أعترف أنني لم أتوقع تعليقات متعددة من قرائي الكرام على مقالي الماضي "نحو رؤية استراتيجية لمصر"، وذلك لأنه يطرق موضوعاً له أبعاد نظرية قد لا تهم عديداً من القراء، ولكون المقال كان مجرد مقدمة لسلسلة من المقالات ستتناول أبعاد هذه الرؤية بالتفصيل. غير أنني حين قرأت بإمعان تعليقات القراء على قلتها، أدركت أنها تتضمن إضافات مهمة لما طرحته، أو نقداً لبعض آرائي ينبغي أن أتوقف أمامه لا لنفيه ولكن لمناقشته. وسأبدأ بنقد الأستاذ "محمد عثمان جلال" والذي وضع له عنوانا له دلالة وهو "فكر مجرد". قال فيه "هذه أفكار بالغة التجريد"، وكاتب المقال لم يعرض أي مشكلة لحلها مثل الزيادة السكانية السنوية التي تبلغ 2.5%، كما أنه لم يتعرض للسد الذي تبنيه أثيوبيا على نهر النيل، وختم نقده موجهاً حديثه للكاتب بقوله "فلتهبط إلى أرض الواقع لو سمحت لأنك حاضرتنا عن لا شيء"!
وأنا أعترف بأن المقال -لأنه كان يطرح فكراً نظرياً عن شروط الرؤية الاستراتيجية- لم يتعرض للمشكلات الرئيسية التي تجابه المجتمع المصري في الوقت الراهن لأنه كان مجرد "مقدمة" للموضوع، وليس تحليلاً لكل المشكلات المصرية ابتداء بمشكلة التزايد السكاني انتهاء بمشكلة سد النهضة في أثيوبيا. وقد استفدت من هذا النقد ضرورة التخفيف من الأفكار النظرية والاقتحام المباشر للمشكلات المطروحة على المجتمع، سعياً وراء التماس حلول لها.
وقد سارت الأستاذة "سوسن مصطفى" في نفس اتجاه النقد السابق، وطرحت سؤالاً مهماً هو "كيف يتحول الكلام النظري في بلدنا إلى واقع عملى؟" وطرحت أفكاراً قيمة من واقع خبرتها العملية في مجال الفندقة.
أما الدكتور "الشاذلي" فقد قدم لنا تسع مقترحات لوضع الرؤية الاستراتيجية موقع التنفيذ الفعلي الإيجابي. وأولها ضرورة مصارحة الجماهير وخصوصاً من يقومون بمظاهرات ترفع مطالب فئوية بأن خزينة الدولة لا توجد فيها موارد كافية، وثانيها الابتعاد عن الوعود البراقة والكاذبة التي لا يمكن تنفيذها. ثم لابد من البداية بالأساسيات وهي التعليم والصحة والثقافة، وأن تكون هناك شفافية وخاصة في لقمة العيش والطاقة والحد من الإسراف الحكومي، وتطبيق القانون بدون أي استثناء، وتنظيم الفضائيات والإعلام والصحافة بما لا يخل بحرية التعبير، والبعد عن النظريات الأكاديمية والتركيز على التطبيقات العملية، وأخيراً إشراك الشعب في محاولات الحكومة لحل المشكلات المتراكمة.
وكل هذه النقاط بالغة الأهمية في مجال التنفيذ الفعلي لتوجهات الرؤية الاستراتيجية، وخصوصاً المصارحة والمكاشفة، والتركيز على التعليم والصحة والثقافة، وتقنين وضع الإعلام لأهميته في تكوين الوعي الاجتماعي، وأهم من ذلك على مشاركة الشعب في عملية إصدار القرار، بل والرقابة على تنفيذه كما سعت إلى ذلك ثورة 25 يناير.
أما الأستاذ "ماهر زريق" فقد ركز على مبدأ أساسي من المبادئ التي ركز عليها مشروع مصر 2030، وهو "أن تكون مصر دولة ذات اقتصاد كفء قادر على المنافسة، وذات مجتمع ينعم بجودة حياة مرتفعة"، ورأى أن الحل يكمن في تحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد يكتسب فيه التصدير أهمية قصوى على حساب الاستيراد والاستهلاك.
غير أنني توقفت طويلاً عند تعليق الدكتور "محمد منصور" لأنه قدم مجموعة أطروحات متكاملة.
وهو يبدأ تعليقاته باللغة الإنجليزية قائلاً كمقدمة لمقترحاته "إذا فكرنا في مشروع للتنمية يسعى لتحويل المجتمع إلى مجتمع معلومات حديث يجمع بين التصنيع والتكنولوجيا الحديثة للمعلومات ينبغي أن نلتفت لعدد من المشكلات.
أولاً: لدينا في مصر حوالي 40% أمية و50% حاصلون على شهادات ويظنون أنهم متعلمون مع أن الواقع يثبت العكس. ثانياً: ينبغي تغيير اتجاهات غالبية المصريين الذين لا يريدون أن يتعلموا بقدر ما يريدون الحصول على شهادات. ثالثاً: لابد من تغيير اتجاهات غالبية المصريين، إزاء العمل الذين يريدون كسب مزيد من النقود لقاء عمل قليل. رابعاً: لابد من التركيز على السلوك الأخلاقي لمواجهة الفساد الذي استشرى في العقود الأخيرة. خامساً: لابد من تأسيس ديمقراطية حقيقية تستطيع القضاء على الامتيازات التي تحصل عليها بعض المؤسسات مثل القوات المسلحة والقضاء، والنظام القضائي بالغ الأهمية للحفاظ على حقوق الإنسان. سادساً: علينا أن ننتج خطاباً دينياً جوهره أن المبادئ الأساسية فيه لا تتغير، في حين أن التفصيلات يمكن أن تتكيف مع العصور الحديثة. ويخلص الدكتور "منصور" في النهاية إلى أن ما طرحه هو بعض المشكلات، وهذا لا يمنع من الاهتمام بالمشروعات الأخرى.
والواقع أن قرائي الكرام بتعليقاتهم المهمة أضافوا كثيراً إلى المقال الأصلي، والذي لم يكن سوى مقدمة لموضوع الرؤية الاستراتيجية المصرية.
وفي تقديري أن بعض المقترحات ينبغي أن يضعها رئيس الجمهورية المنتخب – أياً كان شخصه- في صدارة اهتماماته.
وأولها على الإطلاق ضرورة مكاشفة الشعب ومصارحته بالوضع المجتمعي الراهن في مصر. في المجال السياسي لدينا هذا الانقسام الخطير الذي تسببت فيه جماعة "الإخوان المسلمين" أثناء حكمها الاستبدادي القصير، وهو شق المجتمع إلى شقين متصارعين، ونعني جبهة ليبرالية وجبهة دينية تخلط الدين بالسياسة خلطاً معيباً، ولا تتوانى – كما نشاهد يومياً- عن استخدام العنف ليس ضد السلطة فقط ولكن ضد الشعب نفسه والذي تعدى العنف إلى ممارسة الإرهاب.
وفي المجال الاقتصادي لابد من عرض الأزمة الاقتصادية المصرية الفادحة باستخدام المؤشرات الكمية والمؤشرات الكيفية معاً.
وفي المجال الاجتماعي لابد من عرض موضوع اتساع الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء وأفراد الطبقة المتوسطة، وفي المجال الثقافي لابد من التركيز على الجماعات الدينية الرجعية التي غزت عقول البسطاء من المواطنين بدعوات وشعارات دينية مضللة، تدفع بهم إلى التطرف في ممارسة السلوك الاجتماعي، وتعطيهم هوية مزيفة تزعم أنهم أسمى من باقي المواطنين لأنهم أكثر تديناً، بدليل علامات التدين الشكلية التي تنعكس في اللحية أو في الملبس.
ولابد من التركيز على الانهيار القيمي في المجتمع والذي أدى إلى شيوع الفساد بين النخب الحاكمة، وتفشي الرشوة بين جماهير العاملين، ممن يفتقدون الحد الأدنى من الأجور والمرتبات التي تسمح لهم بالعيش بكرامة.
غير أن هذه المصارحة هي الخطوة الأولى، وتبقى الخطوة الثانية الحاسمة، وهي عرض رؤية استراتيجية أمام الجماهير واضحة المعالم محددة الأهداف والوسائل، لكي تكون هي أساس العمل الحكومي والجماهيري.
وتبقى بعد ذلك أهمية إشراك الجماهير –باستخدام آليات متعددة- في عملية صنع القرار والرقابة على تنفيذه. وليكن الشعار السائد "نغير المجتمع معاً" و"نسعى إلى التقدم معاً" ونتقاسم بعدالة ثمار التنمية حتى لا تكون حكراً على الأقلية وتحرم منها الغالبية العظمى، كما كان يحدث قبل الثورة.
غير أن كل هذه التصورات لابد أن تبدأ كما قال الدكتور "منصور" بحق بالتغيير الجوهري في اتجاهات الجماهير إزاء العمل لتصبح أكثر إيجابية. والعمل قيمة عليا نصت عليها الأديان كافة، وفي مقدمتها الإسلام، ويكفي أن نشير إلى الآية الكريمة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون".
-----------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإمارتية، الخميس، 13/3/2014.