اجتمعت تطورات متعددة لتترك الانطباع بأن روسيا خرجت من عباءة الحرب الباردة وبدأت تنفض عن نفسها صورة "الأمة المهزومة" .
ليس من قبيل المبالغة القول إن الرئيس فلاديمير بوتين حقق لبلاده مكانة دولية متميزة . تحققت هذه المكانة بعد سعي طويل وشاق ومناورات داخلية معقدة ولجوء إلى أساليب مستوحاة من النظام التسلطي السوفييتي .
كذلك كان للأزمة السورية فضل كبير، فقد وظفها الرئيس بوتين لهدف استعادة موقع لروسيا في الشرق الأوسط، أو لتعزيزه، خاصة أنه أدرك أن الغرب منقسم على نفسه إزاء نوع التدخل في الأزمة، وأن أمريكا مترددة وغير واثقة من اتجاهات رياح ثورات الربيع عموماً وثورة سوريا بخاصة .
أدرك بوتين أيضاً أن فرص صعود تيار الأصولية الإسلامية المتشددة ستزداد في حال سقوط نظام الأسد، وأن بلاده على عكس أمريكا وبعض دول الغرب لا تملك رفاهة الدخول في تجارب تحالفات وعلاقات تعاون مع قوى إسلامية متشددة في الشرق الأوسط، ولديه أسبابه التي تبرر رفضه التفاهم مع القوى المتشددة وأهمها الحرب الدائرة من دون توقف في القوقاز مع الإسلاميين المتطرفين وخطر تمدد الأفكار السلفية وغيرها إلى مناطق إسلامية في جنوب روسيا، وبخاصة بعد أن وصلت إلى أمة الإيغور في مقاطعة سينكيانغ شرقي الصين .
لقد أثبت بوتين للغرب، ولكثير من دول العالم النامي، من خلال تعامله مع الأزمة السورية وقضية النووي في إيران وموقفه من درع الصواريخ وعلاقة أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي، أثبت أن نظرة روسيا إلى الأزمات الدولية عبرت بوضوح عن درجة من الفهم والحزم في صنع السياسة الخارجية لم تعد تتوفر لدى الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية . أثبت أيضاً بنجاحه في تحقيق الاستقرار والأمن في ربوع روسيا وهيمنته شبه الكاملة على السياسة والسياسيين في بلاده، أن روسيا تستطيع أن تقود وتدير سياسة خارجية مستقرة ومسؤولة معتمدة على أوضاع داخلية جيدة . هذه الإنجازات على الصعيدين الخارجي والداخلي شجعت واشنطن وعواصم أخرى على إعادة إشراك موسكو في اتخاذ قرارات دولية حساسة، والاستماع إلى تقديراتها وتحليلاتها، ودفعت بدول أخرى إلى إعادة ترتيب
أولوياتها الدبلوماسية والاستعانة بروسيا لتهذيب الهيمنة الأمريكية .
تدخلت لمساعدة بوتين عوامل لم تكن قائمة قبل عشر سنوات، مثل الأزمة الاقتصادية الأوروبية التي جعلت قطاعات مهمة في الشعبين الروسي والأوكراني وفي شعوب أخرى تعتدل في إعجابها بإنجازات الاتحاد الأوروبي، وتبحث عن بدائل أخرى .
يذكرون في عواصم عديدة لجمهوريات خضعت طويلاً للحكم السوفييتي دعوة وجهها الرئيس غورباتشوف قبل خمسة وعشرين عاماً للشعب الروسي بأن ينظر غرباً نحو مستقبل ينضم فيه إلى أوروبا الواحدة والموحدة . وقتها كان الشعار السائد هو "مع روسيا المتوجهة إلى أوروبا" .
أسهمت الأزمة الاقتصادية الأوروبية، بين أمور كثيرة، في إيقاظ الشعور القومي الروسي . هذه الصحوة التي استثمرها بوتين إلى أبعد الحدود . الأمر الذي لم يعد يخفى على المراقبين الأجانب المتابعين لتطورات السياسة الداخلية في روسيا هو أن حكومة الرئيس بوتين بدأت تنفيذ خطة إعلامية وسياسية تهدف إلى وضع أسس لأيديولوجية روسية تحل محل الأيديولوجية السوفييتية . هذه الخطة تسير على خطين متوازيين، خط داخلي وخط خارجي .
داخلياً، تنشط كافة الأجهزة الحكومية والموالية للرئيس العاملة في قطاعي الإعلام والسياسة لبث الروح الوطنية وتعظيم قيمة التقاليد الروسية . تدعو أيضاً إلى التمسك بالقيم الأخلاقية والتخلص من كافة السلبيات التي جلبها الشعور بالهزيمة في الحرب الباردة التي نشبت بين روسيا والغرب . يجري تنفيذ الخطة برعاية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، باعتبارها المظلة التي يجري في ظلها بناء هذه الأيديولوجية الجديدة، وهي المظلة التي يعود إليها الفضل في المحافظة على "وحدة الشعوب السلافية ونقاء الدين المسيحي" .
خارجياً، التركيز على أن أوروبا الغربية تتحلل أخلاقياً وسياسياً، ففي مجال العلاقة بين المرأة والرجل زالت الفوارق لغير مصلحة أنوثة المرأة وتميزها في مجال العلاقات الاجتماعية . يقول الإعلام الروسي إن الأوروبيين تجاوزوا كل الحدود بانتهاجهم سياسة تسامح مبالغ فيها في التعامل مع تيارات العلمانية وانحسارات نفوذ الكنيسة المسيحية ومع التنازل المتسارع في سيادة الوطن والدولة لمصلحة مؤسسات عابرة للقومية .
كما تتضمن الخطة الإعلامية انتقادات للسلبيات الناتجة عن منح المواطن الأوروبي حقوقاً عدة دون أن يقابل هذا المنح واجبات والتزامات من جانب المواطن تجاه بقية المواطنين وتجاه الدولة ومؤسساتها ومنظوماتها الأخلاقية . مجتمعات أوروبا كما تراها الأيديولوجية الروسية الناشئة، تمر تاريخياً بمرحلة "ما بعد المسيحية" وما بعد "سيادة الدولة" و"ما بعد القيم الأخلاقية" .
هذا عن الجوانب السلبية في أيديولوجيات الآخرين كما تكشفها خطة الدعاية الروسية الجديدة . ترد عليها الخطة بأفكار محددة مثل النية في تنظيم حوار حضارات تطرح موسكو من خلاله رؤيتها لدور الأخلاق والدين في المجتمع العصري، وتدشين قنوات تلفزيونية بلغات أجنبية تخاطب الخارج وبخاصة أوروبا الغربية، ودعوة علماء اجتماع من دول الغرب وبخاصة أمريكا للتدريس في جامعات روسيا والتشبع بأساليب حياة الشعب الروسي .
يصعب، ونحن نتابع خطط بوتين لبناء روسيا، أن نقف عند التحليل الذي يرى أن بوتين يسعى إلى إقامة إمبراطورية روسية تحل محل الإمبراطورية السوفييتية . أعتقد أن بوتين يسعى أساساً إلى أن تكون موسكو "مركزاً للقيم "ومقراً لتنظيم أممي يبشر بأفكار يمينية وقومية، ويدعو حكومات العالم إلى تأكيد التزامها حماية التراث الثقافي والأخلاقي لشعوبها وأساليب حياتها والمحافظة على أنماط تدينها . بمعنى آخر يقيم تنظيماً أممياً تتجمع فيه التيارات اليمينية والمحافظة التي تدعو إلى" الحد من ظاهرة انفراط المجتمعات وتحللها أخلاقياً تحت عناوين التعددية الثقافية والتحرر الاجتماعي والمساواة الكاملة" .
بوتين يستحق الانتباه والمتابعة .
--------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الخميس 26/12/2013.