تشهد اللحظة الدولية الراهنة نمطا صراعيا متناميا في عديد من المناطق الاستراتيجية حول العالم، ليس أقله ما يشهده بحر الصين الجنوبي من تنازع علي السيادة بين الصين وعدد من دول جوارها، ويبدو أنه لن يكون آخره الصراعان المستعران حاليا حول سوريا وأوكرانيا.
ويكشف أي اقتراب تحليلي معمق عن أن الخطوط الجغرافية التي تتفجر حولها أغلب تلك الصراعات تتماس بدرجة كبيرة مع خطوط نفوذ القوي، الدولية أو الإقليمية، التي تحاول الدفع باتجاه عملية مراجعة لهيكل النظام الدولي وتراتبية القوي. ما وصفه بعض الساسة بـ "محاولة حصار" القوي التي تحاول تحدي القيادة الأمريكية المأزومة للنظام الدولي. بل إن وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، نفي -في تصريح أخير له يوم الأحد 30 مارس- أن يكون التدخل الغربي في أوكرانيا محاولة لحصار الاتحاد الروسي، بحسب ما يتوهم قادته، علي حد تعبير كيري.
إلا أن الاقتراب التحليلي لعناصر تلك الصراعات يكشف كذلك عن أن خطوط العديد من المتفجر منها حول العالم الآن تتقاطع كذلك مع فضاء الطاقة العالمي، سواء فيما يتعلق من جهة بمصادر الطاقة في منطقة الخليج العربي، أو بعض الدول في إفريقيا، أو أمريكا اللاتينية، أو فيما يتعلق من جهة أخري بممراتها البرية أو البحرية، كما يبدو الحال في منطقة بحر الصين الجنوبي، وفي سوريا، وأوكرانيا، وقبلها جميعا في الصراع علي أبخازيا منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، وعلي أوسيتيا الجنوبية في عام 2008، أو فيما يتعلق أخيرا بتقنيات استخدام الطاقة، حيث يبرز الصراع الغربي مع إيران بحسبانه الأكثر حدة في هذا السياق.
تطرح هاتان الملاحظتان تساؤلين جوهريين، أولهما يتعلق بحدود دور الطاقة في تلك الصراعات، وبالتالي في المعركة الدائرة حول إعادة هيكلة النظام الدولي. أما آخرهما، فيتعلق بماهية هذا الدور: هل هو دور العامل المحفز للصراع ولمساعي التغيير في النظام الدولي وحدوده، أم دور الأداة التي يتم توظيفها في إدارة الصراعات الرئيسية، ومساعي تغيير النظام الدولي في المرحلة الحالية؟ وبالرغم من أن هذين التساؤلين حظيا تقليديا باهتمام أكاديمي واسع أفرز العديد من النظريات المفسرة لموقع الطاقة من حركة التفاعلات الدولية، فإن طرحهما في اللحظة الدولية الراهنة يكتسب أهمية خاصة، في ضوء متغيرين جديدين يميزان السياق المحيط بالتساؤلين بسمة فارقة، ألا وهي السعي من أجل تجاوز الأشكال التقليدية السابقة، سواء علي مستوي النظام الدولي، كما سلف الذكر، أو حتي علي مستوي البحث عن مصادر جديدة للطاقة، أو بالأحري البحث عن تقنيات جديدة لاستغلال أكثر رحابة لمصادر الطاقة المتاحة، حسبما سيلي بيانه لاحقا.
تلك الأسئلة، ومدي تأثير حضور كل منها في السياسات الخارجية لبعض القوي الدولية الرئيسية في سوق الطاقة العالمي، استهلاكا كان أو إنتاجا، تعد محور العدد الحالي من ملحق "تحولات استراتيجية"، فيما سنحاول في الجزء التالي من هذا التقديم مراجعة بعض الافتراضات الرئيسية حول العلاقة بين الطاقة والعلاقات الدولية.
الطاقة وبناء العالم المعاصر:
لعبت الطاقة وتقنيات استخدامها دورا فارقا في لحظات تحول رئيسية في بنية النظام الدولي. ولعل النماذج الثلاثة الرئيسية في هذا السياق، في التاريخ الحديث والمعاصر، تتمثل في:
أولا- اختراع المحرك البخاري في القرن الثامن عشر، والذي أتاح آنذاك امتداد النفوذ البريطاني إلي مناطق واسعة من العالم، وكذلك بدء تأسيس الدولة الأمريكية التي نعرفها، مع امتداها إلي مناطق الثروات في وسط البلاد وغربها. إلا أن الأهم كان إطلاق طاقات الثورة الصناعية لتعيد صياغة شكل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والدولية في أوروبا، ومنها إلي العالم بأسره.
ثانيا- اكتشاف آلية تقطير النفط في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع -عام 1953 تحديدا- حيث منح النفط المكرر الثورة الصناعية والعالم إمكانيات هائلة للتوسع المكثف آنذاك، بالنظر إلي سهولة استخدامه وكفاءته، ليصبح النفط منذ ذلك الحين أداة لنمو القوي الدولية وتوسعها، وموضوعا لصراعاتها. وباتت مناطق توافر النفط تحظي بأهمية استراتيجية في النظام الدولي لم تكن لكثير منها في السابق، حتي بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط التي كان لها تقليديا أهمية استراتيجية كمنطقة عبور متوسطة لحركات التجارة والغزو في العالم، قديما وحديثا.
ثالثا- اكتشاف الطاقة النووية في منتصف القرن العشرين، والتي إلي جانب ما بدا لها من تجليات صناعية وتقنية لم تبلغ مداها بعد في مجالات متعددة من حياة البشر وأنشطتهم، كان لها الأثر الحاسم في تحديد الأوزان العسكرية للقوي الكبري حول العالم، وكذلك في تحديد طبيعة الصراعات المسلحة حول العالم، ومداها، وبالتالي الحدود الممكنة لتفجرها وانتشارها. بعبارة أخري، أضحي الردع النووي، وصعوبة القبول بتفجر صراع نووي، عاملا مهما في تحديد أشكال الصراعات المسلحة الممكنة، ومناطق تفجرها، وطبيعة التدخل الدولي فيها. ولعل النتيجة الأبرز في هذا الصدد تتمثل في بروز نمط الحروب بالوكالة في النظام الدولي، ليصبح هو الأداة الرئيسية لإدارة كثير من الصراعات الدولية بين القوي الكبري التي لم تعد تملك "رفاهية" الصدام العسكري المباشر.
خلاصة القول، من كل ما سبق، إن الطاقة وتقنيات استخدامها لعبتا دورا مهما في تطور النظام الدولي المعاصر، سواء من حيث تحديد إمكانيات نمو القوي الدولية وتوسعها، واتجاهات هذا النمو وهذا التوسع، أو من حيث تحديد شكل الصراع الدولي وموضوعه وحدوده. لم تكن الطاقة في حد ذاتها العامل الحاكم في تحديد قوة دولة ما، أو مكانتها. فامتلاك الطاقة في حد ذاته لم يكن هو من يحسم مكانة الدولة في بناء القوة الدولي، لكن الطاقة كانت دوما متغيرا وسيطا، يحدد شكل توظيفه، وتقنية استخدامه هذه القوة، وحدودها.
وفي هذا الإطار، يبدو أن امتلاك دول الخليج العربية لأكبر احتياطيات العالم من النفط لم يكن عاملا حاسما في احتلال هذه الدول لمكانة في النظام الدولي، تفوق أو حتي توازي مكانة دول أخري لا تمتلك تلك الاحتياطيات نفسها، أو حتي قدرا يسيرا منها، لكنها أكثر تقدما بمعايير القوة المعرفية، أو الاقتصادية، أو العسكرية أو السياسية. بعبارة أخري، فإن حجم استخدام الطاقة، ومدي كفاءته هما العنصر الحاسم في تحديد مكانة الدول من سلم القوة الدولية الشامل. إلا أن ذلك لا ينفي كذلك أن من يمتلك الطاقة يمتلك ما يمكن تسميته بالقوة السلبية، أي قوة منع الطاقة عن مستخدميها. ولعل النموذج الأبرز يتمثل في حظر البترول العربي في عام 1973 إبان حرب أكتوبر من العام ذاته، أو في التهديد الروسي بمنع تدفق الغاز الطبيعي إلي أوروبا، في خضم الصراع الذي تفجر بسبب إطاحة الرئيس الأوكراني يانكوفيتش، وما تلاه من تصاعد لأزمة شبه جزيرة القرم الذي انتهي بضمها إلي الاتحاد الروسي.
الطاقة ومستقبل الصراع الدولي:
في إطار ما تقدم عن دور للطاقة في تطور النظام الدولي، يبدو بوضوح أن الطاقة كانت منذ منتصف القرن العشرين موضوعا للصراع الدولي من حيث محاولة السيطرة علي المناطق الغنية بها، أو إخضاعها لنفوذ قوة دولية دون أخري كجزء من عملية "ضمان أمن الطاقة" للقوي الكبري، أو من حيث استخدامها كأداة للردع في مواجهة أطراف دولية أخري. وفي الواقع، فإنه، منذ الحين، جري الكثير من المياه في قنوات العلاقات الدولية التي تستدعي طرح أسئلة محورية حول واقع هذين النمطين لحضور الطاقة في الصراع الدولي.
بات عالم اليوم أكثر تكاملا بدرجة غير مسبوقة، انتشارا وكثافة، خاصة فيما يتعلق بالآثار الاقتصادية التي تمتد بالفعل كانهيار قطع الدينامو بشكل متتال، ويصعب كثيرا وقفه عبر مختلف مناطق العالم. ولعل في الأزمة المالية العالمية دليلا جليا علي هذا الواقع. في هذا الإطار، باتت الافتراضات القائلة إن السعي إلي احتكار مصادر الطاقة، أو السيطرة عليها، أو منعها أحد المقومات المهمة في بناء قوة الدول، أو تحديدها، تحتاج إلي قدر كبير من المراجعة والتدقيق لبيان مدي جدواها، وواقعيتها، وحدود تحققها.
بالتأكيد، ستستمر الدول جميعا في السعي إلي ضمان أمن موارد الطاقة التي تحتاج إليها لأغراض مدنية أو عسكرية، سواء فيما يتعلق بضمان مصادر منتظمة وآمنة، أو بضمان طرق ووسائل نقل آمنة. لكن افتراض أن احتكار الطاقة، أو منعها بشكل جوهري، قد يعزز قوة دولة ما، أو مجموعة دول، في مواجهة منافسين آخرين، بات موضع شك كبير. ففي ظل العولمة الاقتصادية الراهنة، وفي ظل استمرار هيمنة النفط والغاز علي سوق الطاقة العالمي، باتت الآثار المدمرة والخطيرة لمثل هذا الخيار غير قابلة لضبطها في حدود معينة، خاصة في حال استهداف إحدي القوي الاقتصادية الكبري في العالم. وعلي سبيل المثال، فإن منع الطاقة عن الصين قد يرتب آثارا تضخمية مدمرة تمس الاقتصاد العالمي بأسره. لذلك، لم تتكرر تجربة حظر النفط العربي مجددا، علي الرغم من الأزمات العديدة التي هددت المنطقة، كما لم تلجأ كل من روسيا أو الغرب إلي التطبيق الفعلي للتهديدات المتبادلة المرتبطة بمنع الغاز الطبيعي، أو حظره. وباستثناء حالة إيران، حيث بدا أنه بالإمكان تعويض حجم إنتاجها من النفط، لم يشهد النظام الدولي حظرا مماثلا علي الطاقة خلال العقود الأخيرة.
بل إن دول الغرب، التي تعارض بشدة امتلاك إيران لتقنية التخصيب النووي، تشجع في المقابل استخدام دول العالم المختلفة، بما في ذلك إيران، للطاقة النووية في الأغراض السلمية، بشرط عدم امتلاك تقنية التخصيب، والحصول علي اليورانيوم المنضب من بنك دولي، يجري إعداده لهذا الغرض. بعبارة أخري، يبدو أن ضمان أمن الطاقة بات موضوعا للتعاون الدولي أكثر مما هو موضوعا للصراع، في ظل العولمة الاقتصادية.
ويبقي أن التحول الجوهري في موقع الطاقة من النظام الدولي يتعلق بأحد عاملين، لا يبدو أن أحدهما -رغم الافتراضات الكثيرة بصدده- قريب التحقق، وانتهاء عصر الوقود الأحفوري، أو التوصل إلي تطوير تقنيات إنتاج طاقة من مصادر طاقة بديلة بما يعوض -كما وكفاءة وتكلفة- ما يتم استهلاكه من الوقود الأحفوري. باستثناء أحد هذين السيناريوهين، لا يبدو أننا سنشهد في المستقبل القريب تحولا كبيرا في معادلة الطاقة التي استقرت منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين في النظام الدولي. وغاية ما يمكن توقعه هو أحد احتمالات ثلاثة:
1- حدوث تحول في علاقات قوي دولية معينة، واستبدالها بعلاقات بديلة. علي سبيل المثال، في حال تحول الولايات المتحدة إلي الاعتماد علي الداخل الأمريكي في توفير مصادر الطاقة، قد نشهد تحولا لعلاقات التحالف الاستراتيجي لدول الخليج التفطية باتجاه الشرق الآسيوي.
2- أن يلعب توافر مصدر معين من الطاقة دورا محفزا لنمو قوي دولية جديدة، أو استعادة قوي تقليدية، علي غرار روسيا، لمكانتها الدولية، حال امتلاك القدرة التقنية، والبنية الإنتاجية اللازمة لاستغلال كفء لموارد الطاقة المتاحة.
3- لا يتوقع بروز صراع دولي كبير حول الطاقة، حتي في حال ندرتها النسبية، بسبب خطورة مثل هذا الصراع علي النظام الاقتصادي العالمي بأسره.
4- بات من المؤكد أن السير باتجاه مصادر الطاقة البديلة هو الرهان الأكبر الذي سيحدد المسار نحو ثورة معرفية جديدة، واتجاهات تطور النظام الدولي، وإن كان ذلك لا يبدو قابلا للتحقق إلا في المديين المتوسط أو البعيد. وحينها، سنواجه عالما جد مختلف.