ماذا يحدث في الشرق الأوسط؟، إن هذا التساؤل الذي يطرح مجددا كثيرا ما طرح في أوقات سابقة، نظرا لجملة التحولات والتغيرات التي يشهدها الشرق الأوسط، الذي يعد أكثر أقاليم العالم قابلية للتغير والتحول، بما يحتويه من وحدات دولية مهمة، وسياسات متباينة، ومصالح متناقضة، وثروات هائلة، وهويات متصارعة، وتطورات متسارعة تكشف بين الحين والآخر عن تحولات مهمة في بنية النظام، وتفاعلاته، وفاعليه الإقليميين والدوليين.
لكن ما يحدث في الإقليم منذ 30 يونيو 2013، وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، يعد أكثر تفاعلا، وتشابكا، وتداخلا، وغموضا علي كافة المستويات، علي النحو الذي يطرح العديد من التساؤلات حول طبيعة هذه التحولات، والتغيرات، والتفاعلات الجارية في الإقليم.فقد تعرض الشرق الأوسط لموجات عدة من التحول منذ منتصف الخمسينيات من القرن العشرين وحتي الآن، لكن الموجة الأخيرة من التحولات قد شهدها الإقليم في مرحلة ثورات الربيع العربي. والآن، يبدو أننا أمام موجة جديدة من التحول لها شواهدها وإرهاصاتها، المنبثقة من جملة التطورات الإقليمية التي تفجرت أخيرا، والتي كان في مقدمتها علي الإطلاق الثورة الشعبية المصرية في 30 يونيو 2013 علي حكم الإخوان المسلمين، وما تبعها من تفاعلات ومواقف متباينة، وكذلك تطورات الأزمة السورية، التي دخلت منعطفا جديدا، أدي إلي تسارع وتيرتها استخدام الأسلحة الكيميائية في غوطة دمشق الشرقية، الأمر الذي أسهم في زيادة حدة التفاعلات الإقليمية والدولية.
ولا شك في أن حاصل جمع هذين التطورين في الدولتين الكبيرتين، وما تبعهما من مواقف وسياسات، يساوي حركة غير مسبوقة من التحولات والتغيرات في مواقف الدول وسياساتها، وكذلك في شبكة التحالفات القائمة علي كافة المحاور، ومنها ما هو إقليمي - إقليمي، وآخر إقليمي - دولي، وأخير دولي - دولي.
فعلي مستوى التفاعلات الإقليمية - الإقليمية، ألقى الحدث المصري في 30 يونيو بظلاله علي مستويات عدة، منها أنه أسهم في تبدل العلاقات المصرية - التركية من التعاون والتحالف إلي التنافس والصراع، حيث عارضت تركيا بشدة ما حدث في مصر، ووصفته بـ "الانقلاب العسكري"، وسعت إلي تأليب الدول الغربية ضد الحكم الانتقالي الجديد في مصر، وطالبت بضرورة عودة الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي إلي الحكم، في حين اعترضت الحكومة المصرية علي سياسات تركيا ورئيس وزرائها أردوغان، المعادية لمصر وطموحات شعبها وإرادته التي انحازت لها القوات المسلحة المصرية. إذ إن أنقرة قد راهنت علي حكم الرئيس السابق، واستثمرت فيه سياسيا، واقتصاديا، وإعلاميا، فقد كانت ترنو لأن تكون الدولة النموذج، أو الدولة القائدة للإقليم، انطلاقا من وجود نظم حكم في تركيا، ومصر، وتونس، وغزة، وسوريا (في حالة نجاح الثورة) تنتمي لمرجعية إخوانية، علي أن تكون تركيا هي القطب أو الدولة المركزية التي تقود هذه المنظومة. لكن ما حدث في مصر بدد طموحات الأتراك، بل يكاد يضر بمستقبل هذه المنظومة في المنطقة، لأنه في اعتقاد الاتراك أن أي نظام مصري آخر قد يتعاون معهم، لكنه لن يحقق لهم هذه الميزة، ولن يسمح لهم بقيادة المنطقة منفردين.
وهناك مستوى آخر في التفاعلات الإقليمية - الإقليمية، تمثل في الموقف الخليجي الداعم بقوة للنظام الجديد في القاهرة، سواء كان ذلك ماديا أو دبلوماسيا، الأمر الذي فاجأ وأربك القوي الكبري -رغم العلاقات الاستراتيجية مع دول الخليج- المعارضة لما حدث في مصر، أو ذات المواقف المترددة، وجعل كثيرا من هذه الدول تراجع مواقفها تحت تأثير الإقناع الخليجي (السعودية - فرنسا)، وبذلك تتحول العلاقات المصرية - الخليجية من التوتر والتأزم -في ظل حكم الإخوان- إلي التحالف والتعاون. واللافت في هذا الصدد أن تجدد التحالف المصري - الخليجي قد يشير إلي رسالة مفادها أن "العرب قادمون" للتأثير في مجري التفاعلات الإقليمية بعد طول غياب. وفي هذا الصدد، تقوم كل من السعودية والإمارات بجهود مكثفة لإقناع إثيوبيا بالدخول في مشروع تعاون اقتصادي كبير مع مصر بشرط التفاهم والتعاون مع مصر في مسألة سد النهضة، وعدم الإضرار بمصالح مصر في مياه النيل.
ويتمثل المستوى الأخير في التفاعلات الإقليمية - الإقليمية في عودة التقارب التركي - الإيراني، حيث إن العلاقة بين الدولتين كانت قد وصلت إلي قدر من التحالف والتعاون في تقاسم مناطق النفوذ في العالم العربي في مرحلة ما قبل الثورات، لكن سرعان ما اختلفت إيران وتركيا حول الأزمة السورية بين مؤيد للنظام (إيران) ومؤيد للثورة (تركيا). لكن يبدو أن الإيرانيين يسعون للتعاون مع الأتراك مرة أخري، تمثل ذلك في زيارة وزير الخارجية الإيراني إلي تركيا، عارضا التعاون في ملفات عدة، منها دعم حركات الإسلام السياسي، والأكراد، وغيرها، لكن أنقرة لا تنسي لطهران مساندتها لنظام بشار الأسد.
وربما يأتي في إطار التفاعلات الإقليمية - الإقليمية، كنتيجة لسقوط حكم الإخوان في مصر، المظاهرات العارمة التي يشهدها السودان، وذلك بسبب رفع الدعم عن الوقود، ومواجهة الحكومة لهذه الاحتجاجات باستخدام العنف، وكذلك تزايد المعارضة لنظام النهضة الإسلامي الحاكم في تونس، احتجاجا علي سياساته، وإخفاقه حتي الآن في تحقيق أهداف الثورة التونسية، وتراجع الأداء السياسي والاقتصادي.
أما المحور الثاني، فيتمثل في التفاعلات الإقليمية - الدولية، فبداية شهدت التفاعلات بين مصر والولايات المتحدة مزيدا من الشد والجذب، في ظل موقف الولايات المتحدة المتأرجح بين دعم النظام السابق، والتعاون مع النظام الحالي في مصر، حيث يبدو أن الولايات المتحدة قد راهنت علي تحقيق استراتيجيتها في المنطقة باستمرار الإخوان في حكم مصر. ثم جاء الحدث المصري الضخم ليقلب الأمور رأسا علي عقب، وليفسد علي الولايات المتحدة استراتيجيتها في الإقليم. لكن الولايات المتحدة دولة ذات مصالح استراتيجية متبادلة مع مصر، ومن الحكمة -من وجهة نظر واشنطن- الحفاظ علي هذه المصالح التي يمكن أن تتعرض للضرر في حالة وجود نظام معاد لها في القاهرة، أو في حالة سقوط مصر -لا قدر الله- في براثن الفوضي، خاصة أن النظام المصري الحاكم بعد 30 يونيو يدرك أهمية المصالح المتبادلة مع الولايات المتحدة، لكن هناك اعتقادا جازما في مصر بأنه لا شيء يتقدم علي المصالح العليا للدولة المصرية.
ورغم استمرار الموقف الأمريكي بالإمساك بالعصا من المنتصف -كما وصفه أحد تقارير الملف- فإن تطورا إيجابيا قد طرأ علي الموقف الأمريكي، متمثلا في خطاب الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، في الدورة 68 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أشار إلي أن الولايات المتحدة ستستمر في إقامة علاقات بناءة مع الحكومة المؤقتة في مصر، بما يعزز المصالح الأمريكية الجوهرية، مثل اتفاقية كامب ديفيد، ومحاربة الإرهاب. ولكن ثمة فتورا قد أصاب العلاقات المصرية - الأمريكية قد يزول بمرور الوقت. لكن اللافت في هذه التفاعلات أن القاهرة قادرة علي تحديد مصالحها وحمايتها، حتي وإن تعارضت مع سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، وأنها قادرة علي أن تُسير هذه العلاقات مستقبلا في إطار من التوازن والتقدير المتبادل للمصالح المشتركة.
وعلي صعيد التفاعلات الإقليمية الدولية، هناك أيضا تنام للعلاقات المصرية - الروسية بعد موقف روسيا المتوازن تجاه مصر، بعد عزل الرئيس السابق، حيث أكد وزير الخارجية الروسي ثبات موقف بلاده تجاه تأييد تطلعات الشعب المصري، فيما أكد نائب وزير الخارجية الروسي استعداد موسكو لتقديم ما تحتاج إليه مصر من مساعدات. وفي زيارة وزير الخارجية المصري، نبيل فهمي، لموسكو في 17 سبتمبر 2013، أعرب عما تكنه القاهرة لموسكو من تقدير في ضوء موقفها الواضح والمنطقي من الأوضاع في مصر والمنطقة، حيث أكدت موسكو ان المصريين قادرون علي تحديد مستقبلهم بأنفسهم بدون تدخل أجنبي، وأن الروس علي استعداد لتقديم جميع أوجه الدعم لمصر لمواجهة الأخطار التي تواجهها. ولا شك في أن الموقف الروسي قد أعاد الدفء إلي العلاقات المصرية - الروسية، وأسهم في تفعيل محور القاهرة - موسكو من جديد، لكن يبقي التساؤل: هل تتجه مصرشرقا؟.
وهناك مستوى ثالث من هذه التفاعلات الإقليمية - الإقليمية، يكمن في حدوث تقارب أمريكي - إيراني، تمثل ذلك في إعلان الرئيس الأمريكي، باراك أوباما -في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة- أن بلاده مستعدة لخوض حوار دبلوماسي مع إيران حول برنامجها النووي، وتجاوز عقود من المقاطعة والعداء، هذا فضلا عن الاتصال الهاتفي الذي جري بين الرئيس الأمريكي ونظيره الإيراني، علي خلفية مشاركة الأخير في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو الأمر الذي لم يحدث علي مستوى العلاقات بين البلدين منذ الثورة الإسلامية في عام 1979، وهو ما عُد تطورا إيجابيا علي صعيد تنامي العلاقات بين الجانبين، مما أحدث إرباكا وحذرا وقلقا في الخليج العربي من هذا التقارب وتأثيره في مصالح هذه الدول وعلاقاتها التحالفية مع الولايات المتحدة. والشيء بالشيء يذكر، فقد بدا أن هناك تقاربا خليجيا - إسرائيليا ربما يظهر قريبا، علي خلفية التقارب الإيراني - الأمريكي، إذ شهدت أروقة الأمم المتحدة لقاءات عدة بين دبلوماسيين إسرائيليين ونظراء لهم من بعض دول الخليج.
وفي سياق هذه التفاعلات، فقد منحت تركيا الصين عقدا بقيمة 4 مليارات دولار لشراء سلاح لتدعيم دفاعها الجوي، وتُعد هذه الصفقة بمثابة ضربة قوية لحلفاء تركيا داخل حلف الناتو، وتحديدا الولايات المتحدة وفرنسا، وذلك علي نحو ما ذكرت صحيفة "لا تريبيون" الفرنسية في 27 سبتمبر 2013. ويبدو أن الخلافات بين تركيا وحلفائها داخل الناتو كانت السبب في اتجاه تركيا لإتمام هذه الصفقة. فتراجع الولايات المتحدة عن توجية ضربة عسكرية للنظام السوري، وتجاهل أوباما لتركيا تماما، أثناء المفاوضات مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حول الأزمة السورية، كل ذلك دفع تركيا لإتمام هذه الصفقة مع الصين.
أما المحور الثالث، فيكمن في التفاعلات الدولية - الدولية. فقد أدي استخدام السلاح الكيميائي في سوريا إلي اهتمام دولي غير مسبوق تجاه الأزمة في سوريا، تمثل في اتجاه الولايات المتحدة لشن ضربة عسكرية ضد نظام بشار الأسد، بتأييد فرنسي، وهو الموقف نفسه الذي عارضته فرنسا إبان الغزو الأمريكي للعراق. وربما كان الموقف الفرنسي الحالي مرجعه تصفية حسابات مع نظام الأسد علي مواقف سابقه له في لبنان.
وقد قابلت روسيا رغبة الرئيس الأمريكي أوباما المترددة بشن العملية العسكرية علي سوريا بمزيد من الحنكة والاهتمام، إذ وصفت طلبه تفويض الكونجرس له بالتدخل العسكري بالتردد في البحث عن مخرج، في ضوء إعلانه السابق بأن استخدام الكيميائي في سوريا بمثابة خط أحمر يستوجب التدخل العسكري، فضلا عن جملة الضغوط الداخلية التي تعيق أوباما عن التدخل العسكري في سوريا. لكن موسكو أوجدت المخرج لواشنطن بطرحها "صفقة الكيميائي" التي بموجبها تحجم واشنطن عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري، علي أن يتخلي الأخير عن أسلحته الكيميائية بحلول منتصف 2014، والانضمام لمنظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية. وقد صدر قرار مجلس الأمن بالإجماع علي ذلك في وقت لاحق بموجب الاتفاق الأمريكي - الروسي.
واللافت في هذا الأمر هو الدور الروسي الفعال الذي نجح في إقناع جميع الأطراف بقبول ذلك، وذلك إنقاذا لحليف روسيا الوحيد في الشرق الأوسط، وآخر موطئ قدم لها علي شاطئ البحر المتوسط، ورغبة منها في منع الضربة العسكرية التي قد تتسب في حدوث انكشاف للموقف الروسي، في حالة تعرض سوريا، الدولة الحليفة لها، للعدوان، في حين تم تجاهل المطالب الإقليمية، ومطالب المعارضة السورية الرامية الي إسقاط النظام عن طريق التدخل العسكري. كما أن التسوية السياسية للأزمة، من خلال الدعوة لمؤتمر جنيف-2، يواجهها العديد من الإشكاليات، منها أن المعارضة منقسمة تجاهه، في حين أن النظام السوري طرح شروطا مسبقة للمشاركة فيه. فهل ستفعلها الدبلوماسية الروسية ثانية، وتجد الحلول المناسبة أمام واشنطن لتسوية الأزمة؟، إن نجحت في ذلك، فهي تصنع لنفسها دورا عالميا جديدا، وتضع إجابة لتساؤل مهم حول دورها في الشرق الأوسط، مفاده: هل الروس قادمون؟.
خلاصة القول إن هناك حالة من التحولات غير مسبوقة في الشرق الأوسط، حيث العلاقات تتبدل، والتحالفات تتغير، ونظم تسقط، وأخري تُهمش، وأعداء الأمس يصبحون، بين عشية أو ضحاها، أصدقاء اليوم. فلا ضابط لهذه التحولات، ولا قاسم مشترك بينها سوي أنها جميعا تحدث في إقليم الشرق الأوسط الذي يعاني حالة سيولة مفرطة، وانفلات متضخم. في ضوء هذه الحالة، نصبح أمام تساؤل كبير بلا إجابة شافية، مفاده: الشرق الأوسط .. إلي أين؟.