على الرغم من صعوبة الإمساك بكل أبعاد 30 يونيو، و3 يوليو، وما تبعهما من أحداث، وعلى الرغم من أن قدرتنا على سبر أغوار الحقيقة تزداد كلما تعافينا من عواطف الحدث الحاضر، وكلما ابتعدت المسافة بيننا وبينه، عبر الزمن، فإن بعض الصور الذهنية التي تسجلها اللحظة تقدم للتاريخ مادة تصبح مع مرور الوقت أشبه بـ "فوتوغرافيا الذاكرة"، التي تزداد أهميتها لمن يتناولون الحدث تاليا.
ولأجل ذلك، تنبع أهمية مادة هذا الملف، الذي تصدي بالتحليل العلمي لأحداث لا تزال حية في الذاكرة النشطة، ولا تزال الآراء بشأنها تتباين. وسيأتي باحثون، بعد عشرات السنين، ليخلصوا إلى نتائج أخرى، لكن موضوعات هذا الملف سوف تبقي سندا أساسيا في الروايات التالية.لقد حاولنا بقدر الممكن الابتعاد عن كل ما هو ذاتي وشخصي، وركزنا على الجوانب التي يعتقد أنها تحمل أقل قدر من الاختلاف. ابتعدنا عن تقديم تعريف للأحداث والمفاهيم الشائكة، وتجنبنا بقدر الممكن الانحياز لأي رؤية أو قراءة خاصة، ولكن لم يكن بالإمكان التخلص من ذلك تماما.
إن المفهوم المركزي والمصطلح الرئيسي الجامع بين موضوعات الملف المختلفة هو مفهوم "إعادة الاكتشاف الإقليمي". ففي هذا الملف، تبدو مختلف الظواهر والتشابكات في الإقليم في لحظة تغير، ويجري إعادة اكتشافها، وتبدو الأطراف وكأنها تتعامل معها لأول مرة.
في الموضوع الأول، سعي د. عبد السلام نوير إلى اكتشاف الأبعاد الدولية للحدث، وما إذا كان يمثل ثورة أو انقلابا، واستعرض حجج وأسانيد كل طرف، وألقي الضوء على اكتساب الأحداث الداخلية في مصر بعدا دوليا يقترب من التدويل، رغم أن ذلك لم يكن بالإمكان تخيله منذ سنوات. وطرح سيناريوهات أربعة لمستقبل التحول السياسي في مصر من منظور البعد الدولي، مؤكدا أن السيناريو الأكثر احتمالا هو التحول الديمقراطي الشكلي.
وفي الموضوع الثاني، قدم د. نصر عارف مادة يمثل العنوان الأبرز لها "إعادة اكتشاف" جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي، فتناول بدايات التدهور في الحالة الدينية، والقيمية، والروحية للجماعة، مؤكدا أن المرض العضال قد تمكن منها منذ سنوات طويلة. ومن يقرأ الموضوع يصيبه قدر من المفاجأة بالحال الذي كانت قد بلغته الجماعة قبل توليها السلطة. ولقد أسرتني المفاهيم التي صكها عن "الجهاد الافتراضي"، و"الاستنساخ الحركي"، و"الدائرة الجبرية"، وحديثه عن "الديمقراطية بوسائل سوق عكاظ".
ويري كل من الدكتور نصر عارف والدكتور خليل العناني أن "نموذج الإسلام الحداثي للإخوان" -وفقا لتسمية "عارف"، و"الإسلاموية الأرثوذكسية" -وفقا لتسمية "عناني"- قد وصلا إلى مرحلة النهاية.ويشير "عناني" إلى أن سقوط مشروع الجماعة يمثل ضربة موجعة لكل حركات الإسلام السياسي، وللفكرة المركزية التي تدور حولها هذه الحركات، وتحدث عن "السوق الدينية" التي راجت في السنوات الأخيرة، وعن وقوع جماعة الإخوان في فخ الابتزاز الديني من جماعات الإسلام السياسي الأخرى طيلة عامها في السلطة.
وفي الموضوع الرابع، يعمد الدكتور خالد الدخيل إلى إعادة اكتشاف العلاقات المصرية - الخليجية بعد 30 يونيو، وتحديدا المصرية - السعودية، ويرصد ملامح تطور علاقة خاصة بين المملكة والمؤسسة العسكرية في مصر، ويحلل أسباب وأهداف الدعم السعودي للقاهرة، من واقع الغوص في بحار السياسة السعودية. كما تحدث عن المقابل الذي تنتظره الرياض من القاهرة. ويطرح السؤال المهم بالنسبة لمنطقة الخليج بشأن تأثير التغير على جانب مصر، وعدم التغير على جانب دول الخليج، في مستقبل العلاقات بين الطرفين.
وسعي الدكتور عماد جاد إلى اكتشاف تأثيرات سقوط حكم الإخوان في مستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي، فتناول العلاقات الوثيقة بين حماس والإخوان، في ظل حكم مرسي، وأشار إلى تقديم مصالح التنظيم على حساب المصالح الوطنية والقومية، وتداعيات ذلك السلبية على القضية الفلسطينية. ورأي أن سقوط الإخوان من الأرجح أن يصب في مصلحة حركة فتح والسلطة الوطنية، ومن شأنه أن يدعم التوجه نحو التسوية السياسية، بصرف النظر عن مدي الجاهزية للسير في مفاوضات تسوية سياسية تقود إلى سلام حقيقي أم لا.
ثم قدم د. حسنين توفيق تحليلا لتداعيات أحداث 30 يونيو على دولتي الجوار الرئيسيتين، وسعي إلى اكتشاف جوانب التباين في الموقفين الإيراني والتركي من الأحداث. وأظهر أبعاد وأسباب الحدة في الموقف التركي، بعد سقوط حكم الإخوان، مشيرا إلى الأوضاع الداخلية التركية التي لا تستبعد تكرار سيناريو 30 يونيو، متوقعا تراجع الدور التركي في المنطقة، إثر فقدان أنقرة دورها كوسيط، بعد انحيازها للجماعات الإسلامية، وبعد فشل الجماعة الأم في مصر. كما تناول خلفيات التذبذب في الموقف الإيراني، مؤكدا أنه من الأرجح أن تتأثر طهران سلبيا، جراء أحداث 30 يونيو، بسبب تغير خريطة التحالفات في المنطقة، واحتمالات إحياء محور الاعتدال العربي.
أما أ. أحمد دياب، فقد تناول مواقف كل من المنظمات الدولية، خاصة الأمم المتحدة ،والاتحاد الإفريقي، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين. وخلص إلى أن أغلب المواقف الدولية بشأن أحداث 30 يونيو قد اتسمت بالغموض، والالتباس، والبراجماتية، وسعت إلى إمساك العصا من المنتصف، لكنها اتجهت إلى التحول التدريجي.
وبشكل عام، فقد كشفت أحداث 30 يونيو عن مجموعة من جوانب الضعف العربية. لقد شهد الإقليم عملية من إعادة اكتشاف الذات، كانت واضحة وجلية في بعض الجوانب، وكانت منزوية في جوانب أخرى:
أولا- إعادة اكتشاف الدولة، حيث كشفت الأحداث عن أن مفهوم الدولة ليس راسخا لدي قطاعات من المصريين. كان الاعتقاد أنه أمام قيمة الدولة في بلد بسيط موحد وذي كيان حضاري وتاريخي، مثل مصر، تتراجع كل المصالح والروابط الأدني. ولم يكن معروفا أنه، في غفلة من الزمن، سطت جماعات على دور ووظيفة الدولة، ووجهت أذهان أتباعها إلى التعلق بدولة "خلافة افتراضية"، أصبحت عندهم غاية وهدفا أهم من الدولة الوطنية، وأصبح بالإمكان شن حرب من جانب أنصار الدولة الافتراضية ضد أركان الدولة الوطنية القائمة، دون أن يدركوا أنهم يهدمون الاثنتين معا.
ثانيا- كان الاعتقاد أنه من السهل على المواطن العربي أن يدرك الفارق بين النظام السياسي الذي يمكن أن يجري إصلاحه أو هدمه، والدولة التي تمثل أحد أعظم ابتكارات الوجود البشري. وخلط البعض بين الدولة، والنظام السياسي، والجيش، واتجه آخرون لهدم النظام، والدولة، والجيش معا. ولم يكن ذلك أمرا طبيعيا في دولة، كان الاعتقاد أنها تختلف عن غيرها من الدول العربية، فتبين أنها ليست بمنأى عن كل ذلك أمام جماعات تعيش بفكرها وأحلامها خارج الوطن والزمن.
ثالثا- إعادة اكتشاف العلاقات العربية: فقد أكدت الأزمة أن هذه العلاقات انحدرت في مستوى جديد من التدخل الفج في الشئون الداخلية. صحيح أن هناك ميراثا عربيا في ذلك، إلا أنه في الأغلب كان يجري في الدول العربية الصغرى، من جانب دولة جوار عربية كبيرة. لكن الوضع الراهن كشف عن تدخل قوى صغيرة في الشئون الداخلية للدولة العربية الكبرى ("قطر الجزيرة"، وتونس نموذجا). وإلى حد كبير، لا يعكس ذلك اختلال قواعد العمل العربي بقدر ما يعكس رغبة في تصدير الأزمات الداخلية.
رابعا- جرت عملية "إعادة الاكتشاف" الأخرى في العلاقات الخليجية - المصرية، بعد سقوط حكم الإخوان، حيث تحولت العلاقات من الحالة التقليدية الرتيبة والنمطية إلى حالة الدفء والحركية. وبعد أن فقدت أغلب دول الخليج الحميمية مع مصر في عهد الإخوان، أعاد كل طرف قراءة الآخر، في ظل عملية كبري من "إعادة الاكتشاف الاستراتيجي".
وأخيرا، تبقي ضرورة التفكير في السيناريوهات البديلة، وهي التي يجسدها السؤال: ماذا لو كان قد استمر حكم الإخوان، وتجليات ذلك مصريا وعربيا، وماذا لو كان بالإمكان أن يعود الإخوان إلى الحكم، وتجليات ذلك مصريا وعربيا.ويعود جزء من فقدان الصواب لدى البعض إلى عدم التفكير بهدوء في هذين السيناريوهين.
(*) تقديم ملف " 30 يونيو وتداعيات التغيير السياسي في مصر، العدد 194 ، مجلة السياسة الدولية ، أكتوبر 2013 .