة والتئامها مجددًا، مما دفع الزعماء الأكثر راديكالية في جماعة أنصارو إلى العودة إلى حضن بوكو حرام. ومن هنا، تعززت دائرة العنف. ومنذ ذلك الحين، انتقلت الجماعة إلى الأيديولوجية التكفيرية، ورمت غيرها من المسلمين، فضلًا عن المسيحيين، بالكفر، وأجازت قتلهم دون تمييز.
ولا يزال شمال نيجيريا يشهد المجزرة تلو الأخرى، وأدت سلسلة من الهجمات إلى مقتل المئات، مع عدم ظهور أي علامات على التراجع، وتُوّجت هذه الهجمات بحادث اختطاف المئات من طالبات المدارس في 14 أبريل. ولا تُبدي حملة بوكو حرام للعنف والقتل أي علامة على التراجع، بحسب الباحث ماتيو جودير.
بوكو حرام تهدد مستقبل نيجيريا
إلى ذلك، قالت ميليندا جيتس، الرئيس المشترك لمؤسسة بيل وميليندا جيتس، في مقال لها نشرته شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية في موقعها على الإنترنت، إنه من الصعب تحديد أسوأ جوانب كارثة اختطاف الفتيات. ومن المؤسف أنه لا توجد مستجدات بشأنها.
وأضافت جيتس: كثيرا ما كانت معاملة النساء كغنيمة أو أسلحة حرب لآلاف السنين أمرًا شائعًا. وقد سعت حركة بوكو حرام إلى تبرير أفعالها، بحسبانها مطابقة لتعاليم الدين الإسلامي، وهذه إهانة. فكثير من الشخصيات الجليلة في العالم الإسلامي شجبوا أفعال تلك الحركة، مشيرةً في هذا الصدد إلى تصريح "الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أبرز المؤسسات الإسلامية السُنية وأعظمها مكانة، حيث قال الطيب "إن عمليات الاختطاف لا تمت للإسلام ومبادئه السمحة بصلة".
ومن المحبط، تقول جيتس، أن الحكومة النيجيرية، رغم جهودها المكثفة للبحث عن الفتيات، عجزت عن تحديد مكانهن. ومن المرعب أن مئات الفتيات وآبائهن، والآلاف من الأقارب يعيشون كل لحظة في حياتهم في رغب وخوف لا يدرون إن كان الواحد منهم سيرى الآخر. "قلبي يعتصره الألم على هؤلاء الأمهات والآباء".
ولكن ربما أن أبشع ما في الموقف أن حركة بوكو حرام تقف حائلًا أمام مستقبل أفضل لعامة النيجيريين، وفقًا لـ ميليندا جيتس. إن الحركة ترسخ فكرة أن النساء ملكية خاصة لأزواجهن، وأنهن مجرد أداة للتكاثر. وتعارض بوكو حرام تحديدًا فكرة أن الفتيات ينبغي أن يحصلن على أي تعليم، ولذلك فهي تستهدف المدارس.
وأشارت ميليندا جيتس إلى أنه "يبلغ تعداد سكان نيجيريا 170 مليون نسمة، واقتصادها هو الأكبر في القارة الإفريقية بأسرها، ومستقبلها واعد جدًا، ويشي بفرص هائلة تتمثل، إلى حد ما، في حقيقة أن المنتدى الاقتصادي العالمي عُقد في أبوجا أخيرا. ولكن إذا لم تحظَ النساء والفتيات النيجيريات، البالغ عددهن 85 مليون نسمة، بفرصة استغلال إمكاناتهن، فلن تحظَى نيجيريا بالفرصة نفسها".
"بوكو حرام" .. الجرح المتقيح
من جانبه، يقول أبو بكر شيكاو، القائد الحالي لـ "بوكو حرام" في فيديو مصور: "العبودية مسموح بها في ديني، وأقسم بأني سأخطف الناس، وأجعلهم عبيدًا". وهناك تقارير تشير إلى أن الفتيات المخطوفات تم بيعهن للزواج من خاطفيهن بمبلغ زهيد قدره 12 دولارًا للواحدة. ويعتقد أن الفتيات محتجزات كرهائن في الغابات الكثيفة الواقعة في محمية سامبيزا الطبيعية القريبة من الحدود مع الكاميرون وتشاد، حيث تم طرد "بوكو حرام" إليها من قبل مجموعات الرقابة الشعبية للحفاظ على الأمن، والتى ظهرت في مدن مثل مايدوغوري.
وينقل مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي عن المحلل النيجيري كريس نجوودو، قوله: "كان ظهور بوكو حرام علامة على نضج جرح متقيح، استمر فترة طويلة، نتج عن قوى متطرفة، وكان هذا الجرح يضرب بجذوره عميقًا في الواقع الاجتماعي السائد في الشمال النيجيري. ولكن كانت هذه المجموعة نتاجًا لهذا الجرح وليست سببًا فيه. وكان أحد أعراضه هو عقودا من الحكم الفاشل، وإهمال النخبة الحاكمة، واللذين أنضجا في النهاية فوضى اجتماعية".
ومن جهة أخرى، أفادت منى علمي، المتخصصة في الحركات الأصولية، في تقرير لها نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، بأن هناك فصيلًا آخر يسمي نفسه القاعدة فيما وراء الساحل، ويوجد أيضًا في نيجيريا. وكانت عملية خطف وقتل مواطنين بريطانيين وإيطاليين في عام 2012 تحمل ملامح العمليات نفسها التي شنها مختار بالمختار، وهو قائد في جماعة المغرب الإسلامي، وهو الذي أتقن ونظم ما يسمى اليوم بـ "اقتصاد الخطف".
وقالت منى علمي: ربما يؤدي المزيد من التعاون بين "بوكو حرام" والأنصار وفصائل مسلحة أخرى في المنطقة إلى مفاقمة وزيادة التوترات بين المسيحيين والمسلمين في منطقة تحكمها دول ضعيفة أو فاشلة، كما يمكن أن يؤدي ذلك إلى توسيع طموحاتها إلى ما وراء حدودها الإفريقية. وكما هي الحال في مالي أو الجزائر، ربما يصبحون معتمدين أكثر فأكثر على عمليات الخطف المجزية، واقتصاد الإرهاب.