1 ديسمبر 2013
حينما انُتخب حسن روحاني رئيسًا للجمهورية الإيرانية في يونيو الماضي اعتقد البعض أن العلاقات الإيرانية الغربية يمكن أن تدخل مرحلة جديدة تتجاوز حالة العداء التي ظلت مسيطرة على العلاقة بينهما طيلة عقود، ووجدنا في هذا السياق مؤشرات تدلل على إمكانية تحقق مثل هذا الأمر، وتجلت في ملمحين رئيسيين؛ أولهما الاتصال الهاتفي الذي تم بين روحاني والرئيس الأمريكي أوباما، خلال شهر سبتمبر الماضي، أما الملمح الثاني، فيتمثل في الاتفاق الذي توصلت إليه إيران مع الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا بشأن برنامجها النووي يوم 24 نوفمبر الجاري ليعتبره العديدون انفراجة في العلاقات الإيرانية مع العالم الغربي، وخاصة مع الولايات المتحدة.
بيد أن من الصعوبة بمكان تناول هذا الاتفاق في إطاره الضيق كاتفاق حول رغبات إيران النووية، فالمعضلة الحقيقية أن إيران عادة ما كانت تربط ملفها النووي بملفات أخرى بالمنطقة عبر ما أطلقت عليه "الصفقة الشاملة" لتثير هواجس العديد من الدول العربية التي تدرك أن مثل هذا الاتفاق يمكن أن يحمل في طيه عدة تحولات في المنطقة بصورة قد تؤثر على مصالحها ومساحات النفوذ المتاحة لها.
اتفاق جنيف والمواقف العربية
انتهى الاجتماع المنعقد بجنيف بين مجموعة 5+1 (الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا) وإيران إلى التوصل لاتفاق أولي لمدة ستة أشهر، ويتضمن الاتفاق عددًا من الالتزامات على إيران، أهمها وقف تخصيب اليورانيوم إلى نسبة أعلى من 5 % لمدة ستة أشهر، والتخلص من نصف كمية اليورانيوم المخصبة إلى نسبة 20 %، والسماح بشكل كامل للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش في منشآت إيران النووية، ويرتب الاتفاق في مقابل هذه الالتزامات بعض الحوافز لطهران؛ حيث يلتزم المجتمع الدولي بتخفيف العقوبات المفروضة عليها، وتعليق العمل بعقوبات محددة مثل العقوبات على التعامل في الذهب، والمعادن، وقطاع السيارات، وصادرات البتروكيماويات.
وبعيدًا عما انطوت عليه بنود هذا الاتفاق، فقد تراوحت المواقف العربية بين الترحيب به، ومحاولة استغلاله، والتعامل بحذر مع معطياته، لا سيما مع ما يمكن أن يفضي إليه هذا الاتفاق من تغييرات في منطقة الشرق الأوسط، وبوجه عام تنطوي المواقف العربية على دلالات جوهرية:
أولا: تتعامل الدول العربية مع مثل هذه الاتفاقيات بمنطق ما هو مستتر وليس ما هو معلن في بنود الاتفاق، ومن هذا المنطلق فإن اتفاق جنيف قد يكون بمثابة تحول في علاقة إيران بالغرب، يعطي لإيران ما كانت تصبو إليه من اعتراف أمريكي وأوروبي بدورها في المنطقة، وهو ما يمنح طهران مساحة أكبر للتمدد، بحيث ستمثل في نهاية المطاف خصمًا من نفوذ قوى عربية أخرى، ولا يمكن إغفال أن هذا الأمر يثير هواجس لدى بعض الدول العربية في مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي، فالدول الخليجية -لا سيما المملكة السعودية - كانت تطمح خلال السنوات الماضية إلى الإبقاء على حالة العداء القائمة بين الغرب وإيران، ومن ثمَّ استقر الموقف الخليجي على أن أي مؤشرات للتقارب الغربي مع إيران ستعد مأزقًا للدول الخليجية.
ثانيًا: بدت مواقف الدول العربية، وخاصة الدول الخليجية ) التي ليست على وفاق مع إيران)، من اتفاق جنيف مشوبة بالكثير من الحذر، ويعد الموقف السعودي الأكثر وضوحًا في هذا الصدد، فقد رأت الرياض أن "الاتفاق النووي بين القوى الدولية وإيران يمكن أن يشكل خطوة باتجاه حل شامل إذا صدقت النوايا"، وهكذا يبدو أن ثمة ارتباطًا بين الموقف السعودي والسوابق التاريخية مع إيران وميراث عدم الثقة بين الطرفين، فالمملكة السعودية تصنف إيران كتهديد خارجي لها، فضلا عن كونها تهديدًا داخليًّا من خلال الشيعة المتواجدين داخل شرق المملكة.
ثالثًا: سعي النظام السوري المتحالف مع إيران إلى التعاطي مع اتفاق جنيف من منظور براجماتي، واستغلاله في الصراع الدائر داخل سوريا، فقد نقلت الوكالة العربية السورية للأنباء عن مصدر بوزارة الخارجية تصريحه: " تعتقد سوريا أن التوصل إلى هذا الاتفاق دليل على أن الحلول السياسية لأزمات المنطقة هي الطريق الأنجح لضمان الأمن والاستقرار فيها، بعيدًا عن التدخل الخارجي، والتهديد باستخدام القوة"، فنظام الأسد يرى في مثل هذا الاتفاق تعبيرًا عن توصل الغرب إلى قناعة بأن استخدام القوة العسكرية لم يعد مجديًا في التعامل مع الملف السوري، وخصوصًا مع اقتراب موعد مؤتمر جنيف 2 حول سوريا المقرر انعقاده في شهر يناير القادم، يضاف إلى ذلك فإن الاتفاق سيخفف الضغوط على طهران، وهو ما سينعكس إيجابيًّا بصورة أو بأخرى على نظام الأسد.
تداعيات محتملة
ثمة تكاليف باهظة لاتفاق جنيف ستدفعها منطقة الشرق الأوسط في صورة المزيد من الأزمات، وتوسيع دوائر الصراع بالمنطقة، ويبدو أن هذه الفرضية قادرة على إعطاء تفسير ولو جزئي للتخوفات المنتشرة في الوقت الراهن بالمنطقة من هذا الاتفاق، فكثيرًا ما كانت إيران تشكل طرفًا في صراعات عدة، وهي دولة لها طموحات تتجاوز حدودها، وتمتلك مقومات نفوذ وتأثير عديدة، وقد يدفع الاتفاق النووي نحو تعزيز الطموحات الإيرانية بصورة تنعكس على ترتيبات الأوضاع بالإقليم في المجمل، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى بعض التداعيات المحتملة لاتفاق جنيف:
-تراجع أولوية الحلول العسكرية : ظل الخيار العسكري أحد الخيارات الأساسية المطروحة في الصراعات القائمة بالمنطقة، وقد حاولت بعض الدول بالمنطقة استدعاء هذا الخيار في التعامل مع الملف الإيراني، ومن ثمّ فإن اتفاق جنيف بين القوى الدولية وإيران يعني تراجع احتمالية اللجوء للحل العسكري، ولو بشكل مؤقت (على أقل تقدير لمدة ستة أشهر) ضد إيران وحتى إسرائيل، فمن المستبعد أن تُقدم على القيام بهذا الأمر بصورة منفردة.
وتنطوي فرضية تراجع أولوية الحلول العسكرية على جانبين، أحدهما إيجابي للدول العربية (وبصورة أدق دول الخليج)، والآخر سلبي. الجانب الإيجابي يفترض أن تراجع احتمالية التعامل العسكري ضد إيران سيؤدي إلى تجنيب دول الخليج حربًا إقليمية تمتد إلى حدودها بصورة حتمية، ففي الوقت الذي كانت ستتعرض فيه إيران لضربة عسكرية لم يكن من المستبعد أن توجه ضربات انتقامية لأهداف وحلفاء للغرب بالخليج.
ويتضح الجانب السلبي (بالنسبة لتقديرات بعض الأطراف العربية) من الفرضية مع الانتقال من خصوصية الحالة الإيرانية إلى محاولة تعميم نموذج استبعاد الحلول العسكرية في معالجة كافة أزمات المنطقة لا سيما الصراع الدائر حاليًّا في سوريا؛ إذ إن الدول العربية الداعمة للمعارضة السورية ترغب في تدخل عسكري يرجح كافة المعارضة، ويسقط نظام الأسد، وبالتالي فهي تدرك أن اتفاق جنيف وما سبقه من اتفاق حول السلاح الكيماوي السوري سيعمم لنموذج الحلول السياسية التي تعني مكاسب إيرانية على حساب تلك الدول.
-تأزم الأوضاع في سوريا: تخوض بعض الدول العربية (مثل المملكة السعودية ودول خليجية أخرى) وإيران حربًا بالوكالة داخل سوريا، فكل طرف يدعم أحد أطراف الصراع، وقد يؤدي اتفاق جنيف نحو تأزم الأوضاع السورية بصورة أكبر، وهذا السيناريو مرتهن بفرضيتين:
1) أن تتعامل إيران مع اتفاق جنيف على أنه تعبير عن ضعف الولايات المتحدة (ومعها الدول الغربية) وعجزها عن تسوية الملف الإيراني بصورة تحقق لها المصالح الأمريكية دون تقديم أي تنازلات، وانطلاقًا من هذه الرؤية تسعى طهران إلى تحقيق المزيد من المكاسب في القضايا التي تحتل أولوية لديها، فتندفع نحو دعم نظام الأسد بشكل غير مسبوق، وتوطد تواجدها في ركائز مختلفة بالمنطقة.
2) تعاطي الدول العربية الداعمة للمعارضة السورية مع اتفاق جنيف من حيث كونه اعترافًا غربيًّا بالنفوذ الإيراني، فهناك هاجس لدى بعض الدول هو أن ما حدث في جنيف كان بمثابة صفقة بين الولايات المتحدة وحلفائها وإيران تعترف عبرها واشنطن بالمصالح الإيرانية دون أن تأخذ في اعتبارها مخاوف دول عربية أخرى في مقدمتها الدول الخليجية، وهذا التقدير الأولي من تلك الدول للموقف سيجعلها تبحث عن مصالحها منفردة، وتحاول تأكيد نفوذها وتواجدها في الساحة السورية من خلال تسريع وتيرة الدعم والتسليح للمعارضة السورية لعلها تتمكن من تحقيق تقدم في معاركها مع النظام المدعوم من إيران على أقل تقدير خلال الفترة المتبقية على انعقاد مؤتمر جنيف الثاني.
- تصاعد معدلات العنف الطائفي، مرت المنطقة خلال السنوات الماضية بالعديد من الأزمات ارتبطت بتزايد معدلات العنف الطائفي، بدءًا بالخليج، والصراع المستمر بين السنة والشيعة داخل العراق، مرورًا بمصر، وتنامي العداء السني الشيعي، وانتهاء بالأوضاع الملتهبة في لبنان من جراء تدخل حزب الله في سوريا، ودعمه لنظام الأسد، ولا يمكن إغفال ارتباط تفجير السفارة الإيرانية في بيروت مؤخرًا بتلك الأحداث.
ففي هذا السياق قد تستغل بعض الجهات اتفاق جنيف والتوافق بين الغرب وإيران وتضعه في إطار المؤامرة على العالم العربي السني، وهكذا تُستدعى مجددًا مفردات الصراع الطائفي التي ظلت سائدة في المنطقة منذ حرب العراق 2003، ناهيك عن أن أوضاع المنطقة متضافرة تعضد من هذه الاحتمالية، فالعراق لا يزال يعاني من جراح العنف الطائفي المستمر منذ الغزو الأمريكي له، وبمرور الوقت تم الاستعاضة عن فكرة العدو الأمريكي لتحل محلها فكرة الحرب المقدسة بين السنة والشيعة، يضاف إلى ذلك فإن الصراع السوري لم يعد مجرد مطالب مجتمعية بالحرية والعدالة والديمقراطية، ولكنه أمسى في جانب كبير منه صراعًا ذا صبغة طائفية تمترس فيه كل طرف خلف غطاء طائفي حتى أن بعض الأطراف الخارجية التي شاركت في الصراع (بدعم أحد طرفي الصراع المباشرين) دخلت الصراع بفكر ورؤية طائفية.
وبوجه عام ستصبح المشكلة أكثر عمقًا إذا كانت الولايات المتحدة تطمح من وراء هذا الاتفاق إلى البحث عند إيران عن تسوية للأزمات المستحكمة والقضايا العالقة في المنطقة وخاصة أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان، فهي بهذا الأمر ستضفي على المنطقة المزيد من عوامل التعقيد، لا سيما أن الدول العربية ترى أن الولايات المتحدة تتخذ هذه الخطوات دون الالتفات للرغبات العربية.
- تزايد الطموح النووي بالمنطقة، يُرجح أن يفضي اتفاق جنيف إلى تعاظم الطموح النووي السلمي لدى الدول العربية، وهو الاحتمال الأقرب في الحالة الإماراتية والسعودية، إذ إن الإمارات اتخذت خطوات في هذا الصدد منذ سنوات، ووقعت اتفاقيات تعاون مع بعض الدول (على سبيل المثال فرنسا والولايات المتحدة) في مجالات الاستخدام السلمي للطاقة النووية، كما أن المملكة السعودية تخطط لافتتاح أول مفاعل نووي للطاقة السلمية في عام 2020، وقد تنضم مصر لهذه المنظومة، فهي تمتلك مخططًا لإنشاء أول محطة نووية لتوليد الكهرباء بمنطقة الضبعة.
وعطفًا على ما سبق يُحتمل أن تتسارع وتيرة البرامج النووية السلمية بالمنطقة لتشكل نوعًا من الرد على اتفاق جنيف، أما فيما يتعلق بانتشار السلاح النووي فهي قضية تعترضها إشكالية جوهرية تتمثل في السلاح النووي الإسرائيلي، فمن المستبعد أن تتخلى إسرائيل عن سلاحها النووي، وهو ما سيجعل المنطقة عرضة لمخاطر مستقبلية، خاصة أن اتفاق جنيف ليس نهاية المطاف فهو اتفاق مؤقت يمكن أن يعود بالمنطقة إلى نقطة الصفر، وقد يكون اجتماع جنيف القادم حول سوريا الاختبار الحقيقي الأول للتقارب الإيراني الغربي.