في إطار موجة العنف المتصاعدة التي يشهدها عدد من دول العالم، جراء النزاعات والصراعات الداخلية، لاسيما الدينية منها، وفي سياق التساؤل حول الدور المنوط بالمواطن القيام به من أجل نبذ العنف في المجتمع، وتحديد طبيعة وشكل السلام المنشود، نظم مركز جون جرهارت للعطاء الاجتماعي والمشاركة المدنية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ندوة بعنوان "ماذا نفعل كمواطنين لبناء السلام فى ظل الصراع الديني؟"، تحدثت فيها الناشطة في بناء ثقافة السلام، ورئيسة المؤسسة المجتمعية لأيرلندا الشمالية، أفيلا كيلميراي، عن تجربتها الشخصية على مدى 25 عاما من الصراع الطائفي في أيرلندا الشمالية، وعن دور المواطنين في إنهاء العنف، وإعادة بناء المجتمع. وقد حضر الندوة عدد من الخبراء والباحثين.
أبعاد الصراع الطائفي في أيرلندا الشمالية:
أكدت أفيلا كيلميراي في بداية حديثها أنه على الرغم مما حققته أيرلندا الشمالية من إنجازات ومكاسب عديدة، منذ وقف إطلاق النار في عام 1998، إثر إبرام اتفاقية سلام قامت بإنهاء ثلاثين عاما من الصراع الطائفي بين الجيش الجمهوري الأيرلندي والجماعات البروتستانتية المؤيدة لبريطانيا، ومنحت أيرلندا الشمالية قدرا كبيرا من الحكم الذاتي، فإن شعب تلك الدولة لا يزال حتى اليوم في نضال وكفاح مستمر من أجل المزيد من الحريات.
وتحدثت كيلميراي عن نشأة الانقسام القومي والديني بين سكان أيرلندا الشمالية وما عاصرته فيها من تمييز سياسي، واقتصادي، وتعليمي، وثقافي ضد الكاثوليك الذين يختلفون في الانتماء القومي والديني عن البروتستانت. وأضافت المتحدثة أن هذا الأمر ترتب عليه تفشي العنف والتطرف في المجتمع، مما أدى إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ترتب عليها عواقب وخيمة تمثلت في إفساد العديد من القيم المجتمعية التي حلت محلها قيم أخرى تؤجج الصراع الديني، وتزيد من العنف والتطرف. وأشارت إلى أن الوضع في أيرلندا الشمالية بات بالغ السوء، وأن معظم السكان توصل إلى خلاصة، مفادها أن العنف لن يأتي بنتيجة، وأنه لا بد من قطع الشريان الذي يغذيه، والمتمثل في التمييز بأشكاله المختلفة. وهكذا، أصبح لا مفر من ضرورة إيجاد بدائل وحلول فعالة للخروج من هذا المأزق .
دور المجتمع المدني في بناء السلام:
أشادت كيلميراي بالدور المهم الذي اضطلعت به مؤسسات المجتمع المدني في أيرلندا الشمالية، والمتمثل في إيجاد بدائل وحلول ناجعة لهذا الصراع الديني، وذلك من خلال التنسيق مع الأطراف المتعارضة من جهة، والتنسيق مع الحكومة البريطانية من جهة أخرى .
وقامت المتحدثة بذكر عدد من المهام المتعلقة بدور المجتمع المدني في نبذ العنف ونشر السلام، وهي:
- خلق ظروف تساعد على الانفتاح من أجل عملية الإصغاء، وفتح قنوات متنوعة للاتصال.
- بناء علاقات قوية ترسخ الثقة، وتبدد المخاوف التي تعيق عملية الحوار.
- تأكيد أسس مشتركة من الثقة والسرية، والموافقة على التواصل.
- التخلي عن ثقافة اللوم وعن الخضوع للضغوط والتوترات.
- تفهم أن بعض المجموعات أقل قدرة عن غيرها في التعبير عن آرائها، ومساعدتها على تخطي ذلك.
وأشارت المتحدثة إلي عدد من المبادرات الجادة التي تبناها المجتمع المدني في أيرلندا الشمالية في سبيل تقديم بدائل وحلول لهذا الصراع المتأزم، ومحاولة صياغته بصورة مختلفة، ذكرت من أبرزها:
- الدور الذي لعبته المؤسسة المجتمعية لأيرلندا الشمالية في دعم العمل المجتمعي، والتأثير فى السياسات العامة التي تتناول الاستبعاد الاجتماعي، والفقر، والظلم الاجتماعي، حيث كانت تعقد اجتماعاتها تلك في مكان محايد بين أحياء البروتستانت وأحياء الكاثوليك، في محاولة للقضاء على قواعد التمييز والتعبير عن القواسم المشتركة، على الرغم من الاختلاف والانحياز الذي تشهده العلاقات بينهم. وأضافت المتحدثة أن المؤسسة ركزت في المقام الأول على المساجين السياسيين، وقامت بتسهيل السبل لذويهم الذين يجدون صعوبة في زيارتهم، وأنها قدمت دعما ماليا للعديد من الأسر التي تضررت من جراء أعمال العنف، وذلك من خلال تحديد الضرر الواقع، وتعويض الفئات المتضررة ، أو تقديم منح مالية لتنفيذ مشاريع خاصة .
وأكدت المتحدثة أن المؤسسة كشفت عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ونددت بالوحشية التي تعاملت بها قوات الشرطة مع الصحفيين والشباب، وهو ما كان يمثل بعض الإحراج للحكومة البريطانية. وعلى الرغم مما سبق، قامت المؤسسة بعدة محاولات للوساطة بين أهالي الضحايا وقوات الشرطة من أجل تحقيق حد أدنى من المصالحة والتقبل في المجتمع.
- مبادرة النقابات العمالية التي هدفت إلى منع وقوع الجرائم، وأعمال العنف، ومكافحتها عند العلم بمكان تنفيذها.
- مبادرة هيئة الصليب المحلية التي قامت بدور الوسيط لتهدئة الأطراف المتنازعة، واستطاعت تنفيذ عمليات تبادل الأسرى بين كل من الطرفين: البروتستانت والكاثوليك.
- تشكيل هيئة استشارية، مهمتها تشجيع الجماعات المسلحة من أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي والجماعات المسلحة من البروتستانت على الحديث عن الانتهاكات، وأعمال العنف التي أدت إلى مقتل العديد من الأبرياء، والهدف من ذلك هو فتح صفحة جديدة من الحوار، وإشاعة أجواء التسامح، وقيم التقبل والدمج في ظل مجتمع واحد.
على صعيد آخر، أضافت كيلميراي أن المجتمع المدني قام بدور مهم في التعبير عن المجتمع المحلي، وإيصال مطالبه إلى الحكومة البريطانية. في البداية، تمت مواجهة ذلك بنوع من النكران والتجاهل، ليس فقط من قبل الحكومة، ولكن أيضا من قبل معظم السياسيين. إلا أن الوضع بدأ في التغيير شيئا فشيئا أمام تزايد وعي وإدراك المواطنين في مواجهة مرءوسيهم، وأمام تزايد قوة مؤسسات المجتمع المدني التي أصبح لها مردود وصدى كبير في المجتمع، وهو ما جعلهم في نهاية الأمر يتقبلون النقاش والعمل المشترك من أجل إيجاد مخرج لهذه الأزمة، ودأب السير في وتيرة متسارعة لنبذ العنف وتطبيق السلام، من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وانخرط المواطنون في العمل المجتمعي، انطلاقا من شعورهم بوحدة المصير، وإدراكهم لأهمية الحوار، وضرورة التواصل البناء من أجل السلام الوطني، بعيدا عن الصراعات، والاحتقانات، والتنافر، والتمزق. وعلى النقيض من ذلك، أشارت كيلميراي إلى أنه كان هناك عدد من المواطنين الذين انضموا لهذه المؤسسات بغرض التمتع بالحماية فقط، وليس لأسباب أخرى.
توصيات قابلة للتطبيق:
خلصت كيلميراي إلى أنه من الصعوبة قياس العطاء المجتمعي، من خلال مؤشرات التقدم والتراجع، وذلك لأنه يعبر عن عملية طويلة المدى تتطلب دعما ماليا، وأدوات فعالة، وتنظيما عالي المستوي، بالإضافة إلى أن بناء السلام ليس بأمر محايد، بل هو عملية متزنة لرؤية تقوم على العدالة والتضامن، وأن كافة المتحدثين الدوليين أكدوا دور المجتمع المدني في هذا الخصوص، وبالتالي لا بد من دعم الاتحادات وتشجيع المساحات ذات الصلة، ومجابهة التحديات لتحقيق السلام. وأضافت المتحدثة أنه يمكن الجزم بصعوبة قيام المجتمع المدني بدور حقيقي في نشر المحبة، ونبذ العنف، بدون توافر بيئة مواتية تساعده علي تحقيق أهدافه.
وفي نهاية الندوة، أكدت كيلميراى عدة نقاط، هى:
- من الضروري أن يكون بناء السلام تحديا مجتمعيا يتصارع من أجله الجميع، ويجب ألا ننهزم، أو نستسلم أمام الضغوط السياسية.
- لا بد من طرح الأسئلة التي يخشى الآخرون الجهر بها، أو طرحها، لأننا كلنا جزء من المشكلة، ويجب أن نكون جميعا جزءا من الحل.
- التغيير المجتمعي يمكن أن يحدث بالفعل، وأنه ليس ضربا من الخيال، فهناك نتائج ملموسة لهذه الجهود المبذولة، وأنه من الضروري، وليس من السهل الوصول إلى هذه المرحلة، ولا بد من إيجاد وسائل سلمية للعيش معا.
- لا بد أن يلعب المجتمع الدولي دورا أكبر إزاء نبذ العنف وبناء السلام .