22 أكتوبر 2013
حينما اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وما أعقبها من الإطاحة بنظام مبارك، كان ثمة تساؤل مطروح حول إمكانية تأسيس الحالة المصرية نموذجاً مغايراً في العلاقة مع واشنطن يتجاوز الأطر التقليدية التى ظلت حاكمة للعلاقة على مدى عقود. ولكن بمرور الوقت، أمسى هذا التساؤل أكثر تعقيداً مما يبدو، فقد وصلت جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة، وسرعان ما تبين أنها لا تمتلك رؤية متماسكة لسياسة مختلفة تجاه الولايات المتحدة، فيما كانت واشنطن تسعى لتخطى حالة عدم الاتزان التى تعانيها منذ سقوط نظام مبارك، ومن ثم استمرت العلاقة الثنائية بين الدولتين كما هى لم تراوح مكانها باستثناء بعض المحاولات للتوجه شرقاً، والزيارات لروسيا والصين، والانفتاح على إيران، والتى لم ترق لأن تكون تعبيراً عن مرحلة جديدة في السياسة الخارجية المصرية.
وعقب سقوط حكم جماعة الإخوان في الثلاثين من يونيو 2013، وعزل الرئيس مرسي، باتت العلاقة بين النظام الحاكم الجديد في مصر والولايات المتحدة أكثر تأزماً، لاسيما مع التلويح الأمريكى المستمر بورقة المساعدات للضغط على النظام المصري. وفي هذا السياق، أصبح التساؤل الرئيسى يتمحور حول الخيارات المتاحة أمام النظام الحاكم للتعامل مع واشنطن، وماهية المساحات المسموح بها للتحرك بعيداً عن السياسات الأمريكية.
القاهرة وواشنطن.. مؤشرات تأزم:
تزامن بزوغ جماعة الإخوان المسلمين (الإسلاميين بوجه عام) بعد 25 يناير 2011 مع محاولة الولايات المتحدة لتطوير وتعديل موقفها من الإسلاميين، واستقر تفكير واشنطن على أن التعاون مع النظام الحاكم بقيادة جماعة الإخوان أمر ممكن الحدوث، لاسيما مع ما انطوى عليه خطاب الجماعة من توافق في الكثير من مفرداته مع المصالح الأمريكية. وهكذا، كانت الإدارة الامريكية تستعيض عن نظام مبارك بنظام آخر، بدا لها أنه أكثر قدرة على الحشد، وفي الوقت نفسه لديه خطاب يتماشي مع المصالح الأمريكية.
وفي هذا الإطار، واجهت الولايات المتحدة في الثالث من يوليو 2013 بعد سقوط حكم الإخوان إشكاليتين جوهريتين، أولاهما أن النظام الحاكم الجديد في مصر لديه اعتقاد بأن واشنطن أكثر انحيازاً لجماعة الاخوان المسلمين، وبالتالي فإن دوائر صنع القرار الأمريكية رأت فيما حدث – عزل الرئيس المحسوب على جماعة الإخوان – نهاية لشبكة من التحالفات الجديدة، كانت تسعي واشنطن لترسيخ وجودها.
أما الإشكالية الأخرى، فتتمثل في الموقف الأمريكي الملتبس مما جرى في 30 يونيو و3 يوليو 2013 ، وعدم الاستقرار على إعطاء توصيف محدد للمشهد يمكن أن يرضي النظام الحاكم في مصر، والذى يري أن إسقاط جماعة الإخوان المسلمين تم عبر ثورة شعبية لا تختلف عن ثورة 25 يناير 2011، واتضح أن الموقف الأمريكى الرسمي يراوغ في توصيف الأوضاع، لاسيما أن استخدام مصطلح "انقلاب" يعني إيقاف كافة المساعدات الأمريكية الموجهة لمصر، وذلك فيما كانت أصوات داخل الكونجرس تطالب بتعليق المساعدات الأمريكية، لأن ما حدث كان "انقلابا" من وجهة نظرها.
وكانت هذه المعطيات تنذر بأن العلاقة بين النظام المصري والإدارة الأمريكية مُقبلة على أزمات تجلت ملامحها في انتقاد الإدارة الأمريكية لطريقة تعامل الحكومة المصرية، مع تظاهرات مؤيدى جماعة الإخوان المسلمين، كما اتخذ الرئيس الأمريكي قرارا بإيقاف المناورات العسكرية المشتركة "النجم الساطع" مع مصر، عقب فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
وشكلت المساعدات الأمريكية قضية إشكالية في العلاقة بين الطرفين، فقد وظفت الإدارة الأمريكية ورقة المساعدات للضغط على النظام المصري، والتلويح المستمر بإيقاف تلك المساعدات، اعتراضاً على سياسات يتبناها النظام المصري، وهذا الأمر عبر عنه قرار الإدارة الأمريكية خلال شهر أكتوبر الجارى بإيقاف تسليم مصر دبابات وطائرات مقاتلة، وطائرات هليكوبتر وصواريخ، بالإضافة إلي مساعدات نقدية تُقدر بـ 260 مليون دولار.
وفي المقابل، تزايدت نبرة الاعتراض من جانب النظام المصري على التوجهات الأمريكية. فخلال مقابلة للفريق أول عبد الفتاح السيسي مع صحيفة واشنطن بوست الأمريكية في شهر أغسطس الماضي، أشار إلى أن إدارة الرئيس أوباما تتجاهل إرادة الشعب المصري، وذكر "نتساءل حقاً ما هو دور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروربي وجميع القوي الدولية الأخرى التي تؤيد أمن مصر واستقرارها؟ هل قيم الحرية والديمقراطية صالحة فقط في بلادكم؟. لقد تخليتم عن المصريين .. أدرتم لهم ظهركم وهم لن ينسوا ذلك". وعقب قرار الإدارة الأمريكية تجميد بعض المساعدات أثناء شهر أكتوبر الجاري، انتقدت الحكومة المصرية توقيت القرار، ورأت "أن القرار غريب في هذا التوقيت الحيوي الذي تخوض فيه مصر حرباً ضد الإرهاب".
وتداخل مع هذا المشهد تصاعد حدة العداء للولايات المتحدة داخل الشارع المصري، وانكشف أن هناك ثمة تيارا يرى أن واشنطن تؤيد جماعة الإخوان المعارضة للسلطة الحاكمة، وأن هذا التأييد يدفع الأوضاع نحو المزيد من التعقيد والعنف، ناهيك عن ردود أفعال تراوحت بين المطالبة بالتخلى عن المساعدات الأمريكية، وصولاً للمطالبة بمراجعة معاهدة السلام مع إسرائيل.
خيارات النظام المصري:
كثيراً ما تصلح مقاربة التحدى والاستجابة لتفسير العلاقات بين الدول، إذ إن الدول تواجه عددا من التحديات تستلزم الاستجابة بدرجة تحافظ لها على مصالحها. وعطفاً على هذا، يمكن القول إن النظام المصري الحالي يمتلك في علاقته بالولايات المتحدة خيارات استجابة، من الجائز اختزالها في ثلاثة مسارات:
- مسار التماهي، ويفترض هذا المسار استمرار التبعية التي ظلت لسنوات السمة الغالبة للعلاقة بين القاهرة وواشنطن، وبالتالي التماهي بين توجهات السياسة المصرية والسياسة الأمريكية، وهو ما يعنى أن النظام المصري عليه الاستجابة لكافة المطالب الأمريكية، خاصة تلك المتعلقة بالأزمة الداخلية الراهنة، والتعاطى مع جماعة الإخوان المسلمين.
ويعترض هذا المسار مأزق المعادلة الداخلية المصرية، إذ إن طرفي الأزمة، سواء السلطة الحاكمة أو جماعة الإخوان المسلمين، يخوضان حالة أشبه ما تكون بصراع وجود في خضم مباراة صفرية يأبي فيها أى طرف تقديم أي تنازلات. ومن ثم، فإن المطالب الأمريكية بإيجاد تسوية سياسية للصراع، والضغط على الحكومة المصرية للتفاوض لن تجد بيئة مواتية في الوقت الحاضر.
ويعد الرأى العام أحد القيود المفروضة علي هذا المسار. ففي الفترة اللاحقة على 30 يونيو 2013 ، تشكل تيار واسع داخل الشارع المصري يطالب النظام المصري بإنهاء حالة التبعية لواشنطن، وبات لدي هذا التيار اعتقاد راسخ بأن توجهات الإدارة الأمريكية مناوئة للمصالح المصرية. ومن هذا المنطلق، سيصبح على النظام المصري البحث عن مسار يراعي مصالح الدولة في المقام الأول بعيداً عن رغبات واشنطن، أو على أقل تقدير سيكون النظام حريصا على تبنى مواقف مغايرة لمواقف واشنطن، ولو بقدر ضئيل يرضي من خلالها الرأى العام.
- مسار القطيعة، فقد يلجأ النظام المصري إلي القطيعة مع واشنطن والتصعيد بوتيرة متسارعة لا تتيح مساحة للالتقاء، بحيث يتجه النظام الحاكم بصورة رسمية (بمنأى عن الصيغة غير رسمية، كما هو معتاد في الوقت الراهن) إلي التخلي عن المساعدات الأمريكية، والشروع في مراجعة معاهدة السلام مع إسرائيل، والانفتاح بصورة غير مسبوقة على قوى دولية أخرى منافسة للولايات المتحدة، مثل روسيا والصين، لتكون بمثابة مصدر بديل للتسليح والدعم الاقتصادي، وينطوى هذا المسار على التعقيدات التالية، والتي تجعل من الصعب تحققه في المدى القريب:
- يعتمد تسليح الجيش المصري بصورة أساسية على الولايات المتحدة، وهذا الأمر يحتاج إلى فترة زمنية ممتدة لتغييره، والاستعاضة عن التسليح الأمريكي بآخر ينهي علاقة الارتباط العسكري بين الدولتين. كما أنه من غير المنطقي في الوقت الراهن استحضار أفكار الحرب الباردة والثنائية القطبية، حينما كانت مصر تعتمد في تسليحها على أوروبا الشرقية.
- بالرغم مما يقال عن تراجع الـتأثير الأمريكي، وأن عهد القطبية الأحادية أوشك على الأفول، فلا تزال الولايات المتحدة هى الدولة الأهم في النظام العالمي، وتشكل محورا رئيسيا في منطقة الشرق الأوسط بكافة قضاياه، فهى أكثر انخراطاً من غيرها في شئون المنطقة، وهو ما يحتم على النظام المصري التعامل معها برشادة. يضاف إلى ما سبق أن النفوذ الدولي الذي تحظى به واشنطن يمكن أن يحقق للنظام المصري مصالح عدة، أهمها تيسير التواصل بالمنظمات الاقتصادية الدولية (على وجه التحديد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، والحصول علي مساعدات اقتصادية منها. كما أن اعتراف واشنطن بالنظام الحاكم الجديد، وتوطيد العلاقات الثنائية معه سيعطي للنظام المصري حيزا أكبر للتحرك على الصعيد الدولي.
- إن الاقتصاد المصري أكثر ارتباطاً بالغرب (أوروبا والولايات المتحدة) مقارنة بروسيا والصين.
- مسار التصعيد المحكوم، وينصرف هذا المسار إلى إرساء نهج جديد للعلاقات مع الولايات المتحدة، قائم بالأساس على فكرة تبادل المصالح، وليس مجرد صيغة تبعية، وبالتالي يمكن للنظام الحاكم أن يعترض على مواقف واشنطن، ويرفض الانصياع لمطالبها، ولكن دون أن تصل إلى مرحلة القطيعة مع واشنطن، فهو بدرجة أو بأخرى تصعيد ضد توجهات الإدارة الأمريكية، ولكنه أيضاً تصعيد محكوم بإطار معين (يقع في منطقة وسط بين التماهي والقطيعة). وبوجه عام، يستدعى هذا المسار الملاحظات الآتية:
- يفترض مسار التصعيد المحكوم أن يتعاطي النظام المصري مع قضية المساعدات الأمريكية من منظور براجماتي بحت، إذ إن واشنطن تحقق من وراء علاقاتها مع مصر مصالح فعلية تتضمن مزايا عسكرية ولوجيستية مثل: استخدام الأجواء المصرية، وتسهيلات فيما يتعلق بعبور قناة السويس للسفن والبوارج الأمريكية، علاوة على ضمان استمرار العلاقات السلمية بين إسرائيل والقاهرة. ويعضد هذه الفكرة آراء أمريكية صدرت أخيراً بعد قرار الإدارة الأمريكية تعليق بعض المساعدات لمصر، حيث أشار إريك تراجر – في مقال له بعنوان "أوباما ارتكب خطأ فادحاً بشأن مصر" ومنشور على الموقع الإلكترونى لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدني – إلى أن "تعليق أوباما المساعدات المقدمة لمصر سيكلف واشنطن نفوذاً كبيراً داخل مصر، دون تحقيق أي مكاسب، سواء للجيواستراتيجية الأمريكية، أو لآفاق الديمقراطية في مصر".
- استمرار النظام المصري في محاربة الإرهاب بعد 30 يونيو من المحتمل أن يكون عنصرا ضاغطا على الإدارة الأمريكية يدفعها للتراجع عن مواقفها تجاه الحكومة المصرية. ففي المقام الأول والأخير، الولايات المتحدة دولة تحركها مصالحها ومصالح حليفتها بالمنطقة، إسرائيل. وفي هذا السياق، إذا تمكن النظام الحاكم من تحقيق الاستقرار للدولة، وخرج منتصراً من صراعه مع جماعة الإخوان، فلن يكون أمام واشنطن سوى التعامل مع هذا النظام، والبحث عن مصالحها معه.
- قد يوظف النظام المصري شبكة تحالفاته الإقليمية والدولية في ملف العلاقات الأمريكية. فمن ناحية، توفر شبكة التحالفات الإقليمية مع دول خليجية (وفي مقدمتها السعودية والإمارات) للقاهرة غطاء إقليميا يمنحها زخما أكبر في التفاعل مع المواقف الأمريكية، لاسيما مع المصالح المتشابكة والمعقدة التى تجمع الولايات المتحدة بالدول الخليجية. ومن ناحية أخرى، فإن العلاقات مع دول، مثل روسيا والصين، تسمح للنظام المصري بمساحة مناورة قد لا تكون كبيرة بالقدر الكافي، ولكنها على أقل تقدير ستنبه واشنطن لعواقب سياساتها تجاه مصر.