صمد مجلس التعاون الخليجي في وجه عاتيات الزمن لأكثر من ثلاثة عقود متلاحقة، تخللتها تحديات صعبة ومنغصات كثيرة، وبقي يحل مشاكله بروح الحرص والمحبة، فاستطاع بحكمة العقلاء وحرْص الغيارى، ليس الصمود فقط، بل وتحقيق الكثير من الإنجازات الهائلة فعلا في المجالات كافة، وكل هذا بينما انتهت وبسرعة تجارب عربية مماثلة؛ إما إلى الموت السريري البطيء، وإما إلى الانهيار بضربة قاضية دون تحقيق أي شيء؛ لا للدول المشاركة ولا للعرب بصورة عامة.
لكن، ما كان مفاجئا للمراقبين من بعد، أن هذا المجلس، الذي شكل صيغة وحدوية واعدة ومقبولة في ظل كل هذا التمزق العربي وكل هذه المستجدات الصعبة التي باتت تضرب الوحدة الوطنية للكثير من الدول، بدأ يواجه صعوبات حقيقية، بل وخطيرة، نتيجة إصابته بارتدادات الاتفاق النووي الأخير بين إيران ودول ما يسمى (5+1). والحقيقة، إن هذا الاتفاق الذي أثار الكثير من الشكوك والذي لا تزال تحيط به الشبهات، اتفاق أميركي - إيراني أولا وأخيرا وقبل كل شيء.
فبعض الدول الخليجية، التي بقيت تشكل جدار الاستناد لهذا المجلس منذ إنشائه وحتى الآن - والمقصود هنا المملكة العربية السعودية - فوجئت بأن أشياء كثيرة جرت، وأن بعض أشقائها أخفوا قيامهم، وعلى مدى فترة طويلة، بدور الوساطة بين الأميركيين والإيرانيين، وذلك في حين أن المفترض أن هؤلاء الأشقاء، وفقا للصيغ المعمول بها في مجلس التعاون الخليجي، أنْ يطلعوا أشقاءهم على ما يجري وما يقومون به، وخاصة أن هذه المسألة ليست تهم الخليجيين كلهم فقط، بل إنه كان يجب أن يكونوا طرفا في هذا الاتفاق، مثلهم مثل إيران، ومثلهم مثل مجموعة الـ(5+1)، التي من بينها، بل في مقدمتها، الولايات المتحدة.
وحسب الدول الخليجية التي يبدو أنها كانت تنتظر أنْ يطلعها أشقاؤها الذين كانوا يلعبون دور الوساطة «سرا» بين الأميركيين والإيرانيين - فإن المفترض ألا تجري هذه الوساطة من وراء ظهر مجلس التعاون الخليجي، وأنه كان من المفترض أن يشترط المتوسطون أن يكون لهذا المجلس دور في هذا الاتفاق، مثله مثل الـ(5+1)، ومثله مثل إيران والولايات المتحدة؛ فالمسألة النووية الإيرانية تهم الدول العربية الخليجية ربما أكثر من الأوروبيين وأكثر من الأميركيين؛ فحصول إيران على السلاح النووي يشكل خطرا على هذه الدول أكثر كثيرا من خطره على إسرائيل، التي هي الهم الأول والأخير لأميركا وللدول الأوروبية المعنية والأساسية. هذه مسألة. أما المسألة الأخرى، فهي أن بعض الدول العربية الخليجية ترى أنه ما كان من الضروري أن يكون هناك كل هذا «الانْدلاق» تجاه إيران بمجرد توقيع هذا الاتفاق الأولي بينها وبين الولايات المتحدة، وأن المفترض أن ينتظر هؤلاء «المندلقون» وأن يعطوا أشقاءهم في مجلس التعاون الخليجي فرصة للتشاور والاتفاق على وجهة نظر - إنْ ليس موحدة فمتقاربة على الأقل، وألا يجعلوا الإيرانيين يتعاملون معهم بطريقة «التفريق» كأن هذا المجلس غير موجود وكأنه يجب أن يكون آخر، وليس أول من يجب أن يعلم.
وهنا، فإن ما يدل على حقيقة «الجارة العزيزة» إيران تجاه مجلس التعاون الخليجي، أن وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، المبتسم دائما، قد بادر - وهو يقطب جبينه - إلى رفض المطلب الخليجي، وهو مطلب حق لاعتبارات متعددة وكثيرة، بالمشاركة في المفاوضات الجارية الآن، التي ستنتقل إلى مستويات أكثر جدية بعد الأشهر الستة الأولى التي اعتبرها اتفاق جنيف، الذي جرى توقيعه بين دول الـ(5+1) وطهران، كأن المنطقة الخليجية للإيرانيين وحدهم وكأن اتفاقية النووي لا تؤثر إلا على الشواطئ الشرقية من الخليج، الذي يصر إخواننا في الدين على أنه فارسي، بينما نصر نحن على أنه عربي بحكم مشاطأة ست دول عربية له، كأرض وكشعب، منذ فترة تعود لما قبل انبلاج فجر الإسلام.
ولذلك، ولأن مجلس التعاون الخليجي بعد أربعة وثلاثين عاما بات بدوله كلها يواجه واقعا جديدا خطيرا في ظل كل هذا الذي يجري في المنطقة العربية - فإن عليه، وبالضرورة، أن يعيد النظر في تكوينه وأن يرتقي بأدائه إلى مستوى التحديات المستجدة التي أصبحت تواجهه. ويقينا، وليس أغلب الظن فقط، أن المملكة العربية السعودية عندما اقترحت الانتقال بهذا المجلس - الذي لا شك في أنه حقق إنجازات في غاية الأهمية؛ إنْ على مستوى المنطقة الخليجية وإنْ على مستوى العرب كلهم؛ إنْ في المغرب وإنْ في المشرق - من صيغته الحالية إلى صيغة «الاتحاد»، فإنها عنت هذا الجانب بالذات، وأنها قد انطلقت من منطلق الحرص، وليس من منطلق الهيمنة كما سارع الذين لا يريدون الخير؛ لا للخليجيين ولا لأبناء هذه الأمة كلها، للترويج لهذه الكذبة الخبيثة.
الكل يعرف أن هذا الاتحاد الأوروبي، الذي بات يشكل كتلة دولية فاعلة لها مكانتها في العالم بأسره، كان قد بدأ في عام 1959 بتكتل اقتصادي بقي يتطور شيئا فشيئا على مدى سنوات طويلة إلى أن وصل إلى هذه الصيغة الوحدوية غير الاندماجية التي لم تلغ ولا أي شيء من هوية أي من دوله. ويقينا، لو أن هذه التجربة توقفت عند الصيغة الاقتصادية في عام 1959، لما اندمجت أوروبا الشرقية مع أوروبا الغربية ولعصف التناحر الاقتصادي بهذه المجموعة ربما إلى حد العودة إلى حروب القرن الماضي وإلى الحروب التي سبقته في فترة ما بعد انفجار الثورة الرأسمالية المعروفة.
ولهذا، فإن ما لا نقاش فيه، أن الدعوة إلى الارتقاء بهذا المجلس، الذي أنجز وأتم مهمته خلال أربعة وثلاثين عاما، من الصيغة التعاونية إلى الصيغة الاتحادية، دعوة صادقة وواعية؛ فالاستمرار في هذه الصيغة التعاونية بينما هذه المنطقة، والمنطقة العربية كلها، تشهد كل هذه الزلازل التي تشهدها، سيؤدي إلى الجمود وإلى بروز داء تضارب المصالح الذي كان من الممكن أن يصاب الأوروبيون به ما لم يرتقوا بمجلس التعاون الاقتصادي إلى هذه الصيغة الوحدوية، التي وإنْ كانت لم تقضِ على تعارض المصالح وتضاربها فإنها حولتها إلى تنافس مشروع، وذلك على غرار التنافس المشروع بين ألمانيا والمملكة المتحدة البريطانية.
المؤكد، أنه سيأتي يوم قريب، في ضوء محاولات التمدد الإيراني الفارسي في منطقة الخليج العربي وفي المنطقة العربية، تصبح فيه «درع الخليج» غير كافية لمواجهة هذه التحديات التي باتت واضحة ولا ينكرها إلا أعمى بصر وبصيرة، وهذا يتطلب، وبسرعة، الارتقاء بصيغة المجلس الخليجي من الصيغة التعاونية إلى الصيغة التكاملية وبحيث يكون هناك جيش واحد بقيادة واحدة، وتكون هناك وزارة دفاع واحدة ووزارة خارجية واحدة.. أما أن تبقى هذه الأوضاع الحالية على ما هي عليه بينما الواقع يتغير، وبسرعة الضوء، في المنطقة العربية كلها بدولها القريبة والبعيدة - فإن هذا في النهاية، وهي نهاية قريبة، سيؤدي إلى كوارث كثيرة. وهنا، فإنه لا بد من التذكير بتلك الحكمة التي تقول إن العصا الواحدة يسهل كسرها، أما مجموعة العصي التي تشكل حزمة فإنه يصعب كسرها بسهولة.
في النهاية، لا بد من القول، وبكل فخر واعتزاز، أولا: إن المجلس الخليجي قد حقق إنجازات فعلية، لا يستطيع إنكارها إلا حاقد أو حاسد. وثانيا: إن الحكمة والحنكة اللتين تتوافران في سمو الشيخ صباح وإخوانه الخمسة الآخرين، هما اللتان جنبتا قمة الكويت أي مكروه، وهو ما جعلها تشكل حلقة رئيسة في مسيرة هذا التجمع العربي وجعلتها أيضا تشكل مدماكا قويا للارتقاء بهذا المجلس من صيغة التعاون إلى صيغة الاتحاد مع الحفاظ على هوية كل دولة من دوله.
-----------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الخميس، 12/12/2013.