لأن الأمور لا تزال ساخنة وفي حالة سيولة مستمرة، فلا أحد يستطيع أن يقطع بالفترة التي ستمر قبل استقرار الأوضاع كنتيجة لموجة التغييرات السياسية التي حدثت في أنظمة عربية جمهورية بعد موجة الانتفاضات التي وقعت في 2011، وتداعياتها مستمرة وتأخذ أشكالا كثيرة بعضها شديد الدموية كما هو الحال في سوريا التي أصبح فيها حرب حقيقية.
تختلف الدول في تركيبية وتعقيدات مجتمعاتها وظروفها السياسية والاقتصادية بما يجعل كلا منها حالة فريدة لها تفاعلاتها الخاصة، لكن أيضا هناك ما هو مشترك في حركة المجتمعات، وأهم ما فيه هو أنه لا يوجد شيء يحدث في يوم وليلة، وأن انهيار نظام وبناء نظام جديد مسألة تحتاج إلى وقت، وفي كثير من الأحيان لا يمكن تجنب الصراعات التي تندلع نتيجة إزالة الغطاء عن مشاكل كانت مكتومة، وقد تكون هي نفسها سببا في التغيير من الأصل.
نموذج دول أوروبا الشرقية التي خرجت عن إطار الاتحاد السوفياتي السابق دليل على الوقت الذي يحتاجه المجتمع ومؤسسات الدولة في عملية استيعاب الجديد، فالكثير من هذه الدول انضم إلى الاتحاد الأوروبي أو في طريق الانضمام، ولكن لا تزال الفجوة هائلة بينها وبين الأعضاء الغربيين في مستويات المعيشة والتقدم الاقتصادي والإنتاجية.
في المنطقة العربية، هناك النموذج الجزائري الذي يقول البعض إنه كان بداية مبكرة لما شهدته دول عربية أخرى في 2011، وسمي في البداية الربيع العربي، وبعد أكثر من ثلاث سنوات أصبح هناك خلاف حول التسمية بعد أن فتر الحماس وتفجرت صراعات من كل نوع طائفية وعرقية وقبلية، وأصبح البديل في بعض الحالات حربا أهلية أو فوضى عارمة لا يعرف أحد رأسها من قدميها.
البداية في الجزائر كانت في 1988 في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد وقت تراجع أسعار النفط، الأمر الذي سبب أزمة اقتصادية، واندلعت احتجاجات مطلبية معيشية ترافقت مع مطالب في الحرية، وكان الرد عليها عنيفا سال فيه الدم، فكبرت الأزمة، وأدت حركة الاحتجاجات التي لم تقو الدولة على مواجهتها إلى إنهاء نظام الحزب الواحد، ودخول البلاد مرحلة التعددية السياسية، وبقية التداعيات معروفة، وأبرزها صعود الإسلاميين ممثلين في «جبهة الإنقاذ»، ثم الصراع المرير خلال عشر سنوات من العنف المسلح الذي أخذ أشكالا دموية تفوق الوصف مع الجماعات المسلحة التي تفننت في أساليب التفخيخ والتفجير والإرهاب التي راح ضحيتها كثيرون، ونسي الناس أن أصل الاحتجاجات كانت مطالب معيشية وحريات بعد فترة طويلة من حكم الحزب الواحد.
هناك أوجه تشابه بين 1988 وما حدث في 2011، فالقضايا المطلبية والمعيشية كانت في صلب الاحتجاجات والانتفاضات التي حدثت في عدة جمهوريات عربية، وترافقت مطالب الحريات وتحسين شفافية النظام السياسي، ولم تكن هناك مطالب دينية أو طائفية، وقفزت جماعات الإسلام السياسي ليتحول الأمر إلى فيلم رعب من الصراعات والعنف، وكان هناك دائما في الذهن التحذير من الدخول في سيناريو جزائري، في إشارة إلى السنوات العشر التي عاشتها مع العنف وواجهها الجيش هناك.
بعد عشرة أيام تقريبا، يذهب الجزائريون إلى صناديق الاقتراع من جديد لانتخاب رئيس لدورة جديدة، تشير سخونة الوضع الحالي إلى أنها ستكون مفصلية في مراحل الانتقال السياسي بعد انتفاضة 1988، وسنوات الدم في التسعينات التي جاء في نهايتها الرئيس الحالي بوتفليقة، وشهدت البلاد بعدها استقرارا نسبيا مع أجواء الانفراج والانفتاح السياسي والمصالحات التي جرت وتبنتها مؤسسات الدولة، وجرى خلالها المحافظة على أجواء التعددية السياسية.
هناك مشاكل، لكن شتان الفارق بين الوضع الآن وفي الثمانينات؛ فبفضل ارتفاع أسعار النفط أصبح هناك أكثر من 200 مليار دولار احتياطيات خارجية، ومتوسط لدخل الفرد يبلغ 7500 دولار، وتصنف الجزائر على أنها في المرتبة الثانية بين أقل الدول مديونية في منطقة الشرق الأوسط، وهي أرقام تعني أن أدوات النجاح والتطور موجودة ويمكن استخدامها في التطوير والتحديث، والأهم توظيف الشباب، شريطة أن يكون الاستقرار السياسي قائما، وهو أمر يجب المحافظة عليه من قبل النخبة السياسية أيا تكن نتيجة صناديق الاقتراع، فالجزائر دفعت الثمن ويجب ألا تدفعه ثانيا.
----------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الثلاثاء، 8/4/2014.