كيف يفكر العالم

استغلال التناقضات:|سياسة حركة حماس إزاء التغيرات الإقليمية والدولية

داخلي
طباعة

1 أكتوبر 2013

عرض :محمد مسعد العربي، باحث بمكتبة الإسكندرية

تعد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من أصعب أرقام معادلة الشرق الأوسط التي أثبتت عدم قدرتها على الاستقرار في الآونة الأخيرة برغم التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذه المقالة المطولة، يطرح دانيال بايمان، أستاذ الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون ومدير الأبحاث بمركز سابان بمعهد بروكينجز، رؤية حول طبيعة، ودور الحركة الفلسطينية بين قوى الشرق الأوسط، على خلفية التطورات الإقليمية والدولية الأخيرة.

يقول بايمان إن حماس، التي ظهرت أثناء الانتفاضة الفلسطينية 1988 بقوة خجول وشعبية ضعيفة جعلت الرئيس الراحل ياسر عرفات يستهين بها، استطاعت عقب عقدين أن تستولي على قطاع غزة، وأن تنافس حركة فتح على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. ورغم ما حاق بالحركة منذ ظهورها من اضطهاد واغتيالات لقياداتها وقمع على يد السلطة الفلسطينية وإسرائيل، فقد استطاعت البقاء والاستمرار.ومن ثم، يرى بايمان أن على الولايات المتحدة وإسرائيل والمجتمع الدولي الاعتراف بالحقيقة المرة، وهي أن "حماس في موقع الفائز، وأنه من المتأخر جدًا الحيلولة دون هذا".

ولعبت حماس في ظل السلطة، التي تم إنشاؤها عقب أوسلو 1993، دور الجناح الممانع الرافض للتفاوض مع إسرائيل، بل والرافض لوجودها، وهو ما جعلها هدفًا لعمليات أجهزة الأمن الإسرائيلية. غير أن الانتفاضة الثانية ضاعفت من شعبيتها إلى الحد الذي جعلها تعتقد أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. ورغم موقفها الأصلي، خاضت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وفازت فيها 2006، ودفعها الخلاف مع سلطة فتح في الضفة الغربية إلى الدخول في مواجهة مع الأخيرة في غزة التي استولت عليها في صيف 2007، وهو ما وضع القطاع تحت رحمة الحصار الإسرائيلي بمشاركة مصرية، في ظل نظام مبارك.

ويقول بايمان: رغم هذا، أفادت حماس من أخطاء منافستها، فتح، وغريمتها اللدود، إسرائيل. لقد أصبحت قضية حصار القطاع عنوان مأساة إنسانية أفادت منها حماس لتكسب تعاطفًا دوليًّا وإقليميًّا، وشهد التحالف الدولي الذي يقود الحصار انشقاقًا بفعل ثورات الربيع العربي.

دبلوماسية الإفادة من التناقضات

نسجت حماس علاقة قوية بنظام بشار الأسد في دمشق، ضمنت لها الدعم المالي والعسكري لسنوات، غير أنها اختارت أن تفصم هذه العلاقة مع اندلاع ثورة الشعب السوري ضد الأسد، معلنة انحيازها لثورة الشعب. ومع ذلك، لم تخسر حماس دعم نظام الملالي في طهران، بل وعوضت خسارتها لدمشق بالدعم الذي تلقته من مناوئيها، خاصة من تركيا وقطر، ونظام الإخوان المسلمين الناشئ في القاهرة. لقد أشار آدم شاتز، الصحفي الإسرائيلي، إلى مكاسب حماس قائلاً: إن الثورات العربية لم تنجح في تطبيع العرب علاقتهم بإسرائيل بقدر ما طبعت وضع حماس في العالم العربي. وأوضحت مفاوضات إنهاء المواجهة مع إسرائيل في 2012 ثقل حماس واتجاه واشنطن للتعامل معها، ولو بشكل غير مباشر.

بيد أن تحولات المنطقة السريعة لم تبق وضعًا على حاله، إذ سرعان ما انهار حكم الإخوان في القاهرة، وأغلق الجيش المصري الأنفاق بين غزة وسيناء، وفرض قيودًا على حركة الفلسطينيين، وأنشطة الصيادين منهم في المياه المصرية. كما أدى موقف حماس من نظام الأسد إلى خسارتها معبر السلاح والعتاد إليها، حزب الله، حليف الأسد الوثيق.

ورغم أن طهران أعلنت قطع مساعدتها للقطاع، فإنها لم تقطع علاقتها بحماس، وظهر هذا عقب مواجهة الأخيرة بإسرائيل، يرى بايمان أن طهران لا تضع كل أوراقها في المنطقة العربية رهينة نظام الأسد المتداعي. فهي بحفاظها على علاقتها بحماس تضمن معبرًا إلى العالم العربي. وبدعمها العسكري لها، تحافظ على وجود حماس شوكة في جنب إسرائيل.ومن ثم، دبلوماسيًّا، فإن حماس ربما تعظم منافعها من الأطراف المتناقضة. ففي الوقت الذي حافظت فيه على الدعم العسكري الإيراني لها، فإنها تحصل على مزيد من الشرعية الدولية بدعم حلفاء واشنطن: تركيا وقطر.

الصديق والعدو لإسرائيل

ليست حماس وإسرائيل هذيْن العدويْن اللذين نتصورهما، فالأمر أعقد من هذا التبسيط. أثناء عملية الرصاص المصبوب على القطاع، طالبت أصوات إسرائيلية بالقضاء على حماس، وإحلال فتح مكانها في غزة. ولكن في العملية الأخيرة، لم تسمع في إسرائيل هذه الأصوات، فقد باتت تقبل تل أبيب بحماس، بحسبانها حقيقة مزعجة عليها أن تتعامل معها. وقد تعاملت معها في صفقة الإفراج عن جنديها المختطف، جلعاد شاليط، وإن كان عبر وسيط مصري. إن حاجة إسرائيل لحماس تتزايد مع تصاعد مخاطر الجماعات الجهادية المحيطة بالمنطقة، خاصة تلك الموجودة في سيناء غير المسيطر عليها. وتمثل هذه الجماعات خطرًا على كل من حماس وإسرائيل، وربما سيكون إضعاف حماس في غير صالح إسرائيل في هذا الصدد.

وترى تل أبيب أن قبولها الكامل بحماس يجب أن يكون مرهونا بقدرة الأخيرة على إثبات جدارتها في حكم غزة، وقبولها بعملية السلام. غير أن حماس تستطيع التملص من هذه الضرورات الإسرائيلية، فهي في موضع المحاصر، وليست طرفًا في المفاوضات التي استؤنفت لتوها. وتبقى إسرائيل ضرورة لحماس لكسب التأييد الدولي لوجودها، ولتسجيل النقاط ضد منافسيها الفلسطينيين، فقد أفادت من العدوان الإسرائيلي الدائم على القطاع، خاصة في حربي 2008، 2012، وحققت شعبية بإثباتها أن الداخل الإسرائيلي في مرمى صواريخها قليلة الكفاءة. والأهم أن مفاوضات فك الاشتباك الأخير أمنت لها مكاسب اقتصادية في القطاع.

يتسم خطاب حماس حيال إسرائيل بالازدواجية، فهي تحاول كسب أصوات الممانعين الرافضين لوجود إسرائيل، والمعتدلين القابلين به، فخالد مشعل يعلن الموقفين، حسب جمهوره. ولا تمنع الازدواجية الخطابية من وجود اتجاه داخل حماس يرى أنه بالإمكان الإفادة من التنازلات الإسرائيلية، وتعظيم مزايا التغير الإقليمي في الوقت المناسب، في الوقت الذي تستطيع فيه أن تجعل من حصار المجتمع الدولي وإسرائيل للقطاع ذريعة قوية لاستخدام العنف، ضمانًا لمزيد من التنازلات الإسرائيلية.

صعود حماس وفشل فتح

في الوقت الذي ربما تتقارب المصالح فيه بين حماس وإسرائيل، لا يستطيع محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، وقائد منظمة التحرير، زيارة قطاع غزة الفلسطيني. لقد عملت واشنطن وتل أبيب على خلق حالة صفرية في المشهد الفلسطيني، عقب فوز حماس بالانتخابات التشريعية 2006. لقد صار الاختيار محصورًا بين حماس في غزة، وفتح في القطاع، وألقت السياسة الأمريكية بثقلها، داعمة فتح، وربطت هذا الدعم بالرخاء الاقتصادي، ووفرت لسلطة محمود عباس شرعية دولية لدفع المعتدلين للابتعاد عن حماس وخطها، وتحريك عملية السلام. غير أن هذا الدعم الاقتصادي والأمني لم يلق النجاح المرغوب لدى الشارع الفلسطيني.

يقول إليوت إبرامز، مهندس سياسة إدارة بوش في الشرق الأوسط، إن واشنطن تغاضت عن حجم الفساد والانتهاكات التي مارستها حكومة عباس التي حاولت بناء نجاح اقتصادي على غير أسس. أما حماس، فقد ظلت الأقل فسادًا، ربما لأنها الأحدث عهدًا بالسلطة.واقترن الفشل الاقتصادي بإخفاق سياسي للسلطة المدعومة أمريكيًّا. فقد عبّر سلام فياض نفسه عن هذا الإخفاق بالقول إن قصتنا هي قصة القيادة الفاشلة.وبشكل عام، يرى بايمان أن فتح وما تمثله من إرث أيديولوجي، اليسارية، والقومية، والعلمانية، قد فقدت زخمها لصالح صعود تيار الإسلام السياسي الذي تعبر عنه حماس.

تكمن العثرة الأمريكية الكبرى في فشل مسار المفاوضات. لقد نجحت جهود جون كيري، وزير الخارجية، في اطلاق مباحثات السلام منذ يوليو الماضي. غير أنه من الصعب الوصول إلى صفقة، والأصعب التوصل إلى اتفاق. فحكومة نتنياهو اليمينية غير آبهة بهذا، وتضع العقبات أمام جهود إدارة أوباما. يرى بايمان أن أسوأ ما في منطق إسرائيل التفاوضي هو تركيزه على التنازلات الخطابية. فكل ما يسعى إليه نتنياهو الآن هو نيل اعتراف من السلطة الفلسطينية بيهودية إسرائيل، وكثيرًا ما يردد وزير خارجية إسرائيل، أفيجدور ليبرمان، أن الفلسطينيين لن يستحقوا دولة، إلا إذا وصل نصيب الفرد من الناتج الإجمالي إلى 10 آلاف دولار، وعرفوا فولتير وروسو في مدارسهم، وهو منطق عبثي كما يراه مارتن إنديك، المفاوض الأمريكي في المسار التفاوضي الحالي.

وبعيدًا عن الخطابية الإسرائيلية، فإن بايمان يرى أن المفتاح الرئيسي في المفاوضات هو الأمن، وهنا يسجل إخفاقًا آخر للإدارة الأمريكية. فرعايتها للأجهزة الأمنية الفلسطينية لم تسفر عن رفع كفاءتها وتعزيز أمن إسرائيل، بل أصبح من الواضح أن هذه القوات الشرطية رهينة العملية السياسية. وفشل المفاوضات يدفعها أكثر نحو انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني. وقد اختار جزء كبير منها أثناء الانتفاضة الثانية الاشتراك في الاشتباك مع القوات الإسرائيلية مع بقية الفصائل، بعد أن تعاونت لسنوات مع إسرائيل في قمع حماس والمقاومة، هذا التعاون الذي يشار إليه في الشارع الفلسطيني على أنه تواطؤ مع العدو. ويستخلص بايمان من مجمل هذا الاستعراض أن جهود عباس في محاولة الحصول على دولة فلسطينية من خلال المفاوضات قد باءت بالفشل الذي يجعل حماس بديلاً بلا منافس أمام الشارع الفلسطيني.

لقد استغلت حماس فشل المجتمع الدولي وإسرائيل في دعم المعتدلين الفلسطينيين، فأثبتت أنها الأكثر تعبيرًا عن الصوت الفلسطيني. لقد حصلت على مكاسب من خلال العنف، وهو ما لم يحصل عليه عباس من خلال المفاوضات، وهذا ما أصبح الفلسطينيون يعتقدونه، كما أوضح استطلاع للرأي أجري عقب عدوان 2012؛ وفيه رأى 60% من المستطلعة آراؤهم أن طريقة حماس أجدى في إنهاء الاحتلال، فيما لم يحصل مسار عباس على 28% من الأصوات.الأهم من هذا، يرى الكاتب أن حماس رغم الحصار استطاعت أن تبني دولة في القطاع، وأن تحول جزءًا كبيرًا من ميليشياتها إلى قوات أمن نظامية، وهي أمور تمثل عناصر نجاح للشعب الذي يبحث عن دولته.

دلالات صعود حماس

يقول بايمان إنه في ظل فشل فتح ومحمود عباس، فعلى واشنطن أن تعرف أن حماس قد وجدت لتبقى، وأنه لا سبيل إلا التعامل معها، رغم رجعيتها وقمعيتها، ولن يزيد هذا من فشل التيار المعتدل شيئًا. وقد يكون تخوف تل أبيب من قدرة حماس على الاستيلاء على القطاع مستقبلاً أمرًا قابلاً للتحقق، غير أن سياساتها في القطاع تساعد على تحقيق هذا، ولن يفضي مزيد من الدعم الأمريكي لفساد السلطة في رام الله إلا إلى الإسراع بحدوث هذا.

ومن ثم، يصبح البديل أمام واشنطن هو إثناء حماس ودفعها بعيدًا عن "العنف" الذي تمارسه وترفع شعاراته، وفقًا لمبادئ الرباعية الدولية، وهي "الاعتراف بإسرائيل، والالتزام بالاتفاقيات السابقة، ونبذ العنف". يؤكد بايمان أن نبذ العنف يجب أن يكون أولوية استراتيجية في تعامل واشنطن مع حماس، و يجب ألا تقدم على الاعتراف بها، ما لم تتخل عن العنف كليًّا. وتستلزم هذه الاستراتيجة دفع حلفاء واشنطن في المنطقة، خاصة قطر وتركيا، بما تمتلكانه من علاقة قوية بحماس، نحو هذا الاتجاه، ودفعها بعيدًا عن طهران، وخلق شرعية قبول لها في العالمين العربي والإسلامي.

يجب أن يكون لمصر دورٌ محوري في هذا الصدد، غير أن التغيير الذي جلبته أحداث يونيو ويوليو الماضييْن جعلت هذا الدور أكثر غموضًا. فحتى تحت حكم الإخوان، حلفاء حماس الأيديولوجيين والتنظيميين، لم تدعم القاهرة عنف حماس، واستمرت في تعاونها مع تل أبيب، وضيقت على حركة الأنفاق بين سيناء وغزة، وأغرقت بعضها. ويبدو أن مصر ستستمر تحت قيادة النظام الجديد بعد 30 يونيو في التركيز على ترتيب البيت داخليًّا، ولكن تستطيع واشنطن الاستفادة من التغيير الحادث في مصر بالضغط على الحكومة المصرية لتدفع حماس نحو الابتعاد عن العنف.

تستطيع واشنطن أيضًا أن تقايض حماس على صعودها الدبلوماسي، بجعلها تدفع ثمن قبولها في المجتمع الدولي بتخليها عن العنف، ونموذج المقاومة الذي تمثله، وعلى إسرائيل أن تقابل هذا بتعزيز قدرة حماس على حكم القطاع، في الوقت الذي تعزز فيه قدرتها على ردع صواريخها.ويختتم بايمان مقالته قائلاً: إن محاولة واشنطن تغيير سياسة حماس تزداد أهميتها في ظل فشل الرهان على المعتدلين، وكون حماس لا تزال قوة قادرة على إيقاف عملية السلام. وربما إذا استطاعت إنجاز اتفاقية سلمية مرضية، فإنها تستطيع أن تسحب البساط من تحت أقدام حماس، وألا تجعل منها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.

طباعة

تعريف الكاتب

دانيال بايمان

دانيال بايمان

خبير في برنامج الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون