تشكل قضية تحقيق التنمية المستدامة في دول حوض النيل مشكلة ذات أبعاد متعددة يتطلب حلها تكاتف كافة دول الحوض، مع ضرورة وقف الصراعات العرقية في جنوبه وشرقه. ولتوضيح أبعاد وحدود التنمية المستدامة في دول الحوض، نظم معهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة مؤتمراً دولياً تحت عنوان " التنمية المستدامة للموارد الطبيعية في دول حوض النيل" ، حضره نخبة من الخبراء والأكاديميين المتخصصين في العلوم البيئية والمائية. وتمثلت القضايا التى تناولها المؤتمر في كيفية تحقيق التنمية المستدامة للموارد المائية بدول حوض النيل، وسبل تحقيق التكامل الزراعي بين الدول الإفريقية، والعوامل البشرية والصراعات السياسية والتغيرات المناخية، وتأثيرها فى الموارد الطبيعية، فضلاً عن إدارة الموارد الأرضية، وسعى المؤتمر إلى تقديم فهم أعمق لطبيعة الصراعات الداخلية والتدخلات الاجنبية، وانعكاساتها على دول حوض النيل.
في البداية، أكد السفير صلاح الدين عبد الصادق، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، أن التنمية المستدامة للموارد الطبيعية بدول حوض النيل هي بمنزلة قاعدة أساسية يرتكز عليها الاقتصاد وإنتاج السلع والخدمات، كما أن توفر الموارد الطبيعية وكيفية الحفاظ عليها يعبر الآن عن أهم العوامل الأساسية المحددة للمستقبل. فتقارير المنظمات الدولية تشير إلى أن عديدا من التحديات التي تواجه القارة الإفريقية من التصحر والتغيرات المناخية تتطلب بذل المزيد من الجهد في التنمية الزراعية للاستفادة من الموارد الطبيعية. وقد أكد المشاركون في الجلسة الافتتاحية أن التنمية المستدامة ترتكز على ثلاثة مجالات رئيسية هي النمو الاقتصادي، وحفظ الموارد الطبيعية والبيئية، والتنمية الاجتماعية. وتتوقف التحديات على طبيعة المجتمع المستهدف بالتنمية. ولتحقيق التقدم، يجب القضاء على النزاعات الداخلية التي تمثل عائقا أمام دول حوض النيل في تحقيق التعاون، ومن ثم الاستقرار السياسي للوصول إلى علاقات دولية ناجحة.
تحديات تحقيق التنمية وطرح الحلول:
قال دكتور زكريا عبد الرحمن الحداد، أستاذ الهندسة الزراعية بكلية الزراعة، إن التنمية المستدامة لدول حوض النيل هي الأقل نمواً في العالم، وتتراوح نسبة السكان الحضر إلى اجمالي عدد السكان عام 2008 بدول الحوض بين نحو 11% في بوروندي إلى نحو 43% في مصر، مما يدل على أن أغلب السكان يعتمدون في دخلهم على قطاع الزراعة، مما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر، حيث يعيش تحت خط الفقر نسبة كبيرة من السكان. كما أن متوسط نصيب الفرد من استهلاك الكهرباء بالكيلووات يتراوح بين 956 في مصر إلى 5.27 في إثيوبيا. ويشير مؤشر مستوى ندرة المياه المتجددة في دول الحوض إلى تفاوت كبير، حيث يتراوح بين 19967 متر مكعب سنوياً في الكونغو إلى 703 أمتار مكعبة سنوياً في مصر، مما يشير إلى حدة الفقر المائي في مصر مقارنة بباقي دول الحوض. وأضاف المتحدث أنه لإحداث تنمية مستدامة، ينبغي تطبيق مزيج من نظام الزراعة العضوية ونظام الزراعة الدقيقة، وذلك للمحافظة على البيئة، وفي الوقت نفسه ضمان إنتاج غذاء وكساء كاف وآمن لدول الحوض.
وأشار دكتور عباس شراقي، مدير مركز تنمية الموارد الطبيعية والبشرية بالمعهد، إلى أن المشكلات المترتبة على استخدام مياه النيل لأكثر من دولة قد يتعدى ضررها الدول الأخرى وكذلك الهواء والغلاف الجوي فوق كل القارات إذا اختل توازنه، وقد ينتشر هذا الاختلال ويتعدى حدوده الجغرافيه. فالعالم اليوم يعيش تحت وطأة مشكلات بيئية ضخمة تكتسب صبغة كونية، وعلى رأسها التغيرات المناخية المترتبة على ظاهرة الاحتباس الحراري، لذلك يجب أن تدرك دول حوض النيل الأهمية الاقتصادية لشعوب دول الحوض، مع رغبتها القوية للاستفادة من موارد نهر النيل والتي توثق علاقتها معاً وفقاً لتنمية مستدامة لكل دول الحوض، آخذين في الحسبان أن نهر النيل مورد طبيعي وبيئي لكل دول الحوض. فمبادرة حوض النيل هي أساس التنمية المستدامة وأساس للحوار حول مياه النيل، فالتكامل ضروري لحماية المنطقة من المخططات التي تحيط بها.
وقد ألقى المتحدث الضوء على المشاكل الطبيعية الموجودة في إثيوبيا والمخاطر الجيولوجية التي تواجهها، والتي تتسبب في فشل 70% من مشروعاتها المائية لأسباب جيولوجية، موضحا أن المخاطر الجيولوجية ستحول دون تحقيق الأهداف المرجوة من سد النهضة، قائلا إن المشاكل الطبيعية في إثيوبيا تتعلق بالأمطار والبخر ونوعية الصخور والتشققات والزلازل والبراكين والترسيبات المعدنية. فإثيوبيا يقسمها الأخدود الإفريقي، وهو أكبر فالق جيولوجي على سطح الكرة الأرضية. وأوضح تقرير اللجنة الإفريقية أن الدراسة غير كافية لبناء السد، وبالتالي يتضح أن ما حققته تلك الأزمة هي مكاسب سياسية فقط.
وعرض دكتور أحمد سيد شحاتة، أستاذ الجغرافيا بالمعهد، لنسبة سكان حوض النيل اليوم التي تبلغ نحو 14 مليون نسمة طبقا لتقديرات 2014 مقارنة بحجم سكان القارة الافريقية البالغ نحو مليار ومائة مليون نسمة، أي نسبة 40% من سكان القارة، مقارنة بنصيب الحوض من الماء السطحي، والبالغ نحو 12% فقط، مما يؤكد عدم التوازن بين السكان والموارد. ومن هنا، جاء التفكير في كيفية توزيع حصص المياه السطحية الحالية على دول الحوض ومدى الحاجة إليها مقارنة بكمية الموارد المائية المتاحة في كل دولة، وتحليل العلاقة بين الحجم السكاني الحالي وموارد الدولة، ومقارنة ذلك بحجم السكان المستقبلي عند تمام ربع القرن الحالي.
كما ركز المستشار محمد فكري جرانة، مدير إدارة تحسين الأداء البيئي بوزارة الطيران، على موضوع الاقتصاد الأخضر وأهميته بحسبانه نموذجا جديدا من نماذج التنمية الاقتصادية السريعة النمو في مجال الاستثمارات الخضراء التي تهدف إلى معالجة العلاقة المتبادلة ما بين الاقتصاد والنظام البيئي الطبيعي، والأثر العكسي للنشاطات الإنسانية على التغير المناخي، والاحتباس الحراري، واستنزاف الموارد. فبناء الاقتصاد العالمي الأخضر في سياق التنمية المستدامة هو مسعى جماعي للمجتمع الدولي والقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني والحكومات المحلية، حيث يشكل الطريق نحو الاقتصاد الأخضر تحديا خاصة للبلدان النامية. لذا، من المهم أن نستفيد من الفرص المتاحة، وينبغي تصميم السياسات الاقتصادية والبيئية لتكون داعمة لبعضها بعضا، ومن الضروري أيضا تعبئة الإرادة السياسية لجعل التمية المستدامة حقيقة واقعة، مع وجود تعاون دولي حقيقي.
تأثير الصراعات السياسية فى الموارد الطبيعية:
تحدث دكتور هشام الليثي، مدرس التصميم المعماري وأنثروبولوجيا العمران بكلية الهندسة، عما تمثله منطقة حوض النيل من مركب صراعي بالغ التعقيد والتشابك، مؤكدا أن المنطقة شهدت أنماطاً متعددة من الحروب الأهلية والأقليمية، والنزاعات الحدودية، والتوترات القبلية، فضلاً عن الصراعات على الموارد الطبيعية، مما دفع بأطراف دولية عديدة إلى التدخل، إما لدواع إنسانية في الظاهر أو لحماية مصالحها ومناطق نفوذها الحقيقية. وللأهمية الجيوستراتيجية لهذا الأقليم، وغناه بالثروات الأرضية، شهدت هذه المنطقة أخيرا كثيراً من الانشقاقات التي تمس علاقات الجوار الجغرافي والأمن المائي التي عانته دول الحوض المختلفة، سواء كان محلياً، أو إقليمياً، أو عالميا. وقد ركز على أهمية وخطر الصراع الدائر وأثره على المنطقة ، وضرورة فهم واستيعاب الأسباب المختلفة لذلك الصراع، وما يجب فعله من أجل تخفيف حدته، والدعوة إلى اعتماد موقف جماعي يحمل استراتيجية الحل.
وأكد المتحدث أن الصراع القادم هو صراع الموارد المائية والطاقات المتجددة، وأن ندرة الموارد قياساً بمدى الحاجة إليها خلقت فجوة كبيرة. ومن هنا، جاءت فكرة كثير من الدول عقد مقارنة بين البترول والمياه، ودرجة تقاسم الموارد وما خلفته من عنف. فتقارب مستوى القوى أعطى نوعا من التنافس.
وقد أدت إمكانية الحصول على موارد بديلة إلى تقليل حدة الصراع مثلما حدث في أنجولا. فبعد اكتشاف النفط، تحسنت علاقات الجوار بسبب الغاز الطبيعي. وبرغم أن إفريقيا مساحتها كبيرة، فإن معظمها لا يصلح للسكن، وذلك أدى إلى صراع سياسي وانقلابات عسكرية، هذا بالاضافة إلى الكوارث الطبيعية التي تتعرض لها القارة، وإهمال الحكومات والقيادات السياسية لتلك الأزمات. ومن هنا، تأتي الإثنيات وتصطدم مع غيرها وتستعين بجهات أجنبية، ويحدث الصراع على الجانب الإقليمي عندما تتعارض مصالح الدول مع بعضها مثل إثيوبيا، وإريتريا، وإقليم شرق الكونغو، والصراع على المستوى المحلي مثل الجماعات الإثنية في رواندا وبورندي، والصراع في السودان، والتقسيم الداخلي، علاوة على الكونغو الديمقراطية.
وأوضحت الباحثة رنا عصام عبد العزيز كيف أثرت الحرب الأهلية في جنوب السودان فى استكمال قناة جونجلي، وأخيرا انفصال جنوب وشمال السودان، وتأثيرها فى مياه النيل، قائلة إن الباحثين لا يمكنهم الفصل بين قضية مياه النيل، والتحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تشهده دول حوض النيل منذ التسعينيات.
فالحروب الأهلية، سواء المحلية أو الإقليمية، تولد حربا باردة جديدة تحول دون الاستقرار والتكاتف، وبالتالي تعوق التنمية في منطقة حوض النيل.