تؤكد عديد من المعطيات بأن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لن يذهبا بعيداً في خلافاتهما، ولن يصلا إلى حد مغادرة مربّع العملية التفاوضية، وأن ما يجري بينهما مجرّد عضّ أصابع، على الأرجح، وليس كسر عظام، إذ أن كلاً منهما حريص على استمرار هذه العملية لأسبابه الخاصة.
ومع أن إسرائيل هي الطرف الأقوى، والمسيطر، في هذه المعادلة، إلا أنها تبدو معنيّة بالحفاظ على الواقع الراهن، المتضمّن وجود سلطة فلسطينية في الأراضي المحتلة (1967)، مهما بلغت الخلافات معها، طالما أن هذه تتحكم بشعبها، وتلتزم بقواعد اللعبة، لا سيما أن وجود هذه السلطة يجنّب إسرائيل تحمّل أي مسؤولية إزاء الفلسطينيين، ويغطّي على حقيقتها كدولة استعمارية تسيطر على حياة شعب آخر بالقوة والإكراه.
لكن هذا الاستنتاج لا ينبغي التعويل عليه كثيراً، لأن إسرائيل لديها عدة خيارات بديلة عن الاستمرار في عملية التفاوض مع الفلسطينيين، في حال تشدد هؤلاء، من ضمنها، مثلاً، استمرار الواقع الراهن، أو الذهاب نحو خيار «الحل الأحادي»، أي الانفصال من طرف واحد، في إطار من السيطرة الإسرائيلية، بخاصّة أنها كانت جرّبت هكذا خيار لدى انسحابها من قطاع غزة (2005). ومعلوم أن هذا الانسحاب، في حينه، لم يقلل من مدى سيطرتها على الفلسطينيين، ولم يؤدّ إلى تغيير جذري في طبيعة الكيان الفلسطيني، كما أنه لم يثر ردّ فعل من القيادة الفلسطينية، لإدخال تعديلات على المعادلات التي تأسست عليها عملية التسوية في اتفاق أوسلو (1993)، طالما أن إسرائيل قامت بإجراء تغييرات أحادية من جانبها.
وفي الواقع فإن إسرائيل تشعر بأنها مطلقة اليد تقريباً في السياسات التي تنتهجها إزاء الفلسطينيين، في هذه المرحلة، وذلك بالنظر إلى توافر مجموعة عوامل، أولها وجود شبكة كبيرة وعميقة ومعقدة من علاقات الاعتمادية التي تربطهم بها، في المجالين الاقتصادي والأمني، ومن البضائع الاستهلاكية إلى حركة المرور بين القرى والمدن وصولاً إلى المعابر الخارجية، ناهيك عن المياه والكهرباء والوقود. وثانيها، صعوبة وضع السلطة، التي وضعت كل رهاناتها، وبنت أوضاعها، على نجاح العملية التفاوضية، لا سيما مع وجود طبقة سياسية باتت متقادمة ومستهلكة وتدين بمكانتها ونفوذها إلى ضمان استمرار هذه العملية، ولو بأي ثمن، ومع الأخذ في الاعتبار اعتمادية السلطة في موازناتها ورواتب موظفيها على الموارد المالية المتأتية من مصادر خارجية. وثالثها، أن الواقع العربي السائد اليوم في حالة انتقالية، وفي مرحلة اضطراب، بمعنى أنه لا يمنح السلطة هامش مناورة مريحاً، في مواجهتها للإملاءات الإسرائيلية. ورابعها ينبع من وهن الموقف الأميركي، الذي لم يحتمل إلقاء مسؤولية تعثّر العملية التفاوضية على إسرائيل، ولو يوماً واحداً. وقد شهدنا كيف قامت الناطقة بلسان وزارة الخارجية الأميركية بالتخفيف من تصريحات جون كيري وزير الخارجية، الذي حمّل القسط الأكبر من المسؤولية عن فشل المفاوضات إلى حكومة نتانياهو، بسبب عدم التزامها الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، وإعلانها عن مخططات استيطانية جديدة!
ومع الأخذ في الاعتبار بكل هذه الحيثيات الضاغطة إلا أن الفلسطينيين يملكون إمكانية ومشروعية قلب الطاولة التفاوضية، على رغم ضعفهم، وصعوبة موقفهم، ولكن هذا منوط بتوافر الإرادة عند القيادة المعنية، وباستعدادها لتحمل مسؤولية هكذا قرار، لا سيما أن لا شيء يفيد بأن وضع الفلسطينيين، إزاء إسرائيل، مع التسوية أفضل منه معها من دون تسوية. بل على العكس، فثمة ما يفيد بأن الفلسطينيين لن يخسروا كثيراً في حال حاولوا تغيير المعادلات التفاوضية المجحفة والمهينة، وأنهم سيخسرون حتماً في حال تورّطوا بالرضوخ لإملاءات إسرائيل، بخاصة بعد أن باتت هذه تظهر على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية.
وربما أن في الوضعين الدولي والإسرائيلي، ما يشجّع الفلسطينيين على تحقيق هذه النقلة. فعلى الصعيد الدولي باتت إسرائيل في وضع صعب، إذ لم يعد العالم يتقبّلها كما في السابق، لا سيما على ضوء انفتاح مسار نزع الشرعية عن سياساتها، واتساع نطاق المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية لمؤسساتها، ما قد يفتح مستقبلاً الأبواب باتجاه إثارة الشك حول مشروعيتها وحول مبرّر وجودها. أيضاً، فإن ما يعزّز مكانة القيادة الفلسطينية، إزاء إسرائيل، أن فكرة دولة الفلسطينيين باتت فكرة دولية، بمعنى أن العالم لن يسمح لإسرائيل بتقويض الكيان الناشئ، ولا لأي سبب. كما يأتي ضمن أوراق القوة الفلسطينية، إزاء إسرائيل، حقيقة أن هذه حريصة على وجود غطاء فلسطيني، يتمثل بالسلطة، لأن مجرد وجوده يغطي واقعها كدولة احتلال، ويبيّض سياساتها العنصرية، ويضفي الشرعية على محاولاتها تخليق واقع من نظام مختلط، استعماري، وعنصري، حكم ذاتي. أما على الصعيد الإسرائيلي فإن إسرائيل، وعلى عكس ادعاءاتها وتهديداتها، حريصة على وجود غطاء فلسطيني، يتمثل بالسلطة، لأن مجرد وجوده يغطي واقعها كدولة احتلال، ويبيَض سياساتها العنصرية، ويضفي الشرعية على محاولاتها تخليق واقع من نظام مختلط، استعماري، وعنصري، وحكم ذاتي.
وربما يجدر لفت الانتباه إلى أن ما ذكرناه لا يعبر عن وجهة نظر فلسطينية، فحسب، إذ ثمة إسرائيليين يتحدثون على هذا النحو، مؤكدين بأن نتانياهو يأخذهم إلى طريق سيضر بهم. وهذا تسفي بارئيل، مثلاً، يشرح ذلك بالعبارات الآتية: «هذه ليست المرة الأولى التي يتسلى فيها نتانياهو بالعقوبات ضد السلطة الفلسطينية. لكن لقراره اليوم وزن متراكم قد ينفجر في وجهه ووجه إسرائيل. تتعالى الأصوات التي تدعو عباس لحل السلطة. بموازاة ذلك قد يدفع عباس باتجاه المصالحة مع «حماس». في الحالتين ستنتقل المسؤولية المباشرة لإدارة الضفة إلى يد إسرائيل التي ستضطرّ لتفعيل خدمات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية. وتصبح العقوبات التي فرضها رئيس الحكومة ليست ذات صلة بالواقع، وستبحث المكاتب الحكومية على ضوء الشمعة عن شركاء فلسطينيين لإدارة شؤون الضفة بالنيابة عنها. العقوبات التي فرضتها وقد تفرضها إسرائيل تشكل خطراً ليس على علاقتها مع السلطة فحسب بل أيضاً مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية. العقوبات بالذات تعبر عن ضعف وقصر نظر». («هآرتس»، 10/4)
وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن مشكلتهم، في هذا الإطار، تكمن في أن قيادتهم لم تهيئ لهذا اليوم، أي أنها لم تعد ذاتها وحركتها الوطنية وشعبها للقطيعة مع العملية التفاوضية، أو لتغيير أسسها. أي أن هكذا أمر كان يستلزم من هذه القيادة تعزيز الطابع المؤسسي والديموقراطي والتمثيلي لبنى السلطة وهيئاتها الشرعية، وحثّ الجهود لإنهاء الانقسام، ورفع الحصار عن غزة، وتفعيل منظمة التحرير، وإنهاء حال التماهي بينها وبين السلطة، واستثمار طاقات الفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، واحتضان أشكال المقاومة الشعبية والمقاطعة الاقتصادية لإسرائيل وتعزيز مسار نزع شرعيتها على الصعيد الدولي.
اللافت أن القيادة الفلسطينية بدلاً من كل ذلك كانت تكبح مبادرات المقاومة الشعبية، وتبالغ في علاقات التنسيق الأمني، وتغضّ النظر عن غزو البضائع الإسرائيلية للسوق الفلسطينية، كما أنها تركت غزة لمصيرها، وهمّشت منظمة التحرير، وغيبت مؤسساتها وأطرها لصالح السلطة. وعلى صعيد الثقافة السياسية فقد أضحى الأمر يتعلق فقط بالاحتلال الذي بدأ عام 1967، وبعدم مشروعية الأنشطة الاستيطانية في الضفة، في حين جرى الفصل عن اللاجئين وعن قضيتهم، لصالح التركيز على إقامة كيان سياسي للفلسطينيين في الضفة وغزة.
على أية حال فقد كان من المهم للقيادة الفلسطينية أن تأخذ موقفاً شجاعاً، يؤمل أن يستمر، إزاء الإملاءات الإسرائيلية المهينة، لكن هذا الموقف كان ينبغي أن يكون في الحسبان من زمان، بالنظر إلى دروس التجربة التفاوضية المريرة، كما كان ينبغي أن يأتي بالتساوق مع بيئة سياسية وشعبية، قادرة على احتضانه وحمايته والبناء عليه.
أخيراً، يبقى ثمة تحفظ في شأن اعتبار دخول «دولة فلسطين» في عديد من المنظمات الدولية بمثابة انتصار تاريخي، على أهميته، أولاً، لأن هذا الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، ولا يجوز تصويره على هذا النحو. وثانياً، لأن هذا الإنجاز يأتي على حساب هزيمة المشروع الوطني وحركة التحرر الفلسطيني، وفي سياق تآكل معنى قضية فلسطين وشعب فلسطين. والحقيقة فقد آن الأوان للتحرر من المبالغات والشعارات والقوالب السياسية السائدة، وتسمية الأشياء بأسمائها.
-------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، الثلاثاء، 15/4/2014.