12 فبراير 2014
لم يكن إعلان اليمن رسميا دولة اتحادية تضم ستة أقاليم إلا محاولة لمواجهة شبح تفكك الدولة الذي لاح بعد الثورة في هذا البلد، وفي غيره من البلدان العربية التي مرت بالثورات، ومنها ليبيا. ولعل تحول الحالة اليمنية إلى الحالة الاتحادية يثير التساؤل حول المحنة التي تمر بها الدولة العربية الموحدة بعد ثلاثة أعوام من الثورات، من حيث قابلية بعض هذه الدول، لاسيما تلك التي تمر بتحولات جذرية في بنية السلطة والمجتمع، للتفكك والانقسام، والعوامل الداخلية الموضوعية والخارجية المختلفة التي تمثل حوافز لهذا الانقسام، أو تعد من كوابحه.
لقد بات واضحًا أن تلك التحولات العميقة كشفت هشاشة بعض الدول التي لم تستطع حتى الآن مواجهة تداعيات ما بعد الثورات، خاصةً مع ارتفاع سقف توقعات المكونات والشرائح المختلفة داخل هذه الدول، وتحديدًا ما يختص منها بالأقليات العرقية، أو الإثنية، أو القومية، والتي وجدت نفسها في مواجهة مع أنظمة حكم جديدة وصلت إلى السلطة دون جهد كبير، ودون أن يكون لديها الخبرات السياسية الكافية للحفاظ على الدولة بمفهومها التقليدي، إلى القدر الذي أصبحت فيه العديد من الدول العربية تمر بمنعطف خطير يمكن أن يهدد وجودها وبقاءها في صورتها الموحدة، مع ظهور إرهاصات متعددة لنزاعات انقسامية وانفصالية لدى قطاعات عريضة في هذه الدول.
أولا- محفزات الاتجاه نحو الدول غير الموحدة في المنطقة العربية:
ولا ريب في أن فشل الدولة العربية في استيعاب مرحلة ما بعد الانتفاضات الشعبية يحمل معها محفزات داخلية لتغير شكل الدولة ذاته بسبب التصدعات الهيكلية في البنية الداخلية من جانب، وبسبب محفزات وافدة من البيئة الخارجية من جانب آخر.
1 ـ المحفزات الداخلية:
على الصعيد الداخلي، شكلت إفرازات موجة الربيع العربي، خاصة ظاهرة صعود التيارات الإسلامية لسدة الحكم، أحد محفزات التوجه نحو الدولة غير الموحدة، نظرًا للمنهج الإقصائي الذي تبناه الإسلاميون في مصر وتونس، وهو ما أجج الخلافات مع التيارات السياسية الأخرى، الليبرالية واليسارية والقومية، ودفع البلاد لمرحلة خطيرة من الاحتقان السياسي والعنف المجتمعي. لكن على الرغم من ذلك، فإن خيار التفكك ليس مطروحًا على نطاق واسع بين مختلف الأوساط العامة بسبب الإيمان بفكرة الدولة، إلا أن ذلك لا ينفي إمكانية طرحه مستقبلاً مع وجود مسببات موضوعية لعملية الانقسام.
ويعد انتشار ظاهرة النزاعات القبائلية أحد أبرز محددات عملية تفكك الدولة بعد الثورات، خصوصًا مع وجود تاريخ طويل من استغلال السلطة لهذه النزعة في كل من ليبيا، واليمن، والسودان، إذ تقوم الدولة الليبية بالأساس على النظام القبلي، ويأتي في مقدمة القبائل التي تشكل أكثر من نصف تعداد السكان: قبيلة ورفله، وقبيلة القذاذفة، وقبيلة المقارحة، إضافة إلى عدد آخر أقل تأثيرًا مثل الزنتان والطوارق. وفي اليمن، تظل القبيلة هي المكون الرئيسى الذي يسيطر على الدولة، في ظل تنوع ضخم يصل إلى نحو 200 قبيلة، منها ما يقرب من 150 في الشمال، و25 في الجنوب، ومن أشهر القبائل: حاشد، وبكيل، ومذحج في الشمال، وحمير وكندة في الجنوب، علمًا بأن ظاهرة انتشار السلاح بشكل مكثف بين القبائل، خاصة قبيلة حاشد، قد تمثل أحد دوافع التقسيم مع الوقت.
وفي الملكيات العربية أيضًا، تظل القبيلة عنصرًا مؤثرًا في المعادلة السياسية والاجتماعية، خاصة في الأردن، إذ تلعب القبائل دورًا بالغ الأهمية في دعم النظام الهاشمي، خاصة قبائل الحويطات في الجنوب، وبني صخر في البادية الوسطى، والعدوان، والعجارمة، وعباد في البلقاء، وأهل الجبل في مناطق البادية شمالي الأردن، فضلاً عن المجالي والطروانه في منطقة الكرك. وفى دول أخرى، تلعب القبائل دورًا أقل، لاسيما فى مصر، وتونس، والمغرب.
على أن أكثر عوامل التشرذم يرتبط بانتشار النزعة الطائفية في معظم الدول، وهو ما ينعكس بقوة في زيادة معدلات العنف الطائفي في حالات العراق، ولبنان، وسوريا، والبحرين، واليمن، ومصر في فترة حكم جماعة الإخوان. ففي كافة هذه الدول، يكاد يتم افتقاد القدرة على التعايش السلمي، مقابل سرعة تأجيج الصراعات والخلافات. فالعراق، ولبنان، وسوريا تشهد بصورة مستمرة حوادث اقتتال طائفي. ولا شك فى أن هذا التشرذم الطائفي أصبح يمثل عاملاً محفزًا لعلميات التقسيم أو التفكك في بعض دول المنطقة.
وليس بعيدًا عن ذلك، يظل وجود مجموعات مختلفة من القوميات العرقية والإثنية التي لها مشاريع استقلالية مسبقة عنصرًا فاعلا في عملية التفكك، فقد استغلت بعض القوميات العرقية الفوضى التي نجمت عن الثورات العربية لتعيد إحياء مشروعاتها، خاصة الأمازيغ والأكراد. فقد أعطى الحراك الثوري في المنطقة الجرأة للأقليات الأمازيغية في المغرب، وتونس، وليبيا، والجزائر الفرصة للمطالبة بالحقوق المسلوبة عبر سنوات طويلة، بداية من المطالبة بالاعتراف بوجودهم في تونس، وترسيم اللغة الأمازيغية في المغرب، مرورًا إلى رفع العلم الأمازيغي في منطقة جبل نفوسة في ليبيا، وفي أغادير جنوبي المغرب، انتهاءً بقيام عشرة مجالس محلية في ليبيا في منتصف يناير 2013 بحسبان الأول من يونيو 2963 من التقويم الأمازيغي الموافق 13 يناير 2013 عيدًا وطنيًا، في محاولة لفرض الأمر الواقع، وهو ما يمكن عدّه مؤشرًا جادًا على الرغبة في الانفصال.
أما القومية الكردية التي تحلم بدولة مستقلة تحت مسمى "كردستان الكبرى"، فتوجد في شمال العراق، وشمال شرق سوريا، وغرب إيران، وجنوب شرق تركيا، وبعض مناطق لبنان. ولعل هذا الحلم لا يزال يراود الأكراد في كل المناطق الموجودين فيها. واللافت للانتباه أن أكراد سوريا قد استغلوا فوضى الحرب في سوريا للمضي قدماً نحو مشروعهم الاستقلالي النزعة.
وتمثل الموارد النفطية محفزًا للانقسام في حالات كل من ليبيا، وكردستان، والعراق واليمن، إذ يتمثل الخلاف بشكل مستمر بين الحكومات المركزية وبعض الأقاليم حول الطريقة غير المتوازنة لتوزيع عائدات النفط، حيث تستأثر الحكومات بعوائد النفط، وتحرم بعض المناطق من عوائده، على الرغم من أن تلك المناطق تسهم بالنصيب الأكبر من إنتاج النفط. فالموارد النفطية في ليبيا تتركز بنسبة كبيرة في المنطقة الشرقية، وهو ما دفع أصحاب النزعات الانفصالية في إقليم برقة إلى إنشاء مؤسسة خاصة تعنى بقطاع النفط بالإقليم، حيث تتولى تصديره والانتفاع بعوائده، دون أن يكون لحكومة طرابلس أي دور فى هذه العملية، وذلك في تكرار لما حدث في إقليم كردستان العراق، الذي قام بتصدير النفط إلى تركيا بشكل مباشر دون العودة إلى الحكومة المركزية في بغداد.
2 ـ المحفزات الخارجية:
وعلى صعيد محددات التغذية الخارجية للتوجه نحو النمط غير الموحد، تلعب القوى الخارجية دورًا أساسيًا فيها عبر الاعتماد المباشر على تغذية النوازع الطائفية داخل حدود الدولة الوطنية، ويتجلى ذلك بشدة في الدعم العسكري والسياسي المباشر والضخم من قبل روسيا، وإيران، وحزب الله لنظام بشار الأسد العلوي مقابل دعم عربي ودولي محدود للمعارضة السورية المسلحة، خاصة الجيش الحر، وفي الدعم الإيراني للحوثيين الشيعة في شمال اليمن في مواجهة القوى السلفية، وكذلك دعمها لجمعية الوفاق والمعارضة الشيعية في البحرين ضد النظام الأميري السني المدعوم من دول الخليج.
ولا تكمن الإشكالية فقط في تنوع الطوائف بين سنة وشيعة وعلويين، وإنما في الإرث القديم والجديد من الاضطهاد التي عانته بعض الطوائف في البلدان المختلفة. وتعد الحالة العراقية أبرز الأمثلة على ذلك. فبمجرد خروج القوات الأمريكية، تم تمكين الشيعة بشكل شبه كامل، عبر حكومة رئيس الوزراء، نوري المالكي، الذي استبعد السنة من المناصب التنفيذية المهمة، مدعومًا في ذلك بتزايد النفوذ الإيراني في العراق. وفي هذا السياق، يمثل اتساع تلك النزعة الطائفية مهددًا حقيقيًا لوحدة الدولة الوطنية في المنطقة العربية، مما يمهد الطريق لزيادة فرص التصدعات والانقسامات.
ثانياً- الأنماط المتوقعة للدولة غير الموحدة فى بعض الدول العربية:
يقود فشل الدولة العربية في استيعاب صدمة الثورات، وخروج العديد من محفزات التفكك النسبي فجائيًا، إلى بحث نماذج مختلفة وصيغ أخرى تطرح ذاتها في بعض الدول، وقد تطول دولاً أخرى، ما لم يجرِ تفادي كافة محفزات التفكيك السابقة، إذ يمثل نموذج الدولة الفيدرالية إحدى أبرز الصيغ المطروحة في المرحلة المقبلة. وهو إن كان لا يعني تفكك أو تقسيم الدولة بالمعنى الدقيق، فإنه يمهد الطريق لذلك في المستقبل، في ظل دول لم تتأسس على علاقات سوية بين المركز والأطراف، وبين الأغلبية والأقلية.
ويبدو أن تلك الصيغة تجد من يساندها ويدفع باتجاهها بعد ثورات "الربيع العربي"، مع زيادة معدلات الاحتقان السياسي والمجتمعي، لاسيما في حالة ليبيا، حيث انتشرت دعوات النزعة إلى الفيدرالية في إقليم برقة شرق ليبيا. ففي سبتمبر الماضي، أعلنت مجموعة تدعى "حركة شباب ليبيا" في مدينة "رأس لانوف" أن برقة إقليم فيدرالي من جانب واحد، وتم تشكيل مكتب تنفيذي لحكومة هذا الإقليم برئاسة "عبد ربه عبدالحميد البرعصي"، وتم تقسيم إقليم برقة إلى أربع محافظات إدارية، هي: أجدابيا، وبنغازي، والجبل الأخضر، وطبرق. وعلى الرغم من كون تلك الدعوة لم تجد صدى كبيرًا لدى مختلف القطاعات الشعبية في ليبيا، فإنها تمثل مؤشرًا بالغ الخطورة على وحدة الأراضي الليبية، وتشير إلى أن خيار الفيدرالية قد يطفو على السطح، ويجعل وحدة ليبيا على المحك.
وعلى الجانب الآخر، تتجه تطورات المشهد السوري إلى نموذج آخر يتجاوز درجة التصدع في بنية الدولة إلى التفكك الشامل، وتكوين مجموعة من المناطق أو الدويلات المستقلة تمامًا عن بعضها بعضا، لاسيما مع احتدام الصراع بين فصائل المعارضة السورية، سواء المسلحة، أو حتى السياسية في الخارج. فعلى صعيد الفصائل المسلحة، بلغ الصراع ذروته بين مكونات المعارضة، خاصة الجيش الحر، وجبهة النصرة، ودولة العراق والشام الإسلامية "داعش"، والمحسوبين على تنظيم القاعدة، وقوات الحماية الكردية، حتى وصل لاستهداف القيادات، والسيطرة على المدن والقرى الاستراتيجية. وسياسيًا، بدا الخلاف جليًا بشأن عدم القدرة على التوصل لاتفاق في ظل عثرات مؤتمر جنيف 2.
وتمثل تلك الخلافات مقدمة لمستقبل محفوف بالمخاطر للدولة السورية، بعد سقوط بشار الأسد، الذي سيحدث آجلاً أم عاجلاً، خاصة مع انتشار أطروحات مختلفة تتعلق بإمكانية تقسيم الدولة السورية إلى ثلاث دويلات: علوية، وكردية، وسنية، وأطروحات أخرى حول دولتين أو أكثر، علاوة على إمكانية تحول سوريا إلى اتحاد كونفيدرالي بين مجموعة من الدويلات الصغيرة.
وما يزيد من تلك المخاوف تزامنها مع الخطوات الإجرائية الجادة التي بدأت تتخذها بعض القطاعات، خصوصًا الأكراد تجاه الاستقلال، أو الحكم الذاتي. ففي يوليو الماضي، أصدر أكراد سوريا في مدينة "القامشلي" بيانًا يقضي بتقسيم المنطقة الكردية في سوريا إلى ثلاث مناطق، بحيث يكون لكل منها مجلس محلي خاص، وممثلون في المجلس الإقليمي العام، فضلاً عن تشكيل ما يطلق عليه "الإدارة المدينة الانتقالية" لمناطق غرب كردستان-سوريا، تكون مهمتها إعداد قوانين الانتخابات المحلية، والتحضير للانتخابات العامة، وإقرار القوانين، ومناقشة القضايا السياسية، والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية التي تعيشها المنطقة برمتها. ولهذا، فمن المرجح أن مستقبل الدولة السورية الموحدة قد أصبح في خطر، مع عجز المعارضة بكافة أطيافها عن التوصل لترتيبات تتسم بقدر من التوافق لمرحلة ما بعد الأسد.
خاتمة
أخيرًا، يجوز القول: إنه على الرغم من كون مستقبل الدول العربية الموحدة قد أصبح في خطر محدق، فإن مسألة الانقسام والتفكك ليست حتمية، لاسيما مع وجود كوابح عديدة لعملية الانقسام في المنطقة العربية، من أبرزها اللغة الواحدة، والتاريخ شبه المشترك، والجغرافيا المتميزة التي يمكن أن تكون بيئة قاعدية حاضنة ومناسبة للوحدة، لا للانقسام والتفكك، علاوة على المخاطر الناجمة جراء الصيغة الفيدرالية أو الانقسام، كما يحدث حاليًا في دولة جنوب السودان، على سبيل المثال. ومن ثم، يمكن استغلال تلك الكوابح للتقليل من آثار وتداعيات النزعة الانفصالية.
بيد أن ذلك لا بد من أن يتزامن مع البحث عن وتنفيذ حلول عاجلة، ولو جزئيًا، للمشكلات الهيكلية البنيوية المتعلقة بتنفيذ المطالب الاقتصادية والاجتماعية العامة، واعتماد سياسات أكثر فاعلية نحو تعزيز حقوق الأقليات العرقية والدينية، ومساعدة القبائل على إيجاد مصالح مشتركة فيما بينها بالشكل الذي يجعلها تسعى بشكل مستمر ودائم للحفاظ على علاقاتها بعضها بعضا، وعلى علاقاتها بالدولة، وإيجاد صيغ أكثر عدالة وقبولا لتوزيع الثروات النفطية وغيرها، والاعتماد على أدوار القوى المحلية لإحداث التوافق الوطني دون القوى الخارجية، وتعزيز حقوق المواطنة بشكل عام في مختلف البلدان العربية.