10 مارس 2014
بعد جدل احتدم في الفترة الأخيرة حول إمكانية ترشح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية جديدة، حيث تقدم بأوراق ترشحه رسمياً إلى "المجلس الدستوري" في الجزائر، وذلك في الثالث من مارس 2014، على الرغم من عدم شفائه التام من جلطة دماغية أصيب بها قبل عشرة أشهر، ثار جدل واسع بشأن أبعاد ذلك الترشح، في ضوء الوضع الصحي الذي يعانيه الرئيس بوتفليقة من جهة، واتجاه المعارضة الجزائرية لمقاطعة الانتخابات احتجاجاً على ترشحه من جهة أخرى، وفي ضوء ما يثار عن خلاف بين جهاز المخابرات في الجزائر ومؤسسة الرئاسة بشأن الترشح للانتخابات.
ترشح بوتفليقة والجدل حول وضعه الصحي:
أودع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بنفسه أوراق ترشحه لولاية رئاسية رابعة في "المجلس الدستوري"، كما يفرض قانون الانتخابات بالجزائر، ليضع بذلك حداً لأشهر من التكهنات بشأن نواياه بشأن خوض الانتخابات الرئاسية المقررة في 17 أبريل 2014. ولكن على خلاف كثير من المرشحين الذين بلغ عددهم 12 مرشحاً، لم يظهر بوتفليقة راجلاً، ولم يتحدث إلى الصحافة، بل أظهره التليفزيون العمومي لثوان معدودة، وهو يتحدث إلى رئيس المجلس مراد مدلسي، وسمع يقول له بصوت خافت: "يشرفني أن أزورك اليوم لأسلم عليك، ولأقدم أوراق ترشحي رسمياً".
وكانت تلك هي المرة الأولى التي يظهر فيها الرئيس الجزائري متحدثاً في التلفزيون الوطني منذ 27 أبريل 2013، إذ أصيب بوتفليقة بجلطة دماغية نُقل على أثرها للعلاج بفرنسا، حيث قضى أكثر من 80 يوماً، وهو يخضع منذ يوليو 2013 لبرنامج مكثف لتأهيل وظائفه الحسية التي لا تزال متأثرة من الجلطة. وقد أفادت رئاسة الجمهورية الجزائرية، مرة أخرى في يناير 2014، بأن الرئيس نُقل مجدداً إلى مستشفى عسكري بفرنسا "في إطار فحص طبي روتيني". ولكن بيان الرئاسة الجزائرية جاء ليؤكد أخباراً عن نقل بوتفليقة على استعجال إلى فرنسا، إثر تدهور مفاجئ لحالته الصحية، الأمر الذي يعطي مؤشراً على عدم استقرار الوضع الصحي للرئيس.
وكانت قد تعالت أصوات المعارضة الجزائرية مطالبة بتطبيق المادة (88) من الدستور، وإعلان استحالة قيام الرئيس بمهامه، حتى يبدأ التحضير لمرحلة ما بعد بوتفليقة، ولكن رئيس "مجلس الأمة"، عبد القادر بن صالح، الذي يعد من الموالين للرئيس، رفض الحديث عن وجود مانع صحي يحول دون استمرار الرئيس في الحكم.
والجدير ذكره في هذا الصدد أنه من أهم شروط الترشح للانتخابات في الجزائر أن يتضمن ملف المرشح شهادة طبية يصدرها أطباء محلفون يؤكدون أن الراغب في أن يكون رئيساً سليم ومعافى من أي مرض يحول دون ممارسة وظيفته الرئاسية، الأمر الذي يثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية الجزائرية، مع الشكوك الواسعة في قدرة بوتفليقة، الذي أتم لتوه 77 عاماً، على الوفاء بأعباء فترة رئاسية أخرى تدوم خمس سنوات.
وفي ضوء الوضع الصحي الذي يعانيه بوتفليقة، لا يستبعد جانب كبير من المتابعين أن يضطر الرئيس الجزائري إلى تعيين نائب له في حال فوزه بالانتخابات، واتجاه الأحزاب الداعمة لترشحه إلى القيام بأعباء الحملة الانتخابية نيابة عنه، بعد أن نقل الرئيس خلال فترة مرضه جزءًا كبيراً من سلطاته لرئيس الوزراء، وكلفه بتكثيف الزيارات الميدانية للولايات بهدف ترك الانطباع بأن البرنامج الذي انتخب على أساسه يجري تطبيقه.
اتجاه المعارضة للانسحاب من السباق الرئاسي:
مع الإعلان عن تقديم الرئيس بوتفليقة –الذي يحكم البلاد منذ 15 عاماً- لأوراق ترشحه لولاية رئاسية جديدة، احتدم الجدل على الساحة السياسية الجزائرية ما بين مؤيد ومعارض لإعادة ترشحه.
وكانت قد أعلنت مجموعة من 26 حزباً، أطلقت على نفسها "مجموعة الـ26 من أجل الولاء والاستقرار"، بقيادة وزير النقل عمار الغول، عن دعمها ترشح بوتفليقة، كما أن مجموعة "التحالف التوافقي"، المكونة من ستة أحزاب، كانت قد دعت بوتفليقة إلى الترشح لولاية رابعة، وضمت المجموعتان بذلك صوتيهما إلى "جبهة التحرير الوطني" (الحزب الحاكم) التي قال أمينها العام عمار سعيداني إن مرشح الحزب هو الرئيس، وإلى صوت الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين عبد المجيد سيدي السعيد.
ويؤكد أنصار ترشح بوتفيقة في هذا الشأن أنه نجح في مواجهة الأزمات التي تعرضت له بلاده، وأنه الأقدر على مواجهة ما قد تتعرض له البلاد في المستقبل، فقد رأوا أن بلدهم في ظل حكم بوتفليقة "كان واحة استقرار"، حيث نجح في تجنيب البلاد تبعات تجربة "الربيع العربي" -ويرجح أن هذا الخطاب سيكون حاضراً بقوة في حملة بوتفليقة الانتخابية- وذلك مع الحاجة إلى دعم النظام الحاكم في مواجهة أنشطة التنظيمات الإسلامية المتطرفة في المناطق الجبلية بالجزائر، وفي منطقة الساحل والصحراء.
ويشدد أنصار ترشح الرئيس كذلك على أنه قدم أوراق ترشحه في إطار الاحترام التام والدقيق لكل الإجراءات المتبعة بهذا الخصوص، والمكرسة في القانون، ولم يبق خيار آخر لمن يعارض هذا الترشح سوى مواجهة الرئيس بوتفليقة في الساحة، وترك البرامج تتنافس ما بينها، وإعطاء الكلمة الأخيرة للشعب ليختار، مع إعلان أحد قادة الحملة الانتخابية لبوتفليقة أن حملته نجحت في جمع أكثر من أربعة ملايين توقيع لصالح الرئيس، قبل إيداع أوراق ترشحه في "المجلس الدستوري"، فيما يشترط القانون توقيع 60 ألفا فقط من المواطنين المسجلين على القوائم الانتخابية في 25 ولاية من ولايات البلاد الـ48 لوضعها في ملف الترشح.
ولكن في مقابل ذلك الموقف لأنصار الرئيس، اتخذت العديد من الأحزاب الجزائرية قرارها بمقاطعة الانتخابات، اعتراضاً على ترشح بوتفليقة، ومن أبرز المقاطعين قادة الأحزاب الإسلامية: "جبهة العدالة والتنمية"، و"حركة مجتمع السلم"، و"حركة النهضة".
ويعد ذلك الموقف لقادة الأحزاب الثلاثة سابقة في تاريخ انتخابات الرئاسة الجزائرية منذ نهاية نظام الحزب الواحد، وترشح زعيم "حركة مجتمع السلم" الشيخ محفوظ نحناح في استحقاق عام 1995، حيث خسر أمام مرشح الجيش آنذاك، الجنرال اليمين زروال. وقد دعم الحزب نفسه بوتفليقة في الاستحقاقات الثلاثة الماضية، قبل أن يُعلن في عام 2012 طلاقه مع السلطة عائداً إلى صفوف المعارضة.
ومن القوى الأخرى التي أعلنت مقاطعتها العملية الانتخابية الحزب العلماني "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، والحزب الناشئ حديثاً "جبهة التغيير"، و"الاتحاد من أجل التغيير والرقي"، و"العدل والبناء"، و"التجمع الجمهوري". وأعلن كذلك المرشح المعارض سفيان جيلالي، رئيس الحزب المعارض "جيل جديد"، انسحابه من المنافسة، والجنرال محند الطاهر يعلى، قائد القوات البحرية سابقاً، ورئيس الحكومة السابق أحمد بن بيتور. وأيضاً، فإن رئيس الوزراء الأسبق، مولود حمروش، كان قد أعلن عدم ترشحه لانتخابات الرئاسة بذريعة أن "النظام مغلق"، بعد أن أصدر بياناً أبدى فيه نيته للترشح.
فيما قررت أخيراً "جبهة القوى الاشتراكية" -أقدم أحزاب المعارضة في الجزائر- التزام الحياد، مؤكدة في بيان لها أن الحزب "لن يقاطع، ولن يشارك، ولن يساند"، رائية أن الانتخابات الرئاسية المقبلة هي بمثابة "اللا حدث".وبجانب التحفظ على الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة، يمكن تحديد أسباب تحفظ قوى المعارضة في الجزائر على المشاركة في الانتخابات في النقاط التالية:
- تتحفظ المعارضة على ما تراه انحيازاً من جانب أجهزة الدولة لمصلحة بوتفليقة، رائية أن "نتيجة الاستحقاق محسومة سلفاً لصالحه"، وهي ترى في هذا الصدد أن الأنباء عن نجاح حملة بوتفليقة في جمع أكثر من أربعة ملايين توقيع لمصلحة دعم ترشيحه ما كان ليتم دون تجنيد وسائل كبيرة تابعة للدولة لمصلحة حملته الانتخابية، وتوظيف الطاقم الحكومي لفائدة ترشحه. والإشارة في هذا الشأن إلى "ضغط" مارسته جماعة الرئيس على رؤساء البلديات أثناء عملية جمع التوقيعات، مع توجيه اتهامات للحكومة بالإفراط في استعمال الأموال العمومية في قضية الترويج للولاية الرابعة لبوتفليقة، وكذلك ترويج التليفزيون الرسمي للدولة لإنجازات الرئيس يومياً، الأمر الذي تراه المعارضة معارضاً لمبدأ تكافل الفرص بين المرشحين.
- تستنكر المعارضة الإبقاء على حكومة أعضاؤها معروفون بولائهم للرئيس. ففي حين يمنع قانون الانتخابات رئيس الوزراء من دعم أي مترشح، فإن عبد المالك سلال -الذي يُعدّ من أشد الموالين لبوتفليقة، وكان مديراً لحملته الانتخابية في استحقاقي 2004 و2009- هو الذي أعلن عن ترشح الرئيس لولاية رابعة، وذلك في 22 فبراير 2014، فضلاً عن أن سلال هو رئيس اللجنة الحكومية التي تحضر للانتخابات، وبالتالي لا يجوز له قانوناً الانحياز لأي مترشح، مع دعوة المعارضة سلال إلى الاستقالة هو والوزراء الذين ناشدوا بوتفليقة الترشح لولاية رابعة.
فيما يشدد أنصار الرئيس على أهمية مواجهة بوتفليقة في ساحة الانتخاب، وإشادتهم بـ"لجنة الإشراف على الانتخابات" التي تتكون من نحو 300 قاض، مهمتهم مراقبة نزاهة العملية الانتخابية، تقول المعارضة إن جهاز القضاء خاضع للسلطة التنفيذية، ولا يعول عليه كثيرا في الحفاظ على أصوات الناخبين من التزوير، بحسب وجهة نظرهم، مقابل رفض مقترح تقدمت به أحزاب معارضة، بخصوص ضرورة إسناد مهمة الإشراف على الانتخابات في كل مراحلها إلى هيئة وطنية مستقلة ودائمة، وإبعاد وزارتي الداخلية والعدل عن هذه المهمة، والدعوة إلى فتح حوار بين السلطة والمعارضة حول الشروط الدستورية والقانونية، التي تضمن احترام إرادة الشعب، وتجعل الانتخابات حرة قانونية ونزيهة.
على عكس ما يؤكد أنصار الرئيس بنجاح بوتفليقة، وقدرته على مواجهة التهديدات التي تواجهها الجزائر، فإن المعارضة ترى أنه لم ينجح على النحو المطلوب في إدارة الأزمات الداخلية، فلم يستتب الأمن والاستقرار على نحو شامل وكاف في جميع أرجاء البلاد، حيث تستمر الأزمة قائمة في "غرداية" (600 كيلومتر جنوب العاصمة) والتي تشهد مواجهات عرقية منذ ثلاثة أشهر بين أتباع المذهب الإباضي الناطقين بالأمازيغية، وأتباع المذهب السني الناطقين بالعربية، خلفت عدداً من القتلى وخسائر في الممتلكات.
المسار المستقبلى للحملة الانتخابية:
مع تقديم الرئيس بوتفليقة لأوراق ترشحه رسمياً قبل يوم من انتهاء مهلة تقديم أوراق الترشح إلى "المجلس الدستوري"، فقد بدا أنه نجح بذلك في تجاوز الخلاف الذي ألمح إليه البعض بين ما تسميه الصحافة "المعسكرين المسيطرين على السلطة"، وهما الرئاسة بقيادة بوتفليقة ومقربين منه، وجهاز المخابرات ورئيسه النافذ، الجنرال محمد الأمين مدين، الشهير باسم "توفيق"، حيث أثير أن المخابرات ترفض فكرة ترشح بوتفليقة مجدداً، وخصوصاً مع وضعه الصحي، ومع الإشارة إلى أن كل الرؤساء السبعة (بمن فيهم بوتفليقة)، الذين تعاقبوا على حكم الجزائر منذ الاستقلال، خرجوا إما من رحم المؤسسة العسكرية، أوكانوا مدنيين اختارهم العسكر لقيادة البلاد.
وعلى الرغم من أن أيا من الطرفين لم يُبد موقفه بشكل صريح، فإن وسائط منهما تبادلت الاتهامات عبر وسائل الإعلام، الأمر الذي بدا جلياً بتصريح عمار سعداني، زعيم "جبهة التحرير الوطني" (الأغلبية)، بأن مدين مطالب بالاستقالة، بذريعة أنه يتحمل مسئولية أحداث أمنية عدة، أبرزها محاولة اغتيال الرئيس بوتفليقة في خريف عام 2007، والهجوم على المصنع الغازي في "عين أميناس" مطلع عام 2013، مما تسبب في مقتل 39 أجنبياً، بعد أن تدخلت وحدة خاصة من الجيش الجزائري لحسم الموقف مع جماعة إرهابية احتجزت مئات العاملين في المصنع الذي يقع في صحراء الجزائر.
غير أن بوتفليقة حرص على نفي أي خلاف بينه وبين قائد جهاز المخابرات العسكرية، ووصف حديث الصحافة عن "صراع بين الرجلين" بخصوص رغبة الرئيس في الترشح لولاية رابعة بـ"الأراجيف والمضاربات". وتناول بوتفليقة في خطابه بمناسبة "يوم الشهيد" تغييرات أجراها في سبتمبر 2013 في الجيش والمخابرات، تم تفسيرها بأنها عاكسة لصراع قوي بين الرئاسة والمخابرات، إذ قال: "إن محاولة بعض الأطراف تقديم عمليات الهيكلة التي خضعت لها دائرة الاستعلام والأمن على أنها قرينة تنم عن وجود أزمة داخل الدولة، هي قراءة غير موضوعية وماكرة للوقائع".
وفي ضوء ذلك الوضع، ومع اتجاه المعارضة لمقاطعة الانتخابات، يقتصر الترشح في الانتخابات الجزائرية على وجوه مألوفة لدى الناخب الجزائري، وأبرزها رئيس الحكومة الأسبق، علي بن فليس، وزعيمة "حزب العمال" اليساري، لويزة حنون، ورئيس حزب "عهد 54"، علي فوزي رباعين، ورئيس "الجبهة الوطنية الجزائرية"، موسى تواتي، وكلهم ترشحوا في استحقاقات سابقة، وانهزموا أمام المرشح الفعلي للنظام، الرئيس بوتفليقة. ومن ثم، فإن الاحتمال كبير باكتساح بوتفليقة للانتخابات المقبلة، كما انتخابات عام 2009، التي فاز فيها بأكثر من 90% من أصوات الناخبين.