تستطيع إدارة أي سجن، إن أرادت، أن تكون "ديمقراطية جداً" بأن تتيح للسجناء أن ينتخبوا ب"حرية مطلقة" رئيساً لهم يمثّلهم أمام إدارة السجن والجهات الأعلى . إدارات سجون الاحتلال "الإسرائيلي" تتيح للأسرى الفلسطينيين أن يختاروا هيئاتهم القيادية التمثيلية وممثليهم في صندوق المشتريات والمكتبة . لكن كل ذلك سواء علا سقفه أو انخفض يجري بين أسوار السجن، وفي ظل حالة قمع تسري على الجميع .
القوات الغربية التي احتلت أفغانسان أتاحت للأفغان أن ينتخبوا رئيسهم وبرلمانهم، فكان حامد قرضاي، "منتخباً" بعدما جيء به من الولايات المتحدة . فالرجل له باع تمويلي طويل في محاربة السوفييت، لكن أباه وأشقاءه اغتيلوا على أيدي "المجاهدين" الأفغان وليس على أيدي السوفييت . وخلال اثنتي عشرة سنة من حكمه أفغانستان، لم يستطع قرضاي أن يقدم نموذجاً لنوع جديد من "الديمقراطية" تحت الاحتلال والفقر وانعدام الخدمات وبؤس التعليم وتغلغل الجهل، والغياب المطلق للأمن، والاضهاد المزمن للمرأة والأطفال .
قرضاي نفسه نجا من أربع محاولات اغتيال، ويعيش الساعات الأربع والعشرين من يومه في حالة قلق وخوف وتوجس دائم، حيث لا ينسى أن أشقاءه قتلوا وأن والده اغتيل رغم أنه كان محروساً بسبعة رجال من القوات الخاصة التي كانت تتلقى تدريبات دائمة على أيدي المخابرات الأمريكية من أجل حمايته .
اثنتا عشرة سنة من "الديمقراطية" المحمولة جواً والمنقولة براً مع قوات حلف شمال الأطلسي لم تغيّر شيئاً في مستوى حياة الأفغان الذين يعيش ملايينهم تحت وطأة ظروف صعبة، وليس الفقر أصعبها، ولا تخفى ملامحها ومظاهرها حتى عن العاصمة . لم يجب الحكم الجديد عن السؤال العميق حول علاقة الديمقراطية بالأمن، وما معنى أن يمنح الإنسان حق اختيار رئيس، في حين أنه لا يمنح الحق في الحياة نفسها قبل أن نصل إلى كونها كريمة أم لئيمة . صحيح أن قرضاي رفع صوته أكثر من مرة ضد غارات الطائرات الأمريكية من دون طيار، المتطورة جداً والدقيقة، التي قتلت رعاة أغنام وحفلات أعراس تحت عنوان مهاجمة "مجاهدين"، لكن كل صراخه لم يغيّر شيئاً على الأرض، وها هو يغادر القصر الرئاسي لبلاد ما زالت أرضها محتلة، وشعبها ينتخب وهو يتحرّك على وقع الاختيار بين الموت بعملية انتحارية أو رصاصة قناص، أو تحمّل ضنك العيش وفقره، والتعوّد على السير سبعة أيام على ظهر حمار او بغل لقطع المسافة بين جبل ناء لا تصله سيارة، ومدينة إن وصلتها سيارة تكون مفخّخة، حتى العاصمة التي يفتقر العديد من أحيائها لأبسط مقومات الحياة بما فيها مياه الشرب النظيفة .
اثنتا عشرة سنة من "الديمقراطية" لم تغيّر من واقع أن شبكة الكهرباء لا تخدم سوى 28% من إجمالي سكان أفغانستان الذين تعوّدوا على انعدام اليقين في كل ما يتعلّق بحياتهم، ولا يجدون فرقاً بين أن يختاروا رئيساً أو يفرض عليهم، في حين طبيعة حياتهم والأخطار التي تتهدّدها لا تتغيّر . فالأفغان ومن هم في وضعهم يحتاجون الأمن والحياة الكريمة، ثم بعد ذلك إجراء انتخابات، ولا ضير حينها إذا نقلت صناديق الاقتراع على الحمير، فهي على الأقل بريئة من التزوير .
أمجد عرار
-----------------------
* نقلا عن دار الخليج، الإثنين، 7/4/2014