دعا رؤساء الهيئة العامة للتنمية في شرق إفريقيا (الإيقاد) خلال اجتماع طارئ، يوم السبت الماضي، إلى نشر مراقبين لتنفيذ وقف الأعمال العدائية بين القوات الحكومية في جنوب السودان والمسلحين الذين يقاتلونها بقيادة رياك مشار نائب الرئيس السابق . وكان مجلس الأمن قد أشاد باتفاق وقف النار مع حكومة السودان . وجاء هذا الاتفاق بعد أن وقعت الواقعة في دولة جنوب السودان واقتتل الأخوة الأعداء الذين اجتمعوا في الماضي ضد حكومة الخرطوم، واتضح أن هذه الدولة لن تعبر بسلام إلى شاطئ الأمن والاستقرار، لأنها دولة ولدت من رحم حرب أهلية دامت أكثر من أربعين عاماً، كان لما يسمى "الحركة الشعبية" مركز الصدارة فيها، لكن شعب الجنوب ليس على قلب رجل واحد، ولا تجمعهم هموم واحدة، فالانقسامات هائلة بينهم، سواء أكانت انقسامات دينية أم عرقية، أم قبلية . فنحو 40 في المئة من سكان الجنوب من الوثنيين الطوطميين، ونحو 35 في المئة منهم من المسيحيين الإنجيليين، والباقي من العرب والمسلمين، وإضافة إلى ذلك هناك قبائل ذات خلفيات إثنية متعددة أهمها "الدينكا"، التي ينتمي إليها الرئيس سيلفا كير ميارديت، والنوير التي ينتمي إليها خصمه رياك مشار، والشلك التي ينتمي إليها لام أكول .
ومنذ استقلال الجنوب عن الوطن الأم السودان، تولت الحركة الشعبية السلطة في الجنوب، وحاولت أن تحكم بقبضة حديدية، فاعتمدت العقل الاستخباراتي في قمع الخصوم والمخالفين، وأهملت موضوع التنمية، وفي ظل هذه الأجواء يجد الفاسدون والمرتشون مرتعاً خصباً للفساد والإفساد . وبالتالي فوجئ الطامحون والآملون في مستقبل مشرق لبلادهم، وخاصة بعد اكتشاف النفط في الجنوب، بأن حلم الاستقلال قد تحول إلى كابوس، يقض مضاجع معظم الجنوبيين .
وكان رياك مشار ومعاونه لام أكول، وهو أحد زعماء قبيلة "الشلك" قد انشقا عن الحركة الشعبية عام ،1992 بسبب السيطرة المطلقة لزعيم الحركة السابق جون قرنق وفريقه، لكن الرجلين لم ينسحبا من الحياة السياسية، بل ظلا ينشطان في الساحة الجنوبية . وعندما تحقق الاستقلال وتولى حزب الحركة الشعبية السلطة، وأصبح للدينكا الكلمة العليا في دولة الجنوب، تحركت العواطف الإثنية والدينية لترسم مصير هذا الوليد الجديد، فقد بدأ رياك مشار يجهز نفسه للانقضاض على الحكم، خاصة أن السلاح متوافر بكثرة في أيدي الجنوبيين منذ الحرب مع الشمال . وفجأة بدأ الهجوم وتمت السيطرة على مدينتي "بور" و"أكوبو"، الأمر الذي دفع الحكومة الأوغندية إلى إرسال جيشها إلى العاصمة جوبا، لمنع سقوطها بيد مشار، لكن الحرب، وقد وقعت، وهي ستمضي في مسارها، حيث من المتوقع أن ينفجر الوضع في الجنوب بشكل كامل، لتصطدم القبائل، والمجموعات الدينية، والعرقية ببعضها بعضاً، خاصة أن اللاعبين في الجنوب منذ الحرب مع الشمال، وبعد تقرير المصير، لا يزالون يرسمون الخطط، ويحيكون المؤامرات، لتفتيت السودان ككل، شماله وجنوبه .
إن الخطيئة الكبرى كانت في إعطاء الجنوبيين استقلالهم، وبغض النظر عن صواب أو عدم صواب الرؤية السودانية تجاه مشكلة الجنوب، فإنه كان ينبغي الدفاع عن أراضي السودان الموحد حتى آخر رمق، وعدم السماح بتقسيمه إلى دولتين، ومهما كانت الضغوط الغربية والدولية التي مورست . لأن الخاسر الأكبر من التقسيم هم العرب عموماً، والعرب في مصر والسودان خصوصاً . لأننا إذا أمعنا النظر سنجد أن منابع النيل الرئيسية تمر عبر أراضي الجنوب باتجاه مصر إلى الشمال، وبالتالى فإنّ المتضرر الأكبر من انفصال الجنوب السودان، لن يكون الشمال وحده، بل ستتضرر مصر كذلك بشكل كبير، فالأمن المائي هو قضية محورية بالنسبة للشعب المصري، ولولا نهر النيل لما قامت في مصر حضارة عبر التاريخ، ولما أطلق هيردوت المؤرخ الشهير قولته "مصر هبة النيل" .
أما وقد سبق السيف العزل، فإن على العرب عموماً، وعلى أشقائنا في مصر خصوصاً أن يدركوا ما قد يترتب على تقسيم الجنوب من مخاطر، وألا يلدغوا من الجحر نفسه مرتين . خاصة أن قيام دولة الجنوب كان حلقة ضمن مخطط يهدف إلى تقويض العروبة والإسلام في إفريقيا، وخلق إطار واسع من القوميات المتنازعة وبما يخدم المشاريع الغربية و"الإسرائيلية" في المنطقة . ولعل هنا تكمن الخطورة، وللأسف، فإن الجامعة العربية غائبة تماماً عما حدث ويحدث في السودان وكأن الأمر لا يعني العرب .
ويبدو من الواضح أن جنوب السودان المستقل قد دخل ضمن عمليات إعادة الفك والتركيب الجيوستراتيجي التي لا تزال تتعرض لها منطقة شرق إفريقيا في مرحلة ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر، حيث تشمل إقامة نظم ذات توجهات علمانية غير عروبية، موالية للغرب . وفي الوقت نفسه تدعيم وتقوية تحالفات هذه الدول الاستراتيجية ب"إسرائيل" . على أن تظل القيادة غير عربية وغير إسلامية، حيث يتم إعطاؤها لإثيوبيا -التي لعبت دوراً كبيراً، خاصة كنيستها، في دعم استقلال الجنوب- والتي ينظر إليها الغربيون على أنها جزيرة مسيحية وسط بحر إسلامي في المنطقة .
وإذا أخذنا في الاعتبار، كذلك، أن الدول العربية في الشمال الإفريقي هي جزء أصيل من مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفقاً للرؤية الأمريكية، لاتضحت لنا أبعاد عملية إعادة صياغة المنطقة أمريكياً وغربياً . فهل ينتبه العرب لما يحاك لهم في الخفاء؟
-------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 9/2/2014.